عرفت مصر في تاريخها المديد لحظات مبدعة كانت فيها رمزاً واحداً، ولكن واحدها كان دائماً فرداً ملهماً، ولم يكن أبداً مجتمعاً مريداً، ولذا بقيت إبداعاتها متناثرة، وإنجازاتها متكسرة فراوحت بين صعود وهبوط طيلة التاريخ. ولعل جمال عبدالناصر، مهما اختلف الناس معه، واحد من أولئك الأبطال الذين اقتحموا تاريخ مصر، محاولاً صوغ واقعها من جديد. كان ناصر نموذجاً رائقاً للمستبد العادل، فاستبداده العميق كان مستنيراً، وميله إلى العداله الإجتماعية كان واضحاً، غير أن سنن التاريخ غالباً ما تقضي بغياب العدل، وبقاء الاستبداد. وتلك هي قصة «23 يوليو»، الثورة التي بدأت بانقلاب عسكري واكتملت أركانها بتأييد الشعب لها، وبعمق التحولات التي أحدثتها في بنى المجتمع، وشكل النظام، وملامح الوطن وصولاً إلى رموزه كالعلم والنشيد. إنها الثورة الأم التي حررت البلاد وجعلت مصر أكثر حيوية وتوثباً، ونزوعاً الى التقدم والتمدين وإن تعثر الطريق بهزيمة أو انكسار، ولكنها انتهت بعصر مبارك الذي جعل مصر أكثر ركوداً وأعمق يأساً، ونزوعاً إلى التخلف والتوحش وإن فاخرت ببناء كوبرى أو تدشين طريق. تقلبات التاريخ تقلبت مصر كثيراً على سطح التاريخ بين الدولة شبه الإمبراطورية «الفرعونية»، وبين المستعمرة المحتلة فارسياً ويونانياً ورومانياً قبل الفتح العربي. وبعده لعبت مصر دور الإمارة الكبرى والولاية المكتفية، قبل أن تدخل، بل وتتمرغ في نموذج «السلطة الرعوية» مع الانهيار العباسي والاجتياح التتري، وهو المعادل العربي لنموذج الإقطاع الأوروبي القروسطوي. ففي ظله أخذت السلطة السياسية تنفصل تدريجياً عن المجتمع العربي المتمدين وترتبط بالعناصر التركية التي شكلت تدريجياً نخبة عسكرية اضطلعت بالوظيفة الأمنية وحالت بين المجتمع العربي وبين الدور العسكري/ الجهادي الذي بدأ به تاريخه الإسلامي، وفي المقابل تحكمت في سلطته السياسية وموارده الاقتصادية ما ولد لديه شعوراً عميقاً بالاغتراب عن الشخصية الحضارية لمصر، ترسخ في العصرين المملوكي والعثماني واستمر في ظل السيطرة الاستعمارية البريطانية والفرنسية، وفي سياقه عاش المصريون أسرى الفقر والقمع إلا في ما ندر. وعبر نحو القرنين بعد خروج نابليون بونابرت من مصر، شهدت مصر مشروعين تأسيسيين لما يمكن تسميتة بالشخصية الوطنية المصرية: المشروع الأول يمتد في الحقبة الحديثة (1805 1952م) ويرجع إلى محمد علي باشا، الذي انتقل بمصر من بنية العصور الوسطى (الرعوية) إلى فضاء العصر الحديث على أصعدة التعليم والزراعة والتصنيع خصوصاً العسكري حتى شهد مؤرخ غربي بحجم توماس لوتسكي بأن ترسانة الإسكندرية البحرية تفوقت على نظيرتها الفرنسية بطولون، نهاية الثلاثينات من القرن التاسع عشر، في تصنيع بعض أنواع البوارج البخارية. حينذاك حاولت مصر استعادة الوظيفة الأمنية والسياسية لمجتمعها المتمدن من أنياب السلطة الرعوية خصوصاً عندما بدأ محمد علي في تجنيد «الفلاحين» السودانيين ثم المصريين تحت قيادة ضباط