تبدو قيادة"فتح"، المتمثلة باللجنة المركزية، في مواجهة واقع يحول دون تمكنها من السيطرة على الحركة وضبط أوضاعها، السياسية والميدانية، كما في المراحل السابقة. ولا شك في أن ثمة سذاجة في إحالة فقدان السيطرة إلى مجرد غياب الرئيس ياسر عرفات، الذي رتب هذه الحركة وأدارها بطريقته الخاصة. فالمعلوم أن فقدان السيطرة وشيوع الفوضى، في"فتح"والساحة الفلسطينية، سادا في عهد الرئيس الراحل، وهو أيضا كان محور كل شيء حول ذاته، ما ساهم في تغييب هيئات القيادة في فتح والمنظمة والسلطة وإضعافها. إضافة إلى ما تقدم يمكن إحالة تضاؤل نفوذ لجنة"فتح"المركزية إلى محددات أهمها: أولا، بروز مراكز قوى في الحركة، باتت تتمتّع بقوة مضافة تنبع أهميتها من المداخلات الدولية والإقليمية، في الشأن الفلسطيني، ما ساهم في تراجع المكانة القيادية أو السلطوية للجنة المركزية. وثانيا، اختلاف الشرط السياسي، ففي السابق، في مرحلة الخارج، تركزت بنية"فتح"على الأجهزة ونظام"التفريغ