هاينريش مان، الألماني، كاتب آخر من الكتّاب الذين كان من سوء حظهم انهم عاشوا في الظل... غير ان المشكلة مع هاينريش مان هي انه عاش في الظل في شكل مزدوج. فهو من ناحية - وهنا مكمن ظله الأول - كان شقيق الكاتب الكبير توماس مان - صاحب «الجبل السحري» و «دكتور فاوستوس» -، فكانت أن طغت على شهرته دائماً شهرة ذلك الشقيق الذي كان من كبار كتاب اوروبا خلال النصف الأول من القرن العشرين. وكأن قدر هاينريش مان، لم تكفه تلك القرابة المظللة، فاختار للشهرة من اعمال هاينريش رواية لم تكن، بأي حال من الأحوال، اهم اعماله، وهي «البروفسور اونرات» (الأستاذ قذارة) التي حولها جوزف فون شترنبرغ الى فيلم «الملاك الأزرق» الشهير والذي وطد مكانة مارلين ديتريش في السينما العالمية وأخذها بعيداً من وطنها الى هوليوود. وهكذا، هنا، اذ اشتهر الفيلم، وربطت به مسيرة هاينريش مان ككاتب، طغت شهرة هذه الرواية على اعمال هذا الكاتب، ككل، إذ انه سيظل طوال حياته يشكو، مضيفاً مرارة هذه الشهرة الأحادية، الى مرارة انطوائه في ظل شقيقه المبدع. غير ان هذا الواقع لم يطل به الأمر كثيراً، اذ منذ سنوات الخمسين، وإذ انطوت حياته ثم انطوت من بعده حياة شقيقه توماس، راح القراء يعتادون اكثر وأكثر على اسم هاينريش، وراحت اعماله الأخرى تنتشر وتترجم الى لغات عدة، خصوصاً ان نقاداً تقدميين كثراً راعوا في الأمر بورجوازية ادب توماس مان ورومنطيقيته الخفية، كفعل يضئّل من شأنه في مقابل تقدمية ادب هاينريش والنزعة الواقعية التي تغلب على هذا الأدب، ما اعاد هاينريش حقاً الى الواجهة ورفع عنه الظلمين القديمين، حتى ولو بعد فوات الأوان بالنسبة إليه. والحال ان رواية هاينريش مان التي افادت افضل إفادة من «اعادة الاعتبار» هذه، كانت تلك التي كتبها عام 1914 تحت عنوان «رعية الامبراطور» التي تعتبر عادة، الجزء الأول من ثلاثية يحمل جزآها الآخران عنواني «الفقراء» و «الرأس»... ونتوقف هنا عند الرواية الأولى - أو الجزء الأول - على اعتبار انها غالباً ما قرئت وحدها، من دون ايّما اهتمام ببقية الثلاثية. وهي قرئت لقيمتها الفنية بالتأكيد، ولكن ايضاً على شكل نبوءة ادبية... اذ ان هاينريش مان، وفي هذا العمل الذي انجزت كتابته عشية الحرب العالمية الأولى، حملت من التصورات والأحداث ما سيتحقق لاحقاً في اوروبا... من دون ان يكون احد قد توقّع حدته توقع هاينريش مان له، منذ ذلك الزمن المبكر. كما يعرّفها النقاد عادة، تنطلق رواية «رعية الامبراطور» من الرغبة في رسم صورة لواحد من اولئك الناس الذين يؤمنون ب «ضرورة الركوع الرومنطيقي امام سيد يعطي التابع قسطاً من السلطة يكفي هذا الأخير لكي يسحق من هم اصغر منه». وهذا التابع هو، هنا، المدعو ديترلك هسلنغ، الذي كان عمله الأساسي صانع ورق في مدينة نتزيغ الصغيرة في ألمانيا خلال القرن التاسع عشر. ان الرواية تقدم لنا هسلنغ هذا منذ كان لا يزال صغيراً... حيث كان اذا مرّ قرب شرطي يشعر برجفة غريبة تنتابه لمجرد تفكيره بأن هذا الشرطي قادر على ايداعه السجن. وإذ يكبر هسلنغ قليلاً ينتابه شعور عجيب بالفخر لانتمائه الى ذلك الجسم المنتظم القوي وذي النفوذ الذي هو المدرسة الثانوية. لقد وجد ان تراتبية السلطة هناك تلائمه، كما لاءمه تماماً، الطابع اللاإنساني المهيمن على الحياة هناك... وهكذا بدأ الرجل اللاحق يتكون في داخل فتى اليوم. وصار من المنطقي له ما إن يتقدم في سنوات دراسته، ان يصبح عضواً في جماعات متطرفة