تنوعت أجناسهم ما بين أتراك، وأرمن، وشركس، وفرنسيين، قبل أن تبدأ مدرسة أسوان الحربية ثم المدرسة الحربية للمشاة وأخيراً مدرسة أركان الحرب بالخانكة في تخريج ضباط مصريين بعد 1920م ناهيك عن الضباط الذين تعلموا فن العسكرية ضمن البعثات إلى الخارج خصوصاً في فرنسا، الأمر الذي جعل من مصر رقماً صعباً يكاد يرث الحضور التركى في المعادلة الدولية، ويؤسس للمشروع العربي حول مصر. خصوصاً عندما حاول داود باشا في العراق تقليد خطا محمد علي والسير على نهجه، وهو عين ما فعله الأمير بشير الشهابى في لبنان محتمياً بدعم محمد علي وابنه إبراهيم باشا، وما حاوله أيضاً الباي أحمد في تونس، وهو ما كان له الأثر في حفز المقاومة الجزائرية ضد الفرنسيين بقيادة أحمد بك في مدينة ططرى بعد استسلام حسين باشا داي في العاصمة. غير أن مشروع محمد علي قد عانى انكسارا ًحاداً أمام الضغط الأوروبي بتوقيع معاهدة لندن عام 1840م التي قلصت الجيش المصري من 250 ألف إلى 18 ألف جندي، وحاصرت الحيوية المصرية، من دون ممانعة كبيرة سواء من خلفاء محمد علي، أو حتى من المجتمع المصري القاعدي الذي لم تصل إليه عوائد الإصلاح فلم يجد لديه من الدوافع، ولا القدرات ما يمكنه من مقاومة الانكسار، وهو أمر يرجع إلى أن مشروع محمد علي قد أخذ إلهامه الحقيقي من السلطنة العثمانية رغم محاولة تحديها، ولذا كان تحديثه هشاً متمحوراً حول قطاع رئيسي واحد هو الجيش الذي لعب دور الحامل التاريخي الحقيقي لهذه التجربة، الأمر الذي حال بين الثقافة السياسية وبين تشكيل كتلة تاريخية حديثة ذات قاعدة مجتمعية، ورؤية ثقافية، وأنماط تنظيمية، وطرائق في الحياة تميزها وتكفل لها نوعاً من الاستمرارية تدفعها للقتال من أجل الحفاظ عليها مثلما فعلت الطبقة البرجوازية عبر التركيبة الرأسمالية ورموزها كالدولة القومية، واقتصاد السوق، ثم الديموقراطية، أو حتى الطبقة الإصلاحية اليابانية في العصر الميجي نهاية القرن التاسع عشر. جيش محمد علي ولذا فعندما تم تفكيك الجيش، انهار المشروع كله قبل أن ينجز استنارة مجتمعية عميقة أو يرسخ تحديثاً واسعاً، ما أبقى مصر أسيرة لحالة (القابلية للإنقطاع)، أي قابلية العودة إلى نقطة الصفر من جديد، من دون قدرة على مراكمة الخبرات التاريخية، حيث يتم البناء الجديد على الإيجابي من البناء الموروث، وذلك بغض النظر عن تباين أشكال الحكم وتجاربه الفرعية وأهمها: عصرا عباس وسعيد وفيه خسر المجتمع المصري جل إصلاحات محمد علي، خصوصاً بعد عودة نظام الالتزام الذي جعل فلاحي مصر أسرى الإقطاع الرعوي وعبيداً لباشوات الأرض بدلاً من المماليك في العصر العثماني، أو (أفصال الإقطاع) في التجربة الأوروبية، وذلك في الوقت الذي حصل فيه المهندس الفرنسي ديلسيبس من سعيد على امتياز حفر قناة السويس بشروطه المعروفة، بالغة الإجحاف. ويبدو أن من علامات انحطاط الدول أن تتهاون في بيع أراضيها للمغامرين من الأجانب، والفاسدين من بني الوطن. عصر إسماعيل الذي جسد أكثر