انسحب الجيش السوري من لبنان، لكن لن تنسحب سورية منه. قرار انهاء الوجود العسكري السوري دولي. عوامل استمرار المعطى السوري في لبنان داخلية، سياسة واجتماعاً، وجغرافية، مع ما للجغرافيا من قوة الحضور في كل مكان سياسي، وفي كل قرار بعيد المدى. يطرح الانسحاب على بساط البحث كتابة تاريخ الشكل الأخير من التدخل الميداني، ويفترض استحضار كل شؤون العلاقة التاريخية، في ماضيها وحاضرها، بين البلدين"المتكاملين"، لبنان وسورية. وعي العلاقة في تاريخها له محطات اندماج، ومفاصل افتراق، ونوازع استقلال، ومعارك مشتركة. التفصيل في هذا المجال اكثر من ضروري، إذ لا يمكن إطلاق حكم مختصر على تاريخ طويل، ولا يمكن انتقاء حقبة بعينها لتعميم سلبياتها، او ايجابياتها على كل الحقبات الأخرى. في مجال الكتابة التاريخية، ثمة موضوعية مطلوبة، لا يبدو ان الوضع اللبناني مؤهل لها الآن، ف"الجرح"ما زال نازفاً لدى شرائع لبنانية واسعة، والترقب القلق عنوان آخر ل"جراح"فئات لبنانية وازنة اخرى. لكن"الدم الحار"لا يستطيع ان يظل حائلاً بين الموضوع وقراءته، بل لا بد من"دم بارد"يتقدم للإمساك بشريان التحليل، خصوصاً ان الموضوع السوري - اللبناني, قضية مستقبلية، مثلما هو، شأن ماض وحاضر. تحديد نقطة انطلاق"البحث"مهمة ودالة وهادية في مسلك التعليل والتأويل السياسيين. سؤال ما خطة سورية، او النظام الممسك بزمام السلطة فيها، حيال لبنان هو سؤال مفصلي. سادت آراء كثيرة قبيل الانسحاب القتالي والاستخباراتي السوري، كانت تضليلية في حينها، وصار من الضروري اسقاطها من المفكرة السجالية الآن آراء من نوع: لا هدف لسورية في لبنان... حصل التدخل لإيقاف الحرب الأهلية اللبنانية... لا تدخل لسورية في الشأن اللبناني، بل ان اللبنانيين يدخلونها دائماً في شؤون يومياتهم... الخ. هكذا عينة من الآراء وغيرها، يجب ان تخلي المكان لنقاش هادئ لنوع الخطة السورية في لبنان، ولمكانها في السياسة الإقليمية والدولية لدى المخطط السوري، ولموقعها في قلب معادلة النظام، ولرؤيته لعوامل قوته، ولطريقته في صناعة اسباب نفوذه... الخ. لم تأت سورية الى لبنان لتقدم خدمة مجانية للبنانيين، هذا ليس من علم السياسة، وليس من"اخلاقها"ايضاً. اتت سورية لأسبابها الخاصة اولاً, لذلك من الحكمة الوقوف الواضح على هذه الأسباب لتحديد شكل المراجعة المطلوبة في السياسة الإقليمية، وللتأسيس لقاعدة سياسية مغايرة للعلاقات التي لا مفر منها بين البلدين المحكومين بأن يظلا شقيقين. خطة سورية في لبنان بند في معادلة العلاقة اللبنانية - السورية، اما البند الآخر، فهو"خطة"اللبنانيين في التأسيس على هذه الخطة. الخط السياسي اللبناني في هذا المجال شديد التعرج، اما صعوده وهبوطه فمتناسبان مع تبدل الفئات الداخلية التي تنقلت بين تحالف مع سورية وانقلاب عليها. في هذا السياق، من الصعوبة بمكان العثور على فئة"خالصة الولاء"او على فئة اخرى ثابتة في"خط العداء". الصحيح ان الولاء - العداء، ظل متداخلاً، تشوبه مضمرات، وتتخلله تقطعات، لكن"العداء"بحد ذاته، لم يكن مطلوباً من احد، فيما ظل"الولاء"طموحاً لكل راغب في اقتسام الغنم المحلي. هذا ما يجد ترجمته اللبنانية في"مقولة الاستقواء"بالخارج التي لا يجد اللبنانيون عادة حرجاً في اللجوء إليها. الشواهد كثيرة والمسميات كذلك، لكن فعل الاستقواء يظل ذاته، سواء كان على خلفية تحليل قومي، او بالاستناد الى"انتساب ديموقراطي دولي"او من باب"الاستعانة بالشيطان"، عندما يحدق الخطر"المصيري"بموقع طائفة لبنانية, او بوجود"تحالف طوائفي"اوسع. نوع الربط اللبناني مع كل عامل خارجي، يدفع الى التدقيق في المقولات التي تنسبها"القوى"المتقلبة لذاتها من نوع"الاستقلال الناجز، والعنفوان اللبناني، وانتفاضة الحرية..."، كذلك يحمل على التمحيص في إعلانات القلق المتنقل الذي يسود في متون خطب قوى اخرى، تجعل من"العلاقة الأخوية، والبعد القومي، ومعركة العروبة..."جزءاً من حصاناتها، في مواجهة ميزان الداخل المتبدل. امام هذه اللوحة، لا يجدي تبادل التهم الداخلية، بمسميات الالتحاق والإذعان، كما لا يجدي التحذير من"فعل المؤامرة"والمساهمة في تمرير"المخططات الدولية". اثبت الوضع اللبناني ان"لا ثوابت وطنية"في هذا المجال، على رغم صخب الكلام حول"الثوابت البديهية"، والتشبث بها. تسليط الضوء كفاية على"احكام الداخل اللبناني"، حاسم في فهم مدلولات"التمكين للخارج"، فهذا الأخير لا يقرأ إلا في تعرجات الداخل، وفي استبطانه له. الداخل والخارج العربي خصوصاً مندمجان مثلما هما متمايزان، رؤيتهما في صعيديهما الخاص مهمة، والأهم رؤيتهما في لحظة تبادل اندماجهما وتفاعلهما. هذا السلوك في النظر، يعيد توزيع المسؤوليات السياسية في شكل منصف، ويحدد موضوعياً حدود"الداخل"وقواهر الخارج، ويعين على فهم اندفاعة"الغريب"، مثلما يساعد على فهم تسهيلات"اهل الدار". لا بد من مراجعة اذاً، لكن من يقدم عليها؟ المشرف على بنية الخطة السورية في لبنان، غير قادر على هذه المراجعة، لأن"الشرح"في هذا المعرض يطول. العودة الى الدروس اللبنانيةسورياً، يضع المخطط امام"الأسئلة"التي طرحها المخطط على نفسه لبنانياً. والذهاب الى لبنان يقتضي العودة الى سورية والعكس صحيح تماماً. يبدأ سؤال لماذا؟ من سورية اولاً, وهذا يتفرع ليعيد التساؤل حول"بنية"السياسة السورية في سورية ايضاً. المراجعة للتجربة في لبنان، منطلقها مراجعة التجربة في سورية، وعلى الخلاصات المستفادة سيتوقف الكثير من"جوانية"العلاقة وصحتها مع لبنان. قيل دائماً"لبنان معافى هو قوة لسورية"ويجب ان يقال بالمثل ان"سورية معافاة هي قوة للبنان". ينطبق ذلك على"عافية"الوطن العربي عموماً ايضاً. في المقابل، لا تبدو المراجعة ميسورة لدى اهل السياسة في لبنان، بل هي متعذرة لدى الطبقة السياسية التي آلت إليها الأحكام بعد اتفاق الطائف. الشواهد على عقم الطبقة السياسية هذه، موجودة في قلب ممارستها منذ عقد ونصف من الأعوام. خلال تلك