يشبه لبنان الانتخابي اليوم أقرانه في كثير من دول الاستبداد وأنظمة الحكم القبلية والعشائرية. ظهور اللبنانيين على هذه الشاكلة صحي، ففي المشهد ما يحطم ادعاءات"الأسبقية"الديموقراطية، وما يعطّل ضوء"المنارة"اللبنانية المدّعاة. أوجه الشبه، وصلات القربى كثيرة، لكن أهمها على الاطلاق هو اللااستقرار الذي يرافق كل موسم انتخابي، والانغلاق على أي تعديلات ضمن بنية النظام المعتمد، والحؤول الجازم دون وصول أي فئات اجتماعية جديدة الى منابر التمثيل السياسي الوطني العام. أقدم النظام اللبناني على المغامرة بمصير الوطن، في كل مرة استشعر فيها أربابه والقيمون عليه تعديلاً اجتماعياً متقدماً على بنية التوازنات الطائفية التي شكلت الأساس في نشوء"الكيان". بذلك، ظلّت الطائفية حارساً أميناً للتوازن الداخلي الهش، مثلما ظلّ الحفاظ على"الحصص"ممراً لكل استقواء بالخارج، على اختلاف"مستدرجي"، هذا الخارج أو ذاك، الى التدخل في الشأن اللبناني. يعتقد"المبادرون"الطائفيون في لبنان اليوم بإمكانية تبديل المعادلة الداخلية اللبنانية، بعد أن"تحرّر"البلد من الاقامة العسكرية السورية فيه، وبعض من هؤلاء"المبادرين"ذهب الى حدّ الاعتقاد بإمكان الاطاحة بأسس المعادلة التي أرساها اتفاق الطائف، في ظروف دولية وعربية ولبنانية معروفة. من حق بعض"المسيحية السياسية"المجاهرة برفض الغبن أن تلح على مطلبها هذا، لكن ليس في قدرتها احداث ذلك بقواها الذاتية الحالية. لذلك، من الخطأ أن يعتقد بعض هذه"المسيحية"بامكان تدخل خارجي حاسم على هذا الصعيد، مواز لقوة وزخم التدخل في مناوأة الوجود العسكري السوري. يظل الخارج في مواجهة الخارج عندنا حتى اشعار آخر، أما النيابة عن الداخل في خوض معركة تعديل موازين القوى، فلها شأن آخر، وتدبير مختلف، وتحالفات متبدلة. لعل وهم الاستقواء بالهجمة الخارجية، من دون تقدير لضوابطها، هو ما يجعل البعض من اللبنانيين يذهب في مطالبه الى الحد الأقصى. تقتضي نقطة العلاقة ب"الوضع الدولي"وقفة سريعة، وذلك لتيسير مقاربتها، من منظار الطوائف اللبنانية المتعددة، وليس من منظار فئة أهلية لبنانية بعينها. وتقتضي الواقعية القول ان العلاقة بالولايات المتحدة وسياستها، أو بالديبلوماسية الفرنسية ومصالحها، ليست حكراً على طائفة لبنانية واحدة. فلكل طائفة"ديبلوماسيتها"ويخطئ من يظن، في معرض معاينته للواقع اللبناني، أن ثمة قسمة عمل بين اللبنانيين، تجعل بعضهم في موقع معاداة الغرب على طول الخط، وتحلّ الآخر في موقع الصداقة والرعاية، من قبل"الامبريالية"و"الاستعمار"الغربيينّ. ولعل الأدق أن"الطوائف"في سعيها الى ادامة امتيازاتها، والى حفظ مقومات"قوتها"لا تتوقف عند خطوط سياسية"حمراء". ولعل الأقرب الى"البراغماتية"الغربية، هو ان الديبلوماسيات الدولية تربط خيلها دائماً في"ميدان"الأكثريات، وكثيراً ما تتوسل"أحصنة الأقليات"للدخول الى هذا الميدانّ... هذا للقول أنه لا ضرورة للاعتقاد بأن ثمة طائفة محشورة في لبنان الآن، تحت وطأة العامل الدولي، وبالتالي يسهل سوقها الى"بيت الطاعة"، وبأن ثمة"سياسة دولية"يؤرقها غبن طائفة أخرى، فلا يغمض لها جفن قبل الاطمئنان الى حسن التدابير الآيلة الى اسقاط الحيف اللاحق بها. ويقدم الوطن العربي أمثلة كثيرة ذات دلالة في هذا المضمار، ولا ضرورة للاعتقاد بأن لبنان سيكون مثالاً شاذاً، اذا ارتأت بعض"الطوائف القومية"أن من مصلحتها رد الهيمنة المركبة من