أشكال التحديث الفوقي نموذجية. فعلى الأرضية المجتمعية الرعوية نفسها سعى الرجل لإقامة مجلس شورى للنواب وكان ذلك أمراً رائداً. كما أقام دار أوبرا مصرية تستقبل وتعرض فنوناً موسيقية وألواناً من الغناء لم يكن بمصر من هو قادر لا على إنتاجها ولا حتى تذوقها اللهم سوى نخبة الإقطاع الرعوى، غير أن الأخطر من ذلك أنه بناها احتفالاً بافتتاح القناة المنهوبة، وعلى شرف الإمبراطورة الفرنسية رمز الدولة الناهبة، أما الأكثر عبثاً فتمثل في تمويلها بقروض أجنبية عجزت الحكومة عن سدادها لتصبح ذريعة لاحتلال مصر بعد سنوات قلائل رغم ثورة عرابي الوطنية التي بدأت بمطالبة بسيطة هي مساواة المصريين بغيرهم في الترقي إلي المناصب العليا في الجيش، ولكنها استحالت تعبيراً سياسياً عن استواء طبقة وسطى مصرية تؤمن بضرورة بعث العسكرية المصرية من مرقدها، تأكيداً على شموخ الوطنية المصرية في مواجهة التحدي البريطاني. قاد الرجل ما كان قد تبقى من الجيش المصري وما انضم إليه من الوطنيين آنذاك. حاول الصمود قدر الطاقة، حتى انتهى الأمر بهزيمة كانت منطقية لرجل حارب جيشاً متقدماً بقوات متقادمة، وجابه إمبراطورية عالمية من داخل فضاء ولاية «خديوية» وإن كانت مستقلة «اسمياً» عن السلطان العثماني. ورغم منطقيتها، تركت الهزيمة جرحاً غائراً في الضمير المصري، حتى أن المصريين قد سموها آنذاك ب «هوجة عرابي»، متسائلين بمرارة وإن كان السؤال مضمراً... هل يستطيع المصريون (الفلاحون) أن يستعيدوا حضورهم السياسي والعسكري في التاريخ بعد طول قطيعة... هل بمقدورهم أن يبنوا الجيش ويخوضوا الحروب، وينتصروا فيها بفعل منظم أم أن الأمر محض نزوة عسكرية وهوجة سياسية؟ ونظام ثورة 1919 ذو الإلهام الليبرالي في الربع الثاني من القرن العشرين والذي شهدت مصر في ظله حركة تنوير جديرة بالاهتمام حاولت عبر رموزها الكبرى أن تطرح أسئلتها على الواقع بشكل جدي، ولكن واجهت مشكلتين أساسيتين: أولاهما استمرار افتقارها للمكون العلمي التكنولوجي الحديث كقاعدة صارت هي الأهم في البنية التاريخية للمجتمع الحديث. وثانيتهما حالة الضعف السياسي للبلاد بعد وقوعها فريسة للاحتلال البريطاني ولذا كان الأفق السياسي لأسئلة التنوير هذه محدوداً أو مسدوداً، واتخذت هذه الحركة طابعاً فوقياً على نحو لم يمكنها من المساس بالجسد الاجتماعي المصري، فتم رفض مشروعين مختلفين للإصلاح الزراعي، بل واعتبار مجرد «مكافحة الجفاء» مشروعاً قومياً استمر طرحه على البرلمان لنحو العقد، الأمر الذي كشف عن انسداد الأفق الاجتماعي لهذا النظام. أما المشروع الثاني الأساسي فيرجع إلى ثورة يوليو 1952م، بقيادة جمال عبدالناصر والتي بدت تكراراً ناجحاً لثورة عرابي نهاية القرن التاسع عشر، أدى إلى خروج البريطانيين بعد الأسرة العلوية من مصر، قام به الجيل الأول من شباب المصريين أبناء الفلاحين في الأغلب والطبقة الوسطى المحدودة إجمالاً الذين دخلوا الكلية الحربية بعد معاهدة 1936، بعد أن كانوا قد