كان خطاب الرئيس بشار الأسد ضرورياً للإضاءة على الوجهة السياسية العامة لبلاده، ولوضع حد للاجتهادات المتباينة حول الدروس المستفادة لبنانياً، وحول الخلاصات والاستنتاجات التي يدفع إليها الوضع الدولي العام... قطع"النص الرئاسي"الشك باليقين، ووضع حداً للتأويلات لأنه"لا اجتهاد في مقام النص"، خصوصاً اذا كان جلياً وبادي الوضوح. تحديدات الرئيس الأسد، لا تحتمل المطولات، لذلك من الأجدى مناقشتها على ارضية اسلوبها ومقابلة صفائها بصفاء مماثل. لا ضرورة لتبيان هدف الاستعراض الشامل لپ"واقع الأمة"، او التدقيق في محتوى"الصرخة القومية"او التذكير بالأسباب الموجبة لپ"معاقبة سورية"من قبل المجتمع الدولي، أو للوقوف امام جردة"الصفقات"التي عرضت على النظام، فرفضها بدافع"المصلحة الوطنية العربية العليا". عدم الضرورة نابع من ان"السمع العربي"اعتاد كل مقومات الخطاب هذا، وتعامل معها باستمرار على انها خروج من"ساحة اللعب"المطلوبة، وهي ساحة داخلية. ببساطة لقد اعتاش النظام العربي العام، ومنه النظام السوري، على إقصاء"الداخل"غالباً، وعلى الانشغال بالساحات الخارجية، التي وظفت النجاحات فيها، على وجه العموم، لإدانة التشدد الداخلي وللقفز فوق حاجاته. عمد الرئيس السوري الى"استثارة وجدان"شعبه في استحضار لپ"قوة الداخل"الذي تتكاثر الأسئلة حول عناصر القوة الحقيقية فيه، وحول الطريقة المثلى لتوظيفها. لنقل ان هذا شأن داخلي، يترك امر معالجته للشعب السوري ولمثقفيه، ولنخبه عموماً، وذلك عملاً بالقول المأثور:"اهل مكة ادرى بشعابها". لكن ليسجل مسبقاً، للنخبة الوطنية السورية"فضل ووعي عدم الانسياق الى"أكاذيب الديموقراطية الأميركية", وفضل المرابطة على حدود المصلحة الوطنية اولاً، مع رفع الصوت بالاعتراض على النظام وفق وتائر مختلفة. بالانتقال الى لبنان، لا يخفى ان خطاب الرئيس الأسد كان"لبنانياً"، لذلك بدت الأمور الأخرى المثارة وكأنها حواش ضرورية، لمقاربة الموضوع الأساس. اول ما يطالع المتابع للخطاب هو عدم استعداد النظام السوري لإجراء اي مراجعة حول سياسته السابقة حيال لبنان، بل ان ما يقلق هو اعلان التحضير لصد"المؤامرات"التي عاد"الجار الصغير"ليشكل"ممراً لها وممولاً". تغيب المراجعة السياسية السورية في بند اساسي منها هنا، الذي هو سياسة"استعمال الأوراق". وعلى هذه الخلفية يفهم الضيق والتبرم السوريان اللذان تسبب بهما الخروج من لبنان. لقد كان هذا"البلد"نقطة ضعف السوريين"الدولية"، حين ساد الاعتقاد انه نقطة استقوائهم الأهم. وعلى سبيل الدقة، انتقل"ثقل التوظيف اللبناني"وخفّ مردود استثماره، بعد جملة من التطورات الداخلية والدولية، كان من نتائجها الأهم: تبدل السياق السياسي للدخول السوري الى لبنان. التذكير بوضوح مفيد في هذا المفصل: لقد دخل السوريون الى لبنان بموافقة ورعاية دوليتين، وفي إطار سياسة متفق عليها سلفاً، فلما تبدلت السياسات والأوضاع سحب"شكل"الموافقة السابق، وصار الأمر يتطلب"وثيقة تفاهم"مغايرة. وضوح آخر مطلوب، يتعلق بالكف عن ترداد مفهوم النجدة، وعن استنكار"نكران الجميل اللبناني"والعودة الى جادة السياسة التي تناقش فوق ارضها مصالح البلدين اللذين يجب ان يظلا شقيقين، وأن يكونا مستقلين، وحرين وسيدين، كل في إطار تطوره التاريخي، الذي يجب ألا يسقط على الآخر، لا بعبارات قومية، ولا"بتكامل"قسري، ولا باصطناع توحد فوقي، أي خارج كل المقولات التي رددها"سياسيو الوصاية"الذين ساهم الوجود السوري في اختراعهم باتقان! احدث الخطاب الرئاسي السوري شرخاً لبنانياً بلجوئه الى التصنيف، فوزع اللبنانيين بين"قوى وطنيةً وپ"تجار دم". خطورة التصنيف انها تقع على حقائق لبنانية اهلية، ما زالت تصارع لاشتقاق"قواسمها المشتركة"، وهذا يتناقض مع قول الرئيس الأسد انه معني باستقرار لبنان ووحدته، ذلك ان كل ما يخاطب الانقسام الأهلي ويغذيه وينفخ فيه ويعلن التحالف مع قسم منه، او مع بعض فرقائه، من شأنه ان يزعزع"التوافقات الداخلية"الأولية الهشة التي لم يتجاوز اللبنانيون عتباتها إلا قليلاً. من المهم في هذا المقام الإشارة الى ان بعض اصحاب التاريخ"غير المشرق"الذين اشار إليهم الرئيس السوري، لم يكونوا كذلك عندما"هللوا للتعاون والتنسيق مع سورية"، وأن الذين قاوموا الاحتلال الإسرائيلي وصمدوا في بيروت، ومعهم الجيش السوري والمقاومة الفلسطينية، أبعدوا وهمشوا وطوردوا احياناً، لأن نظرتهم الى طبيعة العلاقة اللبنانية - السورية، وتقديرهم لمعنى عروبة لبنان الداخلية، لم تتفق مع"وصفة العلاقة"السورية الجاهزة! ومع ذلك، فإن الاسترجاع لبعض من التاريخ اللبناني، من شأنه اعادة الاعتبار الى انقسامات لبنانية، يريد اللبنانيون بغالبيتهم مغادرتها فعلاً، وإن كانت ادارة"المغادرة"ما زالت خاطئة، ومسالكها مسدودة بحواجز الطوائف، التي جاء الخطاب ليخاطب بعضها تحت شعار الوطنية والعروبة، ويسفه بعضها الآخر بنعوت تكاد تكون مضادة لمسميات العروبة والقومية. لا شك في ان التدويل له أهدافه الخاصة، ولا خلاف في ان الدول الكبرى تختلق احياناً أعذارها، لكن المسألة تكمن في مكان آخر، يحتله سؤال مهم جداً هو: كيف نمنع الاقتصاص الظالم؟ وبالتالي: ما نقاط الارتكاز التي يمكن الاستناد إليها في ادارة معركة وطنية ناجحة؟ من موقع لبناني، نعتقد انه بات لزاماً على النظام في سورية الاستدارة نحو داخله للتصالح معه، وليس لنا ان نقول كيف، لكن باستطاعتنا ان نلاحظ ان خطاب الرئيس الأسد، قد أقفل على"المبادرات"او جعلها شديدة العسر، في احسن الأحوال. كذلك نعتقد ان لبنان القوي الذي"تحتاجه سورية"يبدأ من تحريره من ثقل"الأوصاف"والاعتراف بقدرة ابنائه على اشتقاق صيغة عروبتهم الداخلية وعلى تلمس مصالحهم الأكيدة في انتمائهم الى محيطهم العربي، وفي هذا المجال، لا بد من اضافة عربية، قد تستطيعها سورية، اذا تقدمت بمراجعتها الخاصة لسياستها اللبنانية، التي اقامت طويلاً في مفاصل الحياة الداخلية. انطلاقاً من الأمرين، يصير يسيراً البحث في واجبات كل بلد عربي حيال شقيقه، وبالتحديد، في الواجبات السورية واللبنانية المتبادلة، لتأمين الصمود المجدي في وجه مخاطر"التدويل"... اذا كان المطلوب حقاً مواجهته. كاتب لبناني.