الذهب يسجل مستوى قياسيًا جديدًا    الأرصاد: انخفاض في درجات الحرارة شمال المملكة    ظافر الشهري ينال درجة الدكتوراه من جامعة الملك خالد    مصرع ستة أشخاص في حادث تحطم مروحية في نيويورك    مؤشرات الأسهم الأوروبية تغلق على ارتفاع    الجمهورية العربية السورية وجمهورية كوريا توقّعان اتفاقًا لإقامة علاقات دبلوماسية    تأهل 12 جوادًا لنهائي" جولة الرياض" ضمن جولات الجياد العربية 2025    موعد مباراة الهلال والاتفاق اليوم في دوري روشن    مشامر الجلوات السبع صناعة هندية وطقوس سعودية    هرمون التستوستيرون عند النساء    ردود أفعال اللاعبين على إضاعة الفرص حقيقة أم تصنع؟    الفيصلي تراجع مخيف يقلق محبيه... وشبح الهبوط يحوم حوله    طارق كيال: ظاهرة كثرة اللاعبين الأجانب إيجابية وطورت الكرة السعودية    أشجار «الجاكرندا»    قوانين لحماية التماسيح    جوزيه قوميز: مواجهة الخليج هي الأهم.. ونسعى لإنهاء الموسم بأفضل صورة    أعراس زمان    روبوتات الإسعافات الأولية    «أسبوع فن الرياض» منصة عالمية    الزمالك يحول زيزو للتحقيق بسبب التوقيع للأهلي    أمين منطقة القصيم يلتقي مدير مكتب جمعية الوداد الخيرية بالمنطقة    شركة "لسان الميزان – محامون ومستشارون" تستقبل الدكتور محمد بادغيش في جازان    الجاسر ريادة المعرفة والتنوير في قلب الجزيرة العربية    الاتحاد يتغلّب على العروبة بثنائية في دوري روشن للمحترفين    قطاع ومستشفى ظهران الجنوب يُفعّل "التوعية بالقولون العصبي"    مستشفى أحد رفيدة يُنفّذ فعالية "اليوم العالمي للصحة"    شرطة الرياض تقبض على (4) أشخاص لإطلاقهم النار في الهواء بمكان عام    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة وهيئة التراث توقعان مذكرة تفاهم    ضبط 7 إثيوبيين في عسير لتهريبهم 180 كجم "قات"    475 ألف غرفة مرخصة في المرافق السياحية بنهاية 2024    إعادة توطين 124 من طيور الحبارى النادرة في محمية الملك سلمان الملكية    4 متوفين دماغيا ينقذون حياة 8 مرضى    نمو قياسي في إنفاق السياحة الوافدة بمنطقة عسير خلال عامين    جامعة الأميرة نورة تمنح حرم خادم الحرمين الأميرة فهدة آل حثلين درجة الدكتوراه الفخرية في المجال الإنساني والأعمال الاجتماعية    مشروع الأمير محمد بن سلمان يُجدّد مسجداً عمره 13 قرنًا    في الخبر.."جوازك إلى العالم" تنطلق بالثقافة السودانية    الحياة الفطرية تُطلق 25 كائنًا فطريًا مهددًا بالانقراض في محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية    90 دولة تشارك بمهرجان الثقافات والشعوب    مدرسة الملك عبد العزيز في صبيا تعقد لقاء استعراض بطاقة أداء المعلم    الإحصاء تنشر نتائج مؤشر الرقم القياسي للإنتاج الصناعي لشهر فبراير    محافظ الطوال يعزي أسرة المرحوم الشيخ عبدالرحمن بن حسين النجمي    محافظ بيش ينقل تعازي سمو أمير منطقة جازان وسمو نائبه لذوي الطالب معاذ شيبة    «السمان».. زائر موسمي للشمالية    كنوزنا المخبوءة    أسرتا الصفيان والعديلي تحتفلان بزواج «محمد»    الصين تنفي إرسال جنود للمشاركة في الحرب بأوكرانيا    الاحتلال يقتحم نابلس موسعا عدوانه بالضفة الغربية    اعتبرها مراقبون ممارسة لإستراتيجية الضغط قبيل التفاوض.. واشنطن تفرض عقوبات جديدة على إيران    ولادة أول ظبي رملي لموسم ربيع 2025 في السعودية    ولادة ظبي رملي بمحمية الأمير محمد بن سلمان    رفع التهنئة للقيادة الرشيدة.. وزير الطاقة: 14 اكتشافا جديدا للنفط والغاز في الشرقية والربع الخالي    حين يتصدع السقف    مملكة الخير وميلاد قطب جديد    الحسد    الغارات الأمريكية مستمرة لإسقاط الحوثيين    سطوة المترهلين في الإدارة    أمير حائل يستقبل رئيس الهيئة العليا للحج والعمرة بجمهورية العراق ووزير الحج والعمرة    النقل الإسعافي يستقبل 5 آلاف بلاغ بالمدينة المنورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



توماس مان ودكتور فاوستو
نشر في الحياة يوم 13 - 04 - 2005

فور وصولي مدينة بيركلي الجامعية في أيلول سبتمبر1949، لفت نظري اعلان عن محاضرة كان توماس مان سيلقيها بعد بضعة أيام، بعنوان دكتور فاوستوس، في قاعة الجمنازيوم، وهي أكبر قاعة في الجامعة. فكانت هذه فرصة ذهبية لا تضيّع، وفاتحة عهدي بمثل هذه المناسبات الثقافية الثمينة. وفي موعد المحاضرة اكتظت القاعة بالحاضرين الى حد انني لم استطع الفوز الا بمقعد في الصف الأخير، العالي، الذي يبعد عشرات الأمتار عن المحاضر.