الداخل والخارج بالاكتفاء بممارسة حياتها في ظلّ"هيمنة واحدة"، هي الخارجية، اذا عزّ التوافق على الاتزان في الداخل. تلك هي اللوحة الصادقة، حتى لا يدخل الكلام في تكاذب الانصهار الوطني، ولا في فولكلور وحدة اللبنانيين. لقد سقط الادعاء، ويسقط يومياً, في وسائل الكلام المباح، وفي جلسات الكلام الخبيء أيضاً. بالعودة الى الحديث عن قوانين الانتخاب، النيابية، نجد مصداقاً لذلك. رفض العمل بقانون العام 2000 هو رفض"لتفوق طائفي"بعينه، والتمسك به هو سعي الى ادامة"امتياز أكثري"يرى أهله أنهم خليقون به. لا علاقة لكل"الانشاء الوطني"في مقولتي التبرير أو الرفض لقانون الانتخاب المذكور. المطالبة بالعودة الى قانون العام 1960، ارتكاس يعلن فشل مقولة الاختلاط المجتمعي. توسيع الدوائر الانتخابية، صار مآله الى الهيمنة السياسية، واعادة تقزيم مساحة الدوائر، عودة الى حضن"الافتراق"المطمئن. فشل التدبير الوطني العام، الذي رمى اليه اعتماد المحافظات في اتفاق الطائف، يعالج بالعودة الى نثر التدبير على"الخصوصيات"بحيث تستقل كل طائفة بشأنها، وفق ما يتيحه قانون العمل بالقضاء كدائرة انتخابية واحدة. هكذا يمنع اللبنانيون"المتنوعون طائفياً"من اختيار ممثليهم، المختلفين سياسياً، وبذلك يتكرس دائماً الانفصام بين المستوى السياسي الوطني الذي يجب أن يصير جامعاً، والمستوى القاعدي الذي لا يستطيع إلا أن يتحرك مفترقاً، وعليه تظل"الهوية السياسية"هويتين، وكل تعريف، لأية مسألة، تعريفين، والتطابق، أو التماهي، مزدوجاً في كل المجالات. من حق كل"مواطن لبناني"أن يسأل في ازاء ذلك: أين التداخل المرتجى بين اللبنانيين، وإلام الحظر على محاولات الخروج على الاصطفاف الطائفي الذي يشد الخناق على البلد؟ الاجابة ليست في متناول الطوائف، وهي غير موجودة لديها، وتعمية"الطوائفيين"من خلال خطبهم الوطنية لا تقدم البحث قيد أنملة. جلّ ما يمكن قوله، أن"الطائفية"لا تحفر قبرها الديموقراطي بيديها... لكن خارج الأسوار الطائفية العالية، ثمة دبيب آخر، يلزمه الكثير كي يصير الى حراك مستقبلي، مدخله الى ذلك، اعادة قراءة بنيوية للوحة الكيانية والسياسية اللبنانية، واستحضار لأهم دروس الماضي اللبناني القريب، في لحظات استقراره وفي أيام انفجاره... هذان الأمران مطلوبان, بإلحاح، من قوى أخرى تعلن صلة نسب بما هو عابر للطوائف والمناطق، وتزعم أنها تخاطب المستقبل الوطني الواعد والآمن، سياسياً واجتماعياً، لكنها لم تستطع حتى الآن أن تجد مفتاحاً يعين على فتح باب المراجعة لأسباب أزماتها السياسية المؤيدة. في هذه الأثناء، تشهد الساحة السياسية، ضجة"تحركات"وتلحظ اجتماع وانفراط حلقات، يحرك معظم اللاعبين في جنباتها، طموح الى المشاركة في"اللعبة"السياسية السائدة، وحتى تحت سقف أحكامها. المختلف لدى هؤلاء، نمط الكلام، المستند الى افتراض، قاعدة شعبية مغايرة، ضمن الطائفة نفسها وفوق أرضها وبين جمهورها، أو المتكئ على سيرة ذاتية ما، ديموقراطية - يسارية سابقة. في الحالتين لا تعبر الوقائع سوى عن أحلام أصحاب خيبات، سئموا الانتظار طويلاً في الظل، فركبوا الاحتجاج مع من ركب، فافتعلوا جسور تلاق"ديموقراطية"مع طوائف أخرى، بعد أن ضاقت بهم طائفتهم"الاستبدادية"أو بعد أن تفرّق شمل"عشائرهم اليسارية". فارتضوا من الغنيمة، صورة سياسية بلا ملمح، أو صوتاً في منتدى، بلا معنى، أو مقعداً في مجلس، بلا دلالة اجتماعية. * كاتب لبناني.