"رواية بيروت" للكاتب اللبناني بالفرنسية الكسندر نجار، صدرت في مرحلة تلائمها تماماً، سياسياً وتاريخياً وثقافياً. فالرواية التي تنطلق من ساحة البرج وتنتهي فيها من خلال النظرة الاخيرة التي يلقيها الراوي العجوز عليها وكأنه يودعها، تستعيد التاريخ اللبناني في أبعاده العربية والدولية عبر تاريخ بيروت نفسها، هذه المدينة التي تجتاز اليوم مرحلة جديدة تعبر عنها ساحة البرج في ما تشهد من اعتصامات وتظاهرات وحملات وطنية. وبدت رواية نجار الجديدة الصادرة في باريس دار بلون أشبه بالشهادة على قدر هذه المدينة، الذي تختلط فيه التراجيديا والملحمة، السياسة والتاريخ، اللعنة والنعمة. ولم تكن عودة نجار الى تاريخ بيروت الا استعادة للماضي على ضوء الحاضر، في هذه اللحظة التاريخية الحرجة التي كما يعبر جورج لوكاش، تحتم الرجوع الى الماضي واعادة قراءته بغية الافادة من امثولته. الا ان نجار يعود الى التاريخ روائياً، جامعاً بين البعد التوثيقي او التأريخي والنزعة الروائية - التخييلية، مؤدياً في الحين نفسه دور المؤرخ الامين على الوثائق والوقائع ودور الروائي الذي يعيد كتابة التاريخ وكأنه مادة سردية بامتياز. في الصفحات الاخيرة من الرواية يورد نجار اسماء المصادر والمراجع التي اعتمدها وهي كثيرة جداً وشاملة، وفي مقدمها كتاب سمير قصير البديع"تاريخ بيروت"2003 وكتاب"البرج، ساحة الحرية وبوابة المشرق"الذي وضعه غسان تويني وفارس ساسين. هذه المصادر والمراجع تؤكد الجهد الذي بذله نجار من اجل الاحاطة بالمادة التاريخية التي عمل عليها وقد تخطت التاريخ السياسي لتشمل ايضاً التاريخ الاجتماعي والثقافي والشعبي. ويمكن وصف الفعل التأريخي هنا، المتواري خلف العمل الروائي بالتأريخ الشامل الذي يسعى الى رسم جدارية تمثل ماضي بيروتولبنان في كل ما يضم من احداث وعادات ووجوه... هكذا يختار ألكسندر نجار راوياً يلقي عليه تبعة السرد، جاعلاً منه بطلاً رئيساً لا لكونه صاحب الحكايات والوقائع و"اليوميات"و"الملفات"التي فتحها، بل لأنه يستحيل خلال ما يروي، شخصية روائية ذات ملامح وأفعال، وستغدو مادته المروية أقرب الى السيرة الذاتية الشخصية التي يتقاطع خلالها تاريخ العائلة وتاريخ بيروتولبنان. فالراوي الذي يُدعى فيليب ويناهز الثمانين من العمر كان صحافياً طوال سنوات ولكن باللغة الفرنسية، تبعاً لنشأته التربوية لدى الآباء اليسوعيين وفي دير عينطورة الذي كان يديره الفرنسيون. وقد شاءه نجار"فرنكوفونياً"قصداً ليلقي من خلال عينه نظرة اخرى الى الحقبة التي يؤرخ لها روائياً او ليتأمل المشهد التاريخي من زاوية متعددة الوجهة. على ان فيليب الذي يتحدر من احدى قرى كسروان سيكون لبنانياً صرفاً وعلمانياً وابن الطبقة المتوسطة وسيأخذ عن جده ووالده الخصال الوطنية الحميدة. وهو لن يكتفي بسرد تاريخ جيله وهو الجيل الثالث بل سيعود الى الجيل الاول، جيل الجد والجيل الثاني، جيل الأب. وعندما يقابله الكاتب يقول له:"ستكون حكايتي طويلة، مفعمة بالأحداث واللقاءات. هل تملك الصبر لتستمع اليّ حتى النهاية؟". الراوي فيليب، الصحافي اللبناني بالفرنسية يمثل أنموذجاً لجيل لبناني نشأ خلال الحرب العالمية الثانية وشهد منعكساتها المأسوية على لبنان والعالم العربي. فهو ولد في العام 1922 بُعيد الحرب الاولى وأمضى مراهقته وفتوته في ظل الانتداب الفرنسي وعاش تجربة الاستقلال وسائر المراحل التي عرفها تاريخ لبنان الحديث لا سيما مرحلة الحرب اللبنانية 1975 وما اعقبها من احداث حتى العام 2000، عام عودة ساحة البرج ولكن في شكل غريب عن الشكل الذي طالما عرفها به، هو"ربيب"تلك الساحة