السنين الطويلة، رددت"الطبقة"ببغاوياً مقولات جافة، لم ترش قطرة"ندى"على تربة"القومية والعروبة". ورتبت الطبقة إياها"إلحاقاً"كاملاً للوضع السياسي اللبناني بخطة غيرها، مكتفية"بغنم"الوكيل المتابع للشؤون اليومية، كذلك فهي لم تضع وفاقاً ولم تقم اقتصاداً وأمعنت في إضعاف الداخل وساهمت في مفاقمة كشفه امام"طوارئ"لا تقع تحت سيطرته... الخ. تلك الطبقة، بمختلف تعبيراتها، وعلى اختلاف مواقع الفرقاء فيها حكماً ومعارضات، لا تحسن سوى مراجعة دفاتر حساباتها، لترى من أي مصدر يتأتى حفظ"رصيدها"هذا قبل ان تعاود مسيرة ضخ"المغانم"إليه. الوضع السياسي"الأهلي"لا يبدو اقل عجزاً واختلاطاً من الرسمي. بل ان انقسامه جلي ولا يمكن القفز فوق معاني الافتراق فيه. بعض"السياسة الأهلية"يتصرف، راهناً، بطريقة ثأرية لبنانية. الأسلحة في هذا المجال ذاكرة ما زالت مريضة، وشعارات لم يعفُ عليها الزمن، وطموح الى استناح فرصة، لاستئناف وهم، او متابعة مسار مستحيل، لا فرق. لا يجد"بعض"هذه السياسة حرجاً في ادعاء النطق باسم اللبنانيين جميعاً، وباسم لبنان الوطن ايضاً. الصحيح، انه نطق من لبنان، ومن بعض الوطن، تفهم دواعيه، لكن لا تستساغ مبرراته، او توضع، على الأقل، موضع السجال والنقاش. بعض السياسة الأهلية الأخرى يتصرف استدراكاً، ولا يقدم على السياسة"ابتكارا"واجتراح حلول. اسلحة هذا البعض مخاطبة الذات"بشرح المؤامرة"، وتحديد اهداف بهت لونها القومي عند اهلها، وافتراض دور للبنان، تبدلت معطياته في المحيط العربي عموماً، وطلب ضمانات، مداورة، بدل التقدم ببنود"دفتر"التطمينات مباشرة، وبطرائق توثيقها... الانقسام في الجانبين حقيقي، وهو استمرار لانشقاق تاريخي حول مختلف التعبيرات والمصطلحات اللبنانية، اما تجدده الآن، فمنطقي بعد ان زال سقف"التوحد القسري"حول المهمات المصيرية اللبنانية، وبعد ان عاد الوضع اللبناني الى الإدلاء بمخزون موروثاته. يفترض القادم السياسي على لبنان فحصاً لصدقية جملة من الشعارات. ماذا مثلاً عن العروبة الحضارية التي نادى بها بعض المعترضين في مواجهة النسخة العروبية السورية؟ أي ما ترجمتها الحضارية اللبنانية؟ وما قيمها ومناهجها الواضحة؟ وماذا مثلاً عن"وحدة المسار والمصير"بعد ان صار الخيار هذا فعلاً طوعياً لبنانياً؟ أي كيف تترجم المصلحة الوطنية اللبنانية، بالارتباط مع مصير"الجار العربي الأقرب؟ وما نسبة"الدجل السياسي"في هذا الشعار؟ وما منسوب الصدق فيه؟ اما حماية المقاومة وسلاحها، وتاريخ الصراع الدامي مع اسرائيل، فأمور غير مرشحة لأن تسلك سبيلها الى رحاب المراجعة الجادة، اذ من يضمن في الظرف الجديد، ان يظل تعريف المقاومة هو إياه: ومن يأخذ على عاتقه التوافق حول الوصف الحقيقي لمراحل الصراع مع اسرائيل؟ ألا نذكر ان البعض ما زال يعتبر قتال بعض الميليشيات الى جانب اسرائيل فعل دفاع عن النفس؟ مما قد يرتب مثلاً، تكريم بعض قادة ذلك الدفاع"بما يليق بالأبطال الوطنيين"!!؟ كاتب لبناني.