لم أكن أعرف توماس مان الا بالاسم، يومها، ولا أذكر الآن كلمة واحدة من محاضرته تلك، سوى أن لكنته الألمانية، وملامح وجهه، بقيت راسخة في ذهني. ولسوء الحظ أيضاً، ان روايته هذه كانت أعسر رواياته قراءة. لذلك بقيت من بين مشاريعي المؤجلة، الى ان تهيأ لي أن اقرأها بترجمتها الانكليزية، هي وعدد من رواياته الاخرى، في أواخر الثمانينات من القرن الماضي.
ويحزنني الآن أن النسخة التي اقتنيتها من لندن، ايام اقامتي في بودابست، فقدت، وذهبت معها ملاحظاتي التي دونتها على صفحاتها. وهذا دعاني الى استعارتها الآن من مكتبة الحي في لندن، لأستعيد أجواءها، لكن وقتي المضغوط الآن لم يتح لي ان اقرأها بالكامل من جديد، فقفزت فوق الكثير من الصفحات، وأنا لست نادماً جداً، اذا أخذت في الاعتبار ما قالته جين نميير عن هذه الرواية، في الانترنت، في مخاطبتها قارئاً يدعى دين دينس:"دين، أنا لم أحب هذا الكتاب، كما قد يخطر على بالك. يبدو لي ان توماس مان يستعمل مئة كلمة في حين ان عشراً قد تفعل المفعول نفسه أو أفضل".
لا شك في أنها تبالغ في كلامها، مع انني اتفق معها الى حد ما. فأنا صبرت على مقاطع غير قليلة من هذه الرواية، التي كان بعض عباراتها أعسر من جمل هيغل، لأنني ضعيف أمام أي كتاب له صلة بالموسيقى. الرواية عن حياة موسيقي طليعي الماني يرويها صديق. وفي هذا الاطار ايضاً وعورة النص يقول قارئ أو معلق آخر:"لم يكن هذا أيسر كتاب للقراءة. فالبطل، الراوي سيرينوس يأتي بعد شروح لأعمال موسيقية، تعليمية، ومضجرة ومسهبة، ومعقدة، لم تبد لي مشجعة على القراءة. لكنني سعيد لأنني واصلت القراءة. فقد كانت هناك مكافآت مجزية في هذه الرواية المثيرة للتفكير، والغنية في أبعادها".