عنيفة صارمة فاشية تطلق على نفسها اسم «التوتونيون الجدد». وهذه الجماعات قومية الهدف والوسيلة يتزعمها فون بارنيم، الذي كان يتحدث عن الصفاء العرقي وضرورة تطهير الأمة من كل الطفيليات الغريبة الداخلية فيها من دون وجه حق، بما في ذلك المهمشون والغجر واليهود وكل «عناصر الشر» الأخرى التي تعيث في جسد الأمة فساداً. وواضح هنا ان هاينريش مان، الإنساني ذا النزعة الإنسانية الواضحة، إنما شاء من خلال وصفه الجماعة ومن خلال وصفه علاقات بطله هسلنغ بها، ان يندد بتلك السرطانات التي كانت بدأت تتسلل الى داخل العقلية الشعبية الألمانية منذ ذلك الحين. والحال ان الفارق الأساس بين هاينريش مان، وبين غيره من المفكرين الليبراليين الإنسانيين - ومن بينهم شقيقه توماس - كان يكمن ها هنا: في ان صاحب «رعية الامبراطور» رأى باكراً، ما سيعتبر كثر ان بدايته انما كانت بعد هزيمة الألمان في الحرب العالمية الأولى وكنتيجة للذل الذي طاول الشعب الألماني إثر تلك الهزيمة. بالنسبة الى هاينريش مان، المسألة بدأت قبل ذلك. وليست مجرد رد فعل دفاعي، انها - بشرها وإفسادها العقول - موجودة منذ وجدت الفكرة القومية نفسها، كميدان لرفض الآخر والرغبة في التخلص منه. وما يطرأ على هسلنغ عند تلك المرحلة من الرواية فصيح للغاية: يصبح هسلنغ واحداً من اعيان المدينة وبورجوازييها... وتنطبع اكثر وأكثر فوق وجهه سمات الكراهية والخوف... سمات تصبح مرعبة ما إن يجابه هسلنغ من يتحدث عن الحرية... ان انعكاس هذا الحديث سلباً على وجهه يتخذ سمات بافلوفية واضحة... يصبح جزءاً عضوياً من شخصيته لا مجرد اختيار فكري او ايديولوجي... والحال ان مثل هذه التأكيدات كانت لا تزال في ذلك الحين مبكرة، وكانت لا تزال في انتظار علماء نفس ومحللين نفسيين من طينة فلهلم رايخ، يمزجون بين ماركس وفرويد، حتى تستقيم تحليلاتهم المعمقة للفاشية وأبعادها النفسية، في مقابل دارسين آخرين كانوا يعزون صعود الفاشية الى مجرد كونه - كما اشرنا - رد فعل ل «الذل الألماني» على ايدي الحلفاء. في اختصار اذاً، يصبح هسلنغ سلفاً لكل العنصريين القوميين، كارهي الغرباء المنغلقين على انفسهم، ولكنه يضيف الى قائمة اعدائه وأعداء الأمة، العمال والعاطلين من العمل والماسونيين والاشتراكيين، ناهيك بكل من يتكلم عن تحدر الإنسان من القرد، على طريقة المرحوم داروين... وبكل الذين يجرؤون على انتقاد واحد من عمودي المجتمع: العسكر ورجال الدين... او على الدفاع عن حقوق المرأة. طبعاً يمكننا ان نتصور على الفور كمّ الأعداء الذي جعله هاينريش مان لنفسه، وكم الانتقادات التي طاولت روايته هذه، بخاصة انه جعل التماهي تاماً بين هسلنغ والامبراطور الذي كان في ذلك الحين رمزاً للنقاء الألماني الجرماني، قبل ان تتحول الرمزية الى هتلر. ولئن كان الفكر الألماني قد عاد متأخراً جداً الى هذه الرواية، فإن الكتّاب الفرنسيين وفي مقدمهم اناتول فرانس لم يعدموا أن رأوا اهميتها باكراً... بل ان فرانس كان يقول ان هاينريش مان هو اهم كاتب ألماني معاصر قرأ له. وعاش هاينريش مان بين عامي 1871 و1950... وهو ارتبط منذ طفولته بالثقافة اللاتينية واعتنق افكاراً ديموقراطية يسارية. اضطره هذا الى سلوك درب المنفى عام 1933 على غرار كل الكتاب الديموقراطيين واليساريين الألمان هرباً من القمع النازي، الذي سيظل كثر من النقاد المنصفين يتذكرون ان هاينريش مان كان من اول وأعمق الذين فضحوه... على طريقته. [email protected]