توقفوا عن دخولها منذ عهد عباس الأول في خمسينات القرن التاسع عشر. فمع «ثورة يوليو»، والتي صاغت ملامح الوطنية المصرية المعاصرة، هبت روح حديثة تجسدت في تجربة التحديث السلطوي للمشروع الناصري، تمكنت من وأد كثير من سمات الثقافة الرعوية في الشخصية المصرية من خلال ركائز أولها الجيش الوطني الذي أعاد للمجتمع المصري وظيفته العسكرية بعد أن عادت إليه مع الاستقلال الوطني وظيفته السياسية، وثانيها التعليم النظامي، وثالثتها حركة التصنيع الشاملة، على أرضية طبقة وسطى واسعة تكاد تحتوي معظم شرائح المجتمع رغم محدودية معارفها ومهاراتها نسبياً، وتكوينها البيروقراطي غالباً. ورابعها رؤية ثقافية حديثة سعت إلى استلهام مقومات الخصوصية الوطنية والقومية، وإلى تأكيدها في إطار نزوع إنساني وعالمي كانت له جاذبيته وفعاليته رغم جموحه، وفي سياق روح كفاحية تؤمن بالقدرة على التأثير في حركة سير التاريخ. وخامسها تبني إيديولوجيا راديكالية نوعاً ما تعلي قيم التحرر والكبرياء على ما عداها، حتى لو كان «الواقعية السياسية»، وهو أمر يمكن فهمه باعتباره محاولة لإشباع النرجسية الوطنية، ولإحداث القطيعة مع القيم الرعوية كالاستسلام والخضوع والقدرية وربما الشعور بالدونية الذي كان قد تكرس في الشخصية المصرية لقرون طويلة إزاء الآخر، يخاصة الأوروبى... العسكر والمجتمع هنا يمكن ملاحظة عمق الاختلاف بين مشروعي محمد علي وعبد الناصر، ممثلاً طبيعة في الحضور المجتمعي، فلدى محمد علي كان الجيش هو الغاية ومصدر إلهام حركتي التعليم والتصنيع، وأما لدى عبدالناصر فكان المجتمع نفسه هو الغاية هو ما يتجلى على صعيدي الرؤية الثقافية، والإيديولوجيا السياسية، فكلتاهما كانت موجهة إلى مجتمع ينبغي تحديثه وتغييره باعتباره القاعدة والغاية لأي تحديث آخر، ولذا كان مشروع عبدالناصر أكثر شمولية وعمقاً على نحو مكنه من صوغ عقد اجتماعي جديد تم من خلاله تجاوز «الحالة الرعوية» أو القابلية للإنقطاع الجذري، إلى صوغ كتلة مجتمعية مصرية حديثة ومتمدينة لا تزال متماسكة حتى الآن رغم كل إحباطاتها أو أزماتها الثقافية والسياسية. ولعله صحيحاً أن هذا العقد الاجتماعي لم يبلغ الأفق الديموقراطي قط، كما أنه لم ينفتح أبداً على تيارات الحركة الوطنية خصوصاً تلك التيارات الديموقراطية وعلى رأسها حزب الوفد كنتيجة لحال من الشك المتبادل، إلا أنه تبنى أكثر مطالب الحركة الوطنية نبلاً وعمقاً كإقامة جيش وطني، وتأميم قناة السويس، وبناء السد العالي، وتحقيق الإصلاح الزراعي، وفرض التعليم النظامي الواسع الذي كان طه حسين قد اعتبره (كالماء والهواء). كما حقق الكثير من الأهداف التحديثية العميقة التي تعد شروطاً موضوعية لازمة ليس فقط لتجاوز حالة «القابلية الجذرية للانقطاع» التي سادت تاريخنا الحديث، بل لخلق المكونات الصلبة للوعي المعاصر ب «الشخصية المصرية» كشخصية حضارية، منحت (المصري) إدراكاً ذاتياً جديداً لنفسه كإنسان، ولموقع وطنه (مصر) في العالم. * كاتب مصري