وهذا صحيح، لا سيما في شقه الاخير. لكن اكثر ما أثار استغرابي هو ان توماس مان يكاد لا يجعلك تتعاطف مع بطلي هذه الرواية: ادريان ليفركون الموسيقي، وسيرينوس تسايتبلوم الاستاذ. فسيرينوس مضجر الى حد كبير، كما تقول جين نميير. وكان شخصية تفتقر الى الاصالة، مع انه ممتلئ علماً ومعرفة، كأي بطل من ابطال توماس مان. وكان ادريان يتجاهله في كثير من الأحيان، مع انهما صديقا عمر. فلماذا اختار توماس مان شخصية محورية تورث شيئاً من السأم والملل لدى القارئ؟... مع ذلك يبقى القارئ المثقف مشدوداً الى الرواية، حتى نهايتها الفاجعة. فما هو سر هذا السحر في كتابة توماس مان؟
يكمن السر، في تصوري، في اسلوبه، الذي يتراءى لي شبيهاً بالمفارقة التي نجدها في توقيع رسالة من حاكم رفيع المقام ملك، مثلاً، او ولي عهد الى مواطن، تسبقه أعني التوقيع عبارة مثل"خادمكم المطيع". ذلك هو اسلوب توماس مان، او الراوي في هذه الرواية. فأنت تجد نفسك أسير لطف الراوي الجم الذي يتقرب الى القارئ بمثل هذه الطريقة المفرطة في تهذيبها. أضيف الى ذلك لغة توماس مان المعقدة، والمتقعرة، لكن المستعذبة. فاذا كان هناك اسلوب يوصف بالسهل الممتنع، كما كان يقال عن همنغواي، مثلاً، فإن اسلوب توماس مان في معظم رواياته، وبخاصة في"د. فاوستوس"، وربما اكثر من ذلك في"الآثم المقدس"، يمكن نعته بالصعب او الوعر المستعذب.
لكن توماس مان لا يسحرني كثيراً في الافكار التي يطرحها في بعض رواياته. هذا لا يسري على د. فاوستوس ويبدو لي انساناً معقداً، ومتناقضاً في سلوكه. فهو ذو نزعات انسانية في مواقفه الفكرية والسياسية، لا سيما بعد مرحلة الشباب. لكن موقفه من جورج لوكاتش اتسم بالتناقض. فقد لعب دوراً في انقاذ حياته من موت محتمل، بعد أن استجاب رجاء والد لوكاتش بالكتابة الى رئيس جمهورية النمسا ليلتمس منه عدم تسليم ابنه جورج الى السلطات الهنغارية الرجعية. لكنه لم يستجب محاولات لوكاتش نفسه في التقرب اليه في ما بعد، مع انه كتب عنه نقداً ايجابياً. وكان توماس مان غيوراً على ما يبدو حتى من أخيه الروائي هاينريش مان، مع ان شهرته هو فاقت شهرة شقيقه. وكانت الغيرة تنهشه من السمعة العالمية لرومان رولان. وقد نال منه في تعليق ورد في مذكراته. ثم انني أذكر انه داهن الحليفين الغربيين اميركا وبريطانيا، وبرر قصفهما الجائر لبعض المدن الالمانية وشيك انتهاء الحرب دريزدن بخاصة، التي كانت ستصبح ضمن قطاع المانيا الشرقية، ربما كثمن لقاء استضافته لاجئاً في أثناء الحرب، مع ان هذا القصف لم يكن له أي مبرر عسكري في الايام الاخيرة من الحرب... هذه المواقف وغيرها ثلمت عندي شيئاً من اعجابي به كإنسان.
لكنني اعود الى"دكتور فاوستوس"، التي استهوتني اكثر من رواياته الاخرى من بين ما قرأته له، بموضوعها، واسلوبها الذي كتب بطريقة بوليفونية. وكما لاحظ النقاد ان توماس مان اراد ان يكون بطله في هذه الرواية موسيقياً، لأن الرواية كانت تراجيديا المانية، والموسيقى عنده فن المانيا بامتياز. ولأن الموسيقى تعتبر"منطقة شيطانية"، من خلال بعدها الحسي، فإن البطل ليفركون يتعاقد مع الشيطان، على غرار تعاقد فاوست مع مفستوفوليس. وهذا يأتي متوازياً مع تعاقد المانيا السياسي مع الشيطان النازية هنا. وهكذا، ان"رواية عصره"، كما يؤكد توماس مان، تأتي"متنكرة"في اهاب فنان. ومع كل حب مان للموسيقى التي رافقته طوال عمره، ومع كل ثقافته الموسيقية، الا انه لجأ هنا الى الاستعانة بزملاء يعيشون في المنفى، مثله، في كاليفورنيا كتب الرواية بين 1943 1947: صور المؤلف اختراق البطل الفني من خلال تقنيته في التأليف الموسيقي، تماماً على غرار نظام شونبرغ القائم على استخدام الاثنتي عشرة نوطة في السلّم الموسيقي، وذلك لفرض نظام يلغي الحرية الذاتية التلقائية. لكن هذه المؤلفات، على رغم براعتها، ليست انسانية الى حد كبير مثلما لاحظ مان في يومياته السرية ان بنائية النظام الاثني عشري... فاشية، أو بحسب تعبير الراوي تسايتبلوم"بربرية". وهذا يذكر ايضاً بنيتشة:"أين هم برابرة القرن العشرين"، كما يقول تي جي ريد في مقدمته للترجمة الانكليزية. وعلى هذا الوتر ضرب احد ابطال الرواية في قوله لأدريان ليفركون البطل:"هل كانت موسيقاك لا إنسانية حتى الآن. اذاً فهي مدينة في عظمتها الى لا انسانيتها". ولعل هذا يذكرنا ايضاً بوصف ادورنو لموسيقى شونبرغ بأنها قبيحة، وبالتالي تقدمية، بحسب مفهومه، لأنها عبرت عن قبح الرأسمالية.