والشاهد على مأساتها والتحولات التي طرأت عليها. فالساحة التي كان يعتبرها"رمز البلاد"و"ساحة الجميع"لن يلبث ان يتحسر عليها امام الكاتب قائلاً له:"الآن غابت ساحة البرج"وقصده انها لم تبق كما كانت سابقاً بعدما اصبحت شارعاً كبيراً. لكنه يؤكد للكاتب ان بيروت تسكنه وانها"خارج المكان والزمن". لم يدفع الكسندر نجار الراوي ? البطل الى استعادة تاريخ جده وتاريخ أبيه أي تاريخ اسرته إلا ليرسّخ التاريخ الحديث الذي عرفته بيروتولبنان وعاشه الراوي نفسه من خلال عمله صحافياً في الجريدة الفرنكوفونية الشهيرة"لوجور". فتاريخ الجد الذي يدعى روكز مواليد 1825 والذي كان يعمل ترجماناً في القنصلية الفرنسية سيفتح ملف النصف الثاني من القرن التاسع عشر في ابرز احداثه: ثورة طانيوس شاهين، المتمرد اللبناني ضد الاقطاع، مجازر 1860، وقائع الحرب الاولى، المجاعة، هجوم الجراد ، إعدام الشهداء اللبنانيي، وطغيان جمال باشا السفاح وسواها... والصفحات التي تناولت ثورة طانيوس شاهين جميلة جداً ورسم الراوي من خلالها صورة طريفة لهذا الثائر الأمّي الذي كان يلقب ب"الاميغو"ولثورته العنيفة التي حققت العدالة ثم انكفأت بعد التدخل الفرنسي و"البطريركي". وفي مستهل هذا التاريخ تبرز شخصية الأخ او الراهب الفرنسي"فانسان"الذي يحرض على الثورة ضد الاقطاع مشبعاً بروح الثورة الفرنسية. وهنا يتحدث الراوي عن"المذكرات السرية"التي كانت محفوظة في مكتبة دير عينطورة. الأجيال الثلاثة لعل"الفضاء"المكاني الذي جمع بين الاجيال الثلاثة الجد، الأب والابن هو ساحة البرج. فالجد الكسرواني الاصل سيسكن هذه الساحة وكذلك الاب الياس، الطبيب الذي سيشرف على صحة الوالي العثماني وعلى بعض الشخصيات الفرنسية والبيروتية البورجوازية، ثم الابن فيليب. وستقطن العائلة بناية سركيس القائمة في ساحة البرج وستكون هذه البناية أنموذجاً مصغّراً للبنان الطوائف والملل. فهي تضم عائلة فيليب المسيحية وعائلة صيداني المسلمة وشخصاً يهودياً يدعى صموئيل يُضطهد بعد هزيمة 1967 وآخر أرمنياً يدعى زاديغ. ويصور الراوي الواقع الاجتماعي الذي يجمع بين الطوائف لا سيما الطائفة المسيحية والمسلمة وما يعتري هذا الواقع من أحوال ايجابية وسلبية. إلا ان فيليب سيتزوج لاحقاً من ابنة الجيران المسلمين ولكن ليس في لبنان بل في قبرص حيث يُسمح بالزواج المدني. وهذا الزواج الذي تم عن حب قوي ستفشله السياسة وليس الدين فترة، عندما تعلن الزوجة نور التحاقها بصفوف الشيوعيين، الامر الذي يثير حفيظة فيليب، فيصفعها فتغادر البيت الزوجي ملتحقة برفاقها ورفيقاتها ومنهم: أمين معلوف التروتسكي حينذاك وسمير فرنجية الماوي وآن موراني ودلال البزري وسواهم او سواهن... لكنه سيعود اليها في الختام. تختلط الازمنة في"رواية بيروت"طبقاً لاختلاط المراحل التاريخية والاجيال، فيما يعيشه الأب الطبيب يشهده الابن الصحافي، لكن ساحة البرج، كرمز زمني ومكاني، تظل هي الخيط الذي يصل المراحل بعضها الى بعض. ومن خلال شخصية الاب يتعرف القارئ على مرحلة الحرب الثانية وعلى الاحداث التي تخللتها والشخصيات التي برزت فيها: الجنرال غورو، البطريرك الحويك، المفتي مصطفى نجا، الكاتب ميشال شيحا، الاب يعقوب، داود عمون، شارل قرم، اعلان لبنان الكبير، مأتم جبران خليل جبران، سقوط الامبراطورية العثمانية، الانتداب الفرنسي... اما الابن فيليب، فهو سيعيش ما يمكن تسميته ب"المرحلة الذهبية"التي شهدتها بيروت. هكذا سيسرد مثلاً قصة الفيلم اللبناني الاول الذي انجزه السائق الايطالي جيوردانو بيدوتي عام 1932 واسمه"مغامرات الياس مبروك"، وسيختلق الراوي علاقة قامت