قد يكون القاص والروائي العراقي محسن الخفاجي وهو يطلق الخبر الأدبي الجديد من"معتقل بوكا"التابع لقوات الاحتلال الاميركية"، حيث لا يزال هناك من دون محاكمة او تهمة واضحة، من انه يواصل كتابه روايته الجديدة مجسداً فيها معاناته ومعاناة آلاف المعتقلين الآخرين من العراقيين، في هذا المعتقل أو في المعتقلات الأخرى التي عرف الخفاجي منها الى جانب معتقله هذا معتقل ابي غريب. قد يكون في هذا الخبر"رسالة"منه الى زملائه الكتاب والأدباء الذين يعنيهم ما آل اليه الوضع العراقي من تدهور على كل المستويات، وأولها التدهور الأمني والثقافي... وربما مشيراً في هذا"الخبر - الرسالة"الى زملائه من الروائيين ان يكتبوا، هم أيضاً، اعمالاً روائية عن مآسي"الخارج العراقي"وعذاباته والانتهاكات التي تقع للإنسان فيه كل يوم، مما تزدحم حياة هذا الإنسان بالكثير من تفاصيلها... وداعياً إياهم الى التمييز بين المواقف والحالات، والى تحديد خياراتهم الوطنية والأدبية في الأقل، ومحذراً من اختلاط الأوراق بين أيدي المثقفين - كما هي مختلطة اليوم في أيدي"أتباع المحتل"، لأن في هذا الخلط، اذا ما حصل، تفريطا بمستقبل الوطن، ودفعاً بمصير إنسانه الى المجهول. في المقابل، يتبين للمثقفين العراقيين اليوم ان"سلطة الاحتلال"لا تفكر بالثقافة، ولا يعنيها شيء من تراث هذا"الشعب المحتل"وتاريخه، مما جعل عدداً منهم يبدأ بتحسس الفجوة بين"الأمل"، الذي علقه على"التغيير"، و"واقع التغيير"، وهالهم ان يجدوا هذه"الفجوة"وقد استحالت"مسافة"تزداد بعداً وعمقاً في كل يوم يمر. فلا"وزارة الثقافة"- التي فقدت مع الاحتلال اثمن موروثات العراق الحضارية مما كان في عهدتها - قادرة، او مؤهلة على ان تنهض بالعملية الثقافية على النحو الذي يحقق للمثقفين رجاءهم. ولا التجمعات الثقافية بما فيها اتحاد الأدباء قادرة على تجاوز"عقدها"و"عقد الواقع"الذي وجدت نفسها فيه. ولا المجلات الثقافية التي تعرضت في الآونة الأخيرة لأعنف هجوم من الأدباء والكتاب العراقيين ممتلكة للشرط الثقافي الحقيقي لتنهض بمهماتها على"نحو جديد"- كما كان أمل البعض - لتلبي"طموحات"من يعانون من"عقد الماضي"في ما يتعلق بمسألة النشر. غير ان هذه"الصحوة"التي تجري على صعيد شخصي، بالنسبة الى عدد من الأدباء والمثقفين الذين انخرطوا بداية في"وهم العملية التغييرية"، لا تزال في حدود ذاتية ضيقة، بعضها لا يتجاوز حدود"المطلبية"، وان كان بعض آخر أشار، في شكل صريح او بتعبير حي، الى"ضرر الاحتلال"، والخروج خروجاً عرضياً الى فسحة الواقع متأملاً في حالة الاندثار التي امتدت الى كل شيء في هذا الواقع، والى الثقافة والفنون بوجه خاص، فضلاً عما فقدناه بفعل الاحتلال من كنوز فنية، وثروات ثقافية... أتوقف منها عند واحدة، وهي الفنون التشكيلية. فالمعروف ان الحركة التشكيلية الحديثة في العراق بدأت انطلاقتها الفعلية مع أوائل القرن العشرين، وتواصلت لتشهد نهضتها الكبرى في أربعينات أو خمسينات القرن الفائت. وكان لهذه الحركة تراث ضخم اجتمع منه في"مركز الفنون"في بغداد، وفي المتحف الخاص بهذا الفن، ما يقارب ثمانية آلاف وخمسمئة عمل فني، بينها النادر والفريد، فضلاً عن كونها تؤرخ للفن التشكيلي في هذا البلد من حيث اتجاهاته وتطوراته. هذا"المركز"بكل ما فيه اختفى كلياً من الوجود مع هدير أولى دبابات الاحتلال وهي تدخل بغداد، ليقع هذا الكم الهائل من الأعمال الفنية في أيدي ثلاث فئات. ومنها تجار الأعمال الفنية الذين - كما يبدو - قد اختاروا النادر منها والفريد، ومنها اللصوص المحترفون الذين لا يميزون في السرقة بين عجلة سيارة مركونة في ساحة المبنى ولوحة لفائق حسن، او عمل فني لجواد سليم. اما الفئة الثالثة فلا يمكن وصفها، فهي تجمع بين"أولاد الشوارع"، و"المتشردين"ومن لا عمل لهم، ممن رأوا سواهم ماذا يفعلون، فقلدوهم! وعلى أيدي هذه الفئات الثلاث تنتهي أضخم ثروة فنية تمثل جانباً مهماً من حضارة العراق ومن ثقافته الحديثة. أمام هذا يتساءل عديد المثقفين اليوم عن المستقبل الذي هم في صدد استشرافه، كما يتساءلون عن"دورهم المرتقب"بعدما أصبح"التهميش"هو الحالة السائدة. في هذا الوقت يلعب بعض"السياسيين المحترفين"ورقة الثقافة والمثقفين، ولكن ليس من خلال"تفعيل دورهم"بل من خلال"العطف عليهم"كما ظهر في أكثر من حالة في الآونة الأخيرة، وهو ما يرى فيه غير مثقف"بؤس الثقافة في زمن الاحتلال". ولكن يبقى"النداء"الذي سربه الروائي محسن الخفاجي من"معتقل بوكا"، عمن سيكتب الرواية الأخرى الى جانب روايته المرتقبة، عن"ضرر الاحتلال"؟