وقرأت مقالاً في الانترنت بقلم ستيف داودن مستلاً من"بوسطن ريفيو"، جاء فيه ان كافكا، الذي كان معجباً بتوماس مان وتماهى مع ابطاله الاوائل، بقي غير متأثر بأسلوب نثره. وعندما طلب من توماس مان بعد موت كافكا بفترة طويلة كتابة مقدمة لروايته"القلعة"، اعرب عن اعجابه بعبقرية كافكا الساخرة التي تكمن في بوحه المكبوح والمكبوت. ويقول داودن ان فن كافكا الذي ينعكس في لغته المكبوحة يأتي متمماً لفن توماس مان المفخم، لكن هذا الكاتب يرى ان هناك نقاطاً مشتركة بين"القلعة"و"دكتور فاوستوس". فبطل كافكا، ك، وبطل مان، ليفركون الموهوب بصورة شيطانية، يحاولان السمو بعالم المادية الاغترابي والحياة الامتثالية العادية عند الطبقة الوسطى.
قد لا يعترض المرء على هذه المقارنة، لكنني اعتقد ان اكثر عمل روائي تصلح مقارنته برواية"دكتور فاوستوس"، هو رواية"جان كريستوف"لرومان رولان. فبطل هذه الرواية موسيقي ايضاً. واذا كان بطل رواية مان يذكر في نطاق معين بالموسيقي ارنولد شونبرغ 1874 1951، فان جان كريستوف يجمع بين شخصيتي بيتهوفن ورومان رولان نفسه. وكلا البطلين الموسيقيين متمردان في فنهما، وفرديان، ويتصرفان على نحو جنوني. فجان كريستوف يجهر قائلاً:"ايها السادة، أنا عدو كل انسان"، ويخالف كل شيء. وليفركون انعزالي، ونفور، وعدمي. وكما رأى جان كريستوف ان الموسيقى الحديثة كلها كان مآلها الخراب، فإن هذا يذكرنا بلا انسانية موسيقى ليفركون.
ونشأ توماس مان، هو وشقيقه الاكبر منه الروائي هاينريش مان، في بيت بورجوازي كلاسيكي، ودرسا التراث الانساني الالماني والعالمي، وتأثرا بغوته، وليسنغ وشيلر، وقرأ توماس بانشداد ايضاً غوغل ودوستويفسكي وتولستوي، والكتاب الواقعيين الفرنسيين. لكنه تأثر ايضاً بشوبنهاور ونيتشه وفاغنر. وفي شبابه كان مان يعتبر نيتشه"مرشده واستاذه"، وفي الوقت نفسه"اكبر ممثل لسيكولوجية الانحطاط، بلا منازع". واذا كان اخوه هاينريش شاركه في شبابه هذا الشعور تجاه نيتشه، الا انه تخلى عنه قبل توماس بكثير، معتبراً اياه"فيلسوف الانحطاط". اما عند توماس مان، فإن المواقف الفلسفية والاستيطيقية التي طرحها شوبنهاور ونيتشه كان لها حضور دائم في مؤلفاته.
وانه ليمكن القول ان رواية"دكتور فاوستوس"تذكر الى حد ما، ايضاً، بشخص نيتشه. وهنا، كما في معظم مؤلفات توماس مان، تتجسد فكرة نيتشه أن الوهن والاعتلال الفيزيقيين، يستنهضان حساسية استيطيقية عالية، لذلك نجد معظم ابطال روايات مان مرضى: مرض هانو الاخير في رواية"بودنبروك"، ومرض السل الذي يوهن ارادة ابطاله في"الجبل السحري"، لكنه يرهف عندهم المخيلة في الوقت نفسه، واصابة غوستاف اشنباخ في"موت في البندقية"بمرض الكوليرا... واخيراً اصابة الموسيقي ادريان ليفركون بالسفلس الذي يومض عنده القدرة على الابداع الموسيقي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.