ثمة فهم ذائع عن إرتباط تاريخي بين الشخصية المصرية وبين الثقافة السياسية"الأبوية"كمفهوم استند إلى الأدبيات النظرية التي شاعت في الغرب حول"نمط الانتاج الأسيوي"ووجدت لها في مصر أصداء فكرية من قبيل"المجتمع الهيدروليكي"و"الدولة النهرية"وجميعها تعني فرض الطبيعة الجغرافية لنوع من الحكومات متطرف في مركزيته، ونوع من المجتمعات متطرف في خضوعه. وهو ما كان يبرر أن الثقافة المصرية تعيش حال خصام تاريخي وربما حتمي مع مثل الحداثة السياسية وقيمها الليبرالية التي ترتكز على الذات الفردية الناضجة، وعلى قيمة المواطنة التي تضع الإنسان"الفرد"في مركز الوجود السياسي، كما تتجسد في هياكل تنافسية اجتماعية اقتصادية يصوغها الصراع أو التوازن الطبقي بعيداً من الفساد السياسي والتوزيع الريعي البيروقراطي للثروة القومية، وصولا الى الديموقراطية كآلية سياسية لإدارة هذه التعددية الإجتماعية والإقتصادية وضمان التداول السلمي للسلطة بين القوى والجبهات والأحزاب المتنافسة من داخل الشرعية السياسية. اذ لم تكد مصر تعرف مثل هذه التوازنات إلا في إطار صراعي مع آخر خارجها سواء كان استعماريا كبريطانيا أو استراتيجيا كإسرائيل أو ثقافيا كالغرب، وهو أمر بلور الإحساس المصري بالسياسة على نحو خاص"جمعي"يثير الاهتمام بالقضايا الوطنية كالاستقلال السياسي والشموخ العسكري والهوية القومية وليس على نحو فئوي يثير التنافسات الحزبية والصراعات الطبقية التي تنتمي الى ظاهرة السياسة بالمعنى الحديث. ولا يرجع ذلك في اعتقادنا الى أي نوع من الحتم الجغرافي، بل الى حقيقة أن الثقافة المصرية حتى بداية القرن العشرين، مثلها مثل الثقافة العربية الأم التي استبطنت نموذج السلطة الرعوية منذ العصر العباسي الثاني، لم تكن أنجزت القطيعة التاريخية مع بنية العصر الوسيط، ولم تلج فضاء الروح الحديثة، اذ لم تكن هناك حركة علمية جديدة ولا منهاجية تفكير جديدة تطرح اسئلتها الجذرية على الواقع بشكل جدي، ولم تعد الحركة الفكرية الناشطة نوعاً في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، على أهميتها، سوى حركة داخل النمط الفكري السائد والقائم على الحدس والتأويل للمنتجات الفكرية القديمة التي تستند إلى السلطة المعرفية للدين وعلم الكلام وليس الفلسفة أو العلم الحديث. ولذا لم تكن هناك قدرة حقيقية لدى هذه الحركة على طرح خطاب حديث يتوافر له نوع من التجانس، أو تشكيل كتلة تاريخية حديثة لها مكتسبات سياسية ورؤية ثقافية ونماذج تنظيمية وطرائق في الحياة تميزها وتمثل لها نوعاً من الاستمرارية المجتمعية تدفعها الى القتال من أجل الحفاظ عليها مثلما فعلت البرجوازية الأوربية عبر التركيبة الرأسمالية بالهاماتها في الدولة القومية واقتصاد السوق، أو حتى الطبقة الإصلاحية اليابانية في العصر الميجي، اذ تأخرت في مصر عملية تشكيل هذه الكتلة فتعددت نماذج الحكم، وربما مشاريع النهوض، التي آلت جميعها إلى الفشل لأنها استندت في النهاية إلى نموذج تقليدي في العلم"الصوري المنطقي"ونمط تقليدي في الانتاج"الزراعي"ومن ثم نظام اقتصادي - اجتماعي"رعوي"وذلك