يتراوح عالم الكاتب اللبناني الفرنكوفوني ألكسندر نجار بين الرواية والتاريخ، في ما تضم العلاقة بين هذين القطبين من إشكاليات تتوزع بين الفعل الإبداعي الصرف والفعل التأريخي أو التوثيقي. وقد خاض نجار هاتين التجربتين منفصلتين، أولاً عبر ما كتب من روايات تنتمي الى التخييل السردي ومقاربات تاريخية تضرب في أديم التأريخ، ومتحدتين من خلال كتابته ما يسمى بحق الرواية التاريخية التي تنم عن وعي سردي بالتاريخ معيدة قراءته في ضوء المعطيات الراهنة وفق مقولة الناقد جورج لوكاش. غير أن نجار لم يقصر صنيعه على هذين الحقلين بل كتب أيضاً شعراً ونصوصاً أدبية وراويات سيرية وسير- ذاتية في أحيان. وجديده هو الرواية السيرية وعنوانها «ميموزا» (دار ليزسكال - باريس) وهو يسرد فيها سيرة والدته والأثر الكبير الذي تركته في حياته وشخصه. وعمد نجار أيضاً الى إصدار ترجمة عربية ل «القاموس العاشق للبنان» (منشورات بلون - باريس) الذي كان صدر في سلسلة الفرنسية وشاء تبديل العنوان جاعلاً إياه «قاموس لبنان» (دار الساقي). في هاتين المناسبتين هنا حوار مع ألكسندر نجار. بعد كتابتك سيرة والدك في «صمت التينور»، ها أنت تكتب سيرة والدتك في «ميموزا» وتعترف في المقدّمة بأنك تكتب سيرة حقيقية أكثر من كونها متخيّلة. كيف تصنّف عملك على هذا النوع من الكتابة السيرية؟ - أعتقد أن هذا النوع من الكتابة السيرية هو الأقرب إلى وجدان القارئ وقلبه، إذ يكلّمه بلغة حميمة تصيبه في الصميم. لقد تحدّث فيكتور هوغو عن هذه الظاهرة في مقدّمة كتابه «التأمّلات» (Les Contemplations) بحيث يتوجّه إلى القارئ قائلاً: «عندما أتحدّث عن نفسي أتحدّث عنك!». فعندما أسرُدُ قصة والدتي، يُقارن القارئ تجربتي مع تجربته الشخصية ويفكّر في علاقته الخاصة مع والدته أو في علاقته مع أولاده، علماً أن ثمّة قواسم مشتركة تجمع القرّاء بكل مؤلّف. وقد لمستُ ذلك عندما قدّمتُ كتاب «مدرسة الحرب» في برلين حيث تأثّر القرّاء الذين عايشوا الحرب العالمية الثانية وهم أطفال مثلما كنت طفلاً خلال الحرب اللبنانية، فوجدوا في كتابي أحداثاً ولحظات ومشاعر تحاكي ماضيهم... واضح أن فقدان الأب والأم كان حافزاً على كتابة سيرتهما. هل كان غيابهما ذريعة لاستعادتهما وإنقاذهما من النسيان؟ - بالطبع! يقول ميشال بوتور: «كل كلمة نخُطُّها هي انتصار على الموت». فالكتابة تساهم في إحياء الذين مضوا وفي «تجليد» الذكريات لمنعها من الاهتراء والهلاك بسبب الزمان وحليفه النسيان. في الواقع، بعد أن أنهيت كتابة «قاموس لبنان» أحسست بفراغ كبير وكأن هذا الكتاب جفّف خزّان أفكاري. وقد ساهَمَت الأحداث في لبنان (أزمة النفايات) والمنطقة (خصوصاً حرب سوريا) في»شلِّ» قلمي، إذ تساءلت: ماذا عسانا نكتب أمام هذه الأزمات؟ إن كتبتُ في مواضيع بعيدة منها، لأحسستُ باللامبالاة والخيانة، وإن كتبت عن هذه الأحداث، لشعرت وكأنني أرسُمُ لوحةً فنية بدم الأبرياء. إلاّ أن مرض والدتي المفاجئ صالحني مع قلمي إذ أدركتُ أن الكلمات تحمي من الفناء وأن الكتابة أقوى من الموت. هل حاولت أن تقترب من السيرة الذاتية أو الأوتوبيوغرافيا خلال كتابة سيرة الأب والأم؟ أي هل حاولت إدخال نفسك في السرد انطلاقاً من كونك الابن لكن عبر التزام ما يسمّيه الناقد الفرنسي فيليب لوجون «الميثاق الأوتوبيوغرافي» أي أنك لم تخن مبدأ السيرة؟ - بطبيعة الحال. عندما أتكلّمُ عن والدي ووالدتي، أتكلّم عن طفولتي ومراهقتي. في «مدرسة الحرب» حاولت أن أضع نفسي، إلى حدّ ما، خارج السرد الذاتي لكون الكتاب تضمّن تجربتي الشخصية وتجربة صديق من جيلي جمعتُهما في شخصية واحدة هي الراوي الذي يشبهني من دون أن يكون مُطابقاً لي. أما في الكتابين عن والديّ، فقد سردتُ قصة حياتهما كما هي، وأدخلت نفسي في القصة عندما حان وقت دخولي إليها تماماً كما الممثّل الذي ينتظر دوره في المسرحية ثم يظهر على خشبة المسرح ليؤدّي هذا الدور. لكنك كتبت أيضاً سِيَراً عدة لكتاب وشخصيات دينية وسياسية، منها الجنرال ديغول وجبران ويوحنا المعمدان والقذافي... ما وجه الاختلاف والالتقاء بين كتابة سيرة الأب أو الأم التي لا يمكن أن تخلو من الذاتية وكتابة سير شخصيات تاريخية تقوم على التوثيق والموضوعية؟ - يوجد بون شاسع بين الأسلوبين. فسيرة الشخصيات تفترض عملاً توثيقياً وبحوثاً تاريخية وقراءة عشرات المراجع والمقالات، فيما السيرة الذاتية أو سيرة الأهل تنتمي إلى الرواية أو القصة (récit) وإن كان مقدار الخيال فيها محدوداً بعض الشيء مقارنةً مع الرواية بمفهومها الكلاسيكي. إلاّ أننا نجد حالياً اتجاهاً في الأدب العالمي عموماً والفرنسي في شكلٍ خاص، يجعل من الشخصيات الحقيقية، كرجال الدولة أو الممثّلات (ماريلين مونرو أو جيمس دين أو جين مانسفيلد) أو الكتّاب (رومان غاري)، مادةً لحبك روايات خيالية. وقد اختبرتُ شخصياً هذا النهج، الذي يُطلق عليه اسم «Exofiction»، في روايتي «برلين 36»، حيث يلعب العدّاء الأميركي جسّي أونْس دوراً رئيساً، فيتحوّل من شخصية تاريخية إلى بطل هذه الرواية التي تروي كيف أن أدولف هتلر حوّل الألعاب الأولمبية التي استضافتها برلين في العام 1936 إلى حفلة سياسية للاحتفاء بالنازية الصاعدة! كتبت روايات تاريخية عدّة متنقّلاً بين لبنان الفينيقي وبيروت والقوقاس وأثينا... كيف تنظر إلى مفهوم الرواية التاريخية كما مارسته؟ أين المؤرخ من الروائي؟ بل أين فعل التأريخ من فعل السرد؟ - الأخطر عند كتابة الرواية التاريخية هو أن تجعل التاريخ يلتهم الرواية، فينسحب الخيال أمام سيل المعلومات التاريخية. أهمية الرواية التاريخية، التي تميّز بها جرجي زيدان ووالتر سكوت وألكسندر دوما والتي لا تزال ضعيفة في الأدب العربي عموماً على غرار الرواية البوليسية، تكمُنُ في أنها تمدّ جسوراً بين الماضي والحاضر، وتلقّننا دروساً وعِبَراً. فعندما أتناول موضوع الثورة اليونانية في «أثينا» أو صمود أهالي صور في وجه الإسكندر الكبير في «حصار صور»، أتكلّم عن المقاومة في شكلٍ عام، وعندما أتناول تاريخ الشعب الشركسي العظيم في «دروب الهجرة» أتأمّل في مفهوم الهجرة وأتساءل ما إذا كانت الهجرة خلاصاً أو سمّاً... يقول ألكسي دو توكفيل: «إن التاريخ معرضُ لوحاتٍ فيه القليل من اللوحات الأصلية والكثير من النسخ». حاولتُ في رواياتي أن أسلّط الضوء على «اللوحات الأصلية»، أي على أحداث بارزة ومحوريّة كرّرها التاريخ... والمؤسف في الأمر أن الشعوب لا تتعلّم من تجارب غيرها فتقع في الفخّ ذاته وترتكب الأخطاء ذاتها وكأن التاريخ هو حلقة مفرغة ندور فيها عبثاً... كثيراً ما ربط الناقد جورج لوكاش الرواية التاريخية بالواقع أو الراهن، معتبراً أن اللحظة الحاضرة هي الدافع لاستعادة التاريخ لقراءة متبادلة للتاريخ على ضوء الواقع، وللواقع أو الراهن على ضوء التاريخ. هل أوليت هذه النظرية اهتماماً وسعيت إلى ترسيخ هذه العلاقة الثنائية بين التاريخ والواقع روائياً؟ - نظرية جورج لوكاش صحيحة. لا نفهم الواقع من دون التاريخ، ولا نفهم المجتمعات وتناقضاتها ونزاعاتها وهواجسها إلاّ في ضوء التاريخ. فلنأخذ كاتالونيا مثلاً. كيف لنا أن نفهم ما يجري فيها إن لم نعُد إلى التاريخ؟ وسوريا والعراق وإيران وليبيا؟ كيف يمكننا فهم الأزمات التي تعاني منها أو الخلافات القائمة إن لم نعد إلى تاريخ هذه الدول وشعوبها؟ إلاّ أن خطورة ذلك تكمن في أن البعض يحاول استغلال التاريخ وقراءته على هواه والعودة إلى القرون الوسطى ليبرّر استيلاءه على حقوق الشعوب الأخرى واغتصابه أرضها. وما يؤسفني أيضاً هو أن المؤرّخين العرب أصبحوا قِلّة وأن الشباب يتوجّهون نحو المواد العلمية متجاهلين هذه المادة التي أصبحت شبه معدومة في العديد من الجامعات. من سيكتب تاريخ العرب؟ تُشرف على الملحق الأدبي لصحيفة «L'Orient-Le Jour»، وهو ملحق شهري عنوانه «L'Orient littéraire». كيف تقيّم هذه التجربة في عالم الصحافة الأدبية الفرنكوفونية؟ - أيام الطفولة، كنت أحلم بأن أدير جريدة. كان عمّي صحافياً، وكنت أراه يكتب مقالاته في غرفة الطعام حيث كنت أدرس، فتأثّرت حتماً به. وفي العام 2006، عرضتُ على صحيفة «L'Orient-Le Jour» أن أعيد إحياء ملحقها الأدبي الذي أنشأه في أواخر العشرينات الشاعر جورج شحاده، إلاّ أنه لم يصدر إلاّ عدد يتيم منه لكون القرّاء في حينه احتجوّا على المقالات «السوريالية» التي تكوّن منها الملحق، فاضطرّ جورج نقاش إلى وضع حدّ لهذه التجربة معلناً أن عزاءه الوحيد هو أنه «اكتشف جورج شحاده». وفي نهاية الخمسينات، أعاد الشاعر صلاح ستيتيه إحياء هذا الملحق، الذي كان يصدر أسبوعياً، وأداره ببراعة خلال سنتين إلى أن عيّن سفيراً فتوقّف الملحق. أما الملحق في حلّته الجديدة، فهو يصدر يوم أوّل خميس من كل شهر وقد اجتاز عتبة العشر سنوات ونال نجاحاً كبيراً وتقديراً واسعاً تخطّى حدود لبنان. أما نظرتنا إلى هذا الملحق الصادر باللغة الفرنسية، فهي تتلخّص بما يلي: إرادة مدّ الجسور بين الشرق والغرب عن طريق تعريف القارئ الفرنكوفوني بالأدباء العرب والقارئ العربي بالأدباء العالميين، ومواجهة ما يكبّل حرية التعبير، والدفاع عن مختلف الأنواع الأدبية، وفي طليعتها الشعر، ما جعلنا نخصّص صفحة دائمة للشعراء العرب والغربيين... إذا حاولنا أن نبحث عن مرجعيات لك تعود إليها كروائي وقارئ فما تراها تكون؟ من هم الروائيون الذين تأثرت بهم في هذا السياق؟ أي هل لديك آباء في الرواية؟ - مرجعياتي في الأدب الفرنسي هي فلوبير وفولتير وكامو، والشعراء هوغو وبودلير وبول الويار وريفردي، وبالعربية توفيق يوسف عوّاد ونجيب محفوظ وجبران خليل خبران ومارون عبود وميخائيل نعيمة وفؤاد كنعان، وباللغة الإنكليزية، فولكنر وستاينبك وهمنغواي وطبعاً شكسبير. أما بالنسبة إلى الأدباء المعاصرين، فإنني أقرأ للبعض منهم فقط، أمثال إشنوز ولوكليزيو وموديانو وأمبرتو إيكو وغبريال غارسيا ماركيز... صدرت الترجمة العربية ل «قاموس لبنان»، وهو يحمل أصلًا عنوان «قاموس عاشق لبنان». هذا القاموس ليس مجرّد قاموس موضوعي أو موضوعاتي أو جغرافي وتاريخي وفكري وأدبي وفني... بل يميل إلى أن يكون كتاباً إبداعياً، نظراً إلى خضوعه لذائقتك وثقافتك ككاتب وروائي وشاعر. كيف جمعت بين الاتجاهين في وضعك هذا القاموس البديع؟ - ينتمي هذا القاموس إلى سلسلة شهيرة أوجدها السيد جان كلود سيموان لدى دار «بلون» (Plon) في باريس، وقد صدر اليوم بالعربية عن دار الساقي، ليكون أوّل عنوان من السلسلة يُتَرجَم إلى لغة الضاد. والفكرة وراء هذه السلسلة هي أن يتولّى أديب معروف وضع قاموس «عاطفي»، أي ذاتي وخاص حول موضوع يُتقنه. والحقيقة أنني عرضت على هذا الناشر أن أخصّص كتاباً للبنان منذ العام 2005. إلاّ أنه طلب منيّ التريّث لكون المجموعة كانت في بداياتها، ولم يكن من المنطقي برأيه تخصيص قاموس لبلد الأرز، في حين أن القواميس المتعلّقة بالقوى العظمى مثل روسيا والهند والصين، لم تكن قد صدرت بعد! فتريّثت إلى أن حان الوقت. هذا النوع من الكتب يجمع فعلاً بين الدراسة والإبداع، إذ يفترض على المؤلّف أن يدرس كل موضوع يتناوله بالعمق، قبل أن يتحرّر بعض الشيء من أجل أن يخبر القارئ علاقته الشخصية بالموضوع المطروح بأسلوب أدبي متقن لا يخلو من الظرف أو المرح... واضح أنك بذلت جهداً كبيراً في تأليف هذا القاموس. كيف كان المنهج الذي اعتمدته لكتابته؟ -لقد استغرقَت كتابة هذا القاموس سنتين، علماً أن هذا المشروع مرهق للغاية إذ أن كل مدخل يتطلّب أبحاثاً وزيارات على الأرض واستشارات قبل صياغته، إلاّ أنه ممتع إذ يطلق الكاتب العنان لمزاجيته فيكتب عن المسائل المحبّبة إلى قلبه... وإن تنوّع المواضيع هو أيضاً مصدر متعة إذ يتناول الكاتب الشخصيات التاريخية (فخر الدين، الأمير بشير، يوسف بك كرم، الإمام الأوزاعي...) والفنانين الكبار (فيروز، صباح، وديع الصافي) والأماكن التاريخية (صيدا، صور بيروت، جبيل، طرابلس، بعلبك...) والمواضيع التراثية (الأرز، العَلَم، الاستقلال، النشيد الوطني، الزجل، المتحف الوطني، الطبخ، الدبكة، الانتشار اللبناني...) أو الثقافية (الأدب، السينما، المسرح، الرسّامون، العازفون، الرحالة...)، إضافة إلى بعض «المفاجآت» كسباق الخيل أو أبو العبد! لقد جاءت الترجمة العربية أمينة بالنسبة إلى النص الفرنسي الأصلي، وقد راجعتُها بحكم معرفتي باللّغة العربية التي أستخدمُها يومياً في مهنتي كمحامٍ. إلاّ أنني حذفتُ بعض المداخل التي لا تعني القارئ العربي (مثل رولان دورجوليس أو بيار بنوا وهما من الأدباء الفرنسيين الذين زاروا لبنان)، مُستبدِلاً إياها بمداخل تهمُّهُ (كالعروبة والثورة وشارل مالك وإيليا أبو ماضي وخليل حاوي...)، من دون المسّ بمدخلين عزيزين على قلبي، هما نزار قباني ومحمود درويش اللذان أحبّا بيروت وكتبا عنها أجمل القصائد. بطبيعة الحال، قد يأسفُ البعض في حال لم يجدوا في هذا القاموس موضوعاً أو مكاناً يحبّونه، غير أن ميزة هذا الكتاب تكمُنُ في عدم شموليته وفي الحريّة المطلقة التي يتمتّع بها المؤلّف! ابتعدت عن التاريخ السياسي أو الحزبي للبنان وعن التناقضات والفخاخ التي طالما وسمت كتابة التاريخ اللبناني. هل نجحت في هذا الخيار؟ وهل يمكن برأيك كتابة مثل هذا القاموس البديع بعيداً من مزالق السياسة؟ - أردّتُ أن أكتب قاموساً يجمَع اللبنانيين حول هويتهم وتاريخهم ولا يفرّقهم. فالسياسة في لبنان تفرّق حتى الأخوة ولا يمكن تخصيص مدخل لأي رجل سياسي من دون أن يثير هذا المدخل حفيظة الذين ينتمون إلى خطّ سياسي معاكس. لذلك، قرّرت إهمال السياسة وإبراز وجه لبنان الجميل، لبنان التراث والأصالة والإبداع والعيش المشترك، لبنان الحضارة والرسالة!