بين اخته منى والمخرج الايطالي الذي أوقعها في فخه وسلبها مالها وتخلى عنها. ويسرد ايضاً وقصة انهيار فندق"كوكب الشرق"الشهير الذي كان قائماً في جنوب ساحة البرج وأوقع انهياره ثلاثة وأربعين قتيلاً وعشرات الجرحى، وكذلك حادثة غرق سفينة شامبوليون الشهيرة. ويصف زمرة"القبضايات"الذين يحتلون المشهد البيروتي وهم من الطائفتين المسلمة البسطة والمسيحية الجميزة ومنهم: الياس الحلبي، راشد قليلات، الحاج نقولا مراد، ابو طالب النعماني... ولا يغيب المشهد"السياسي"بدوره، فيحضر الشيخ بيار الجميل الصيدلي الذي اسس حزب الكتائب انضم اليه شقيق الراوي جوزف وحزب النجادة وسواه... وتحضر بيروت نهاراً وليلاً بحركتها وأصواتها انطلاقاً من ساحة البرج وانتهاء فيها: صالات السينما، البارات، النوادي الليلية، التظاهرات... ولن يفوت الراوي، كونه صحافياً، أي حادثة او ظاهرة او وجه لبناني عريق: يتحدث عن ميشال شيحا الذي ادخله الى جريدة"لوجور"والدكتور داهش والصحافي فؤاد سليمان الذي كان يكتب في"النهار"باسم"تموز"، ورياض الصلح الذي قتل في العام 1951 وغسان تويني وادوار صعب وشارل حلو الذي كان استاذه في الصحافة... ولا ينسى مشهد السوق العمومي ولا الاكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة في بناية اللعازارية الشهيرة، وهي اول معهد للفن التشكيلي درس فيه - كما يورد الراوي - فريد عواد وشفيق عبود، وعلّم فيه قيصر الجميل... وفيه برز اول"موديل"نسائي: ميريام الحاضرة في لوحات الكثيرين من الرسامين اللبنانيين. وفي لعبته الروائية يجعل الكاتب شقيق الصحافي فيليب طالباً في هذا المعهد لينقل اجواءه الطريفة وكأنها حية. ومنذ مطلع الستينات سيتسع"الفضاء"المجازي لساحة البرج حتى يشمل شارع الحمراء وخصوصاً المقاهي التي كان يرتادها المثقفون العرب والشعراء ومنها"الهورس شو"... ويحضر ايضاً النضال الطالبي اليساري والصراع بين الاحزاب وصعود اليمين وهزيمة 1967 وحرب الايام الستة وموت عبدالناصر... وتتواصل الوقائع لتشمل الحرب اللبنانية 1975 وما تلاها من مراحل مقتل كمال جنبلاط - 1977، الاجتياح الاسرائيلي لبيروت ? 1982، مقتل بشير الجميل.... الاحداث كثيرة وكذلك الوقائع والتواريخ والشخصيات والأسماء، لكن الكسندر نجار صاغها بمهارة الروائي ? المؤرخ معتمداً صيغة روائية، تخييلية ووثائقية. وشاء ان تكون روايته"مقطّعة"أي قائمة على مبدأ التقطيع الزمني مثلما اشار الراوي فيليب الى الكاتب، معتبراً ان حكايته تتوالى من خلال تقطّعها. وهكذا استطاع نجار ان يخفف من وطأة التأريخ وثقله مانحاً الراوي فرصة ليسرد ويتذكر ويحيط"روايته"بالكثير من الحنين والذاتية. فهو راوٍ وشخصية في آن واحد، مثلما روايته هي تأريخ وسيرة ذاتية في آن واحد ايضاً. فهو يفسح لنفسه مثلاً فرصة الحديث عن علاقاته العاطفية والجنسية. وأطرف ما يروي هو انجابه ابناً من سيدة فرنسية تدعى ماريان زارت بيروت لفترة قصيرة وأقام معها علاقة حملت من جرائها... اما ابنه فيتعرف اليه شاباً وقد قصده في مكتبه في الصحيفة وفاجأه مقدماً اليه نفسه: انا ابنك رومان. وترسيخاً للطابع الروائي"المفتوح"استخدم الكسندر نجار فن"اليوميات"داخل الرواية وكذلك فن"المراسلة"في محاولة لكسر البنية التقليدية التي غالباً ما تعتمدها الرواية التاريخية، علاوة على لغته البسيطة، الشديدة الشاعرية، وقد اشبعها بالتعابير الشعبية اللبنانية المقطوفة من اللغة العامية. "رواية بيروت"هي بحق رواية هذه المدينة، في تاريخها السياسي والاجتماعي وفي عاداتها الشعبية والثقافية، وفي تحولاتها التي كانت تحولات قرن بكامله هو القرن العشرون.