بغض النظر عن تباينات فوقية في شكل النظام السياسي وخاصة بين: - تجربة محمد على باشا صاحب أول مشاريع النهوض في العصر الحديث الذي أخذ إلهامه الحقيقي من السلطنة العثمانية رغم نزوعه الى تحديها،اذ قام بتوظيف المنتج التكنولوجي الغربي على أرضية مجتمعية رعوية، كما قصر عملية التحديث على الجيش الذي كان بمثابة حاملها الإجتماعي - التاريخي ولذلك تراجعت التجربة التحديثية ثم أجهضت أمام الضغوط الأوروبية على الجيش المصري، ثم بوفاة محمد علي نفسه. - وبين نظام ثورة 1919 ودستور 1923 الوفدي ذي إلالهام الليبرالي في الربع الثاني من القرن العشرين والذي شهدت مصر في ظله حركة تنويرية جديرة بالإهتمام حاولت عبر رموزها الكبرى التي راوحت بين اسماعيل مظهر وشبلي شميل وسلامة موسى، وبين العقاد ومحمد حسين هيكل مروراً بطه حسين وأحمد لطفي السيد، أن تطرح اسئلتها على الواقع بشكل جدي، ولكنها واجهت مشكلتين أساسيتين: أولاهما هي استمرار افتقارها للمكون العلمي الحديث كقاعدة صارت هي الأهم في البنيه التاريخية للمجتمع الحديث. وثانيتهما حالة الضعف السياسي للبلاد التي جعلت الأفق السياسي لأسئلة التنوير هذه موقوفاً على الإرادة الاستعمارية الضاغطة ولذا اتخذت هذه الحركة طابعاً فوقياً على نحو لم يمكنها من المساس بالجسد الاجتماعي المصري عند القاعدة. ولعل كتابا علي عبد الرازق"الإسلام وأصول الحكم"الصادر عام 1925، وطه حسين"في الشعر الجاهلي"الصادر عام 1926، وما لاقياه من منع ومصادرة كانا دليلين على عدم نضج الليبرالية المصرية ونحالة أساسها التنويري. كما كان التعنت الذي واجهه حزب الوفد من الملك، والمندوب السامي البريطاني وحرمه من الإنفراد بالحكم اللهم سوى سبع سنوات وبضع خلال تجربة استمرت نحو 29 سنة ظل خلالها هو فارس الشارع المصري دليلاً على انسداد أفقها السياسي. وبالقدر نفسه كان الرفض المستمر لمشروعين مختلفين حول الإصلاح الزراعي وأيضا مشروع"مكافحة الحفاء"في الثلاثينات والأربعينات دليلاً على هشاشة طموحها الاجتماعي / الاقتصادي. ومع ثورة تموز يوليو هبت روح حديثة تجسدت في تجربة التحديث السلطوي للمشروع الناصري تمكنت من وأد كثير من سمات الثقافة الأبوية في الشخصية المصرية من خلال ركائز عدة كالجيش الوطني والجندية والتعليم النظامي وحركة التصنيع الشاملة، وأيضا تبني إيديولوجيا راديكالية نوعاً ما تعلي قيم التحرر والكبرياء على ما عداها من قيم حتى لو كانت"الواقعية السياسية"وهو ما يمكن فهمه كرغبة متطرفة نوعا في اشباع النرجسية الوطنية / القومية لإحداث قطيعة مع القيم الرعوية كالاستسلام والخضوع والقدرية، وذلك على أرضية طبقة وسطى واسعة تكاد تحتوي معظم شرائح المجتمع رغم محدودية معارفها ومهاراتها نسبياً، وتكوينها البيروقراطي غالبا، وكذلك على رؤية ثقافية حديثة تستلهم مقومات الخصوصية القومية وتسعى الى تأكيدها في إطار نزوع إنساني وعالمي كانت له جاذبيته وفعاليته على رغم جموحه، وروح كفاحية تؤمن بالقدرة على التأثير في التاريخ وإمكان تعديل مساراته. وعلى رغم ذلك ظلت مصر مفتقدة للديموقراطية سواء لعجز المشروع الناصري عن بلورة وفرز الاختلافات المجتمعية"الصغيرة"القائمة داخل كتلته الحديثة على أسس أيديولوجية وطبقية ومهنية لمصلحة تنافسية حزبية تقود الى التعددية السياسية، أو لصخب تفاعله مع الخارج وتحرش الخارج به على نحو لم يمنحه فرصة التطور الطبيعي ولم يوفر له الزمن اللازم للمراجعة والنقد وإعادة التأمل وبخاصة بعد هزيمة 1967. وكان متصورا أن يشهد الربع الأخير من القرن العشرين تحول مصر الى"الديموقراطية"خصوصاً بعد ان استقرت الثورة في احضان الدولة التي انقلبت على تحالفات مصر الخارجية، وبنيتها الإجتماعية فسلكت طريقي السلام مع اسرائيل والتحالف مع الولاياتالمتحدة، والإنفتاح الإقتصادي الذي قاد الى تفكيك قاعدة الحكم الناصري وأذكى الصراع الطبقي بما يفرضة من تعددية إجتماعية ومن ثم سياسية، غير أن الذي حدث كان نوعا من"التلفيقية" المدفوعة برغبة عارمة في التوفيق بين نقائض، كانت بدأت تلف الثقافة المصرية منذ نهاية السبعينات حيث عادت المرجعية السلفية للظهور"فكرياً"بعد أن حاول النظام الساداتي توظيفها عمليا، وكان ذلك التطور هو فاتحة زمن التلفيق والمواقف الإختزالية للنخبة المصرية وأنانيتها السياسية التي دفعتها إلى اختزال الحرية في الاقتصاد، والرأسمالية في الخصخصة، والاصلاح الاقتصادي في بيع القطاع العام، وفي المقابل قامت بتجميد ديناميكية السياسة حفاظا على مواقعها. وهنا يشكل قرار الرئيس حسني مبارك بتعديل المادة 76 من الدستور والخاصة بكيفية انتخاب رئيس الجمهورية، ليكون عبر الإقتراع السري المباشر بدلا من الاستفتاء، مع السماح للأحزاب بترشيح منافسين، وكذلك المجالس المنتخبة دستوريا على المستوى الشعبي المحلي من دون الاقتصار على تقديم البرلمان لمرشح وحيد، خروجاً شجاعاً وحكيماً يحسب له على أنانية النخبة، واختزالية الصيغة التلفيقية هذه باتجاه نوع من الخصام المطلوب طال انتظاره بين الشخصية المصرية، وبين الثقافة السياسية"الأبوية". وعلى رغم ذلك لا يمثل قرار الرئيس مبارك والنقاط العشر التي وضعها كإطار عام أو خريطة طريق للديموقراطية المصرية سوى مجرد بداية أو خطوة أولى لا بد أن تتبعها خطوات أخرى على طريق الألف ميل الذي يحقق لمصر ليبراليتها الموعودة، فعلى الرئيس نفسه ان يأخذ في الإعتبار ضرورة تعديل مواد أخرى تخص قوانين الأحزاب، ومباشرة الحقوق السياسية، والغاء قانون الطواريء، وعلى نواب الشعب أن يرتقوا بأدائهم ووعيهم الى مستوى القرار التاريخي بحسن صوغ هذه المواد بروح ليبرالية حقيقية ومسؤولة ومن دون تفسرات متعنتة تجهض روحه، وعلى كل الأحزاب السياسية الخمس عشرة القائمة التي طالما طالبت بالتحول الديموقراطي ان لا تبقى قاصرة دونه فعليها ضرب المثل بإجراء انتخابات داخلية مفعمة بالشفافية، وتجديد نخبتها المتكلسة غالبا والمتصارعة أحيانا بطرح قيادات جماهيرية قادرة على كسب تعاطف الجمهور، وكذلك تقديم برامج انتخابية واقعية وطموحة معا بحيث تحوز ثقة المواطنين وتفجر طموحاتهم الى مستقبل أفضل والا كانت هذه الأحزاب عبئا على اللحظة التاريخية التي تعيشها الديموقراطية المصرية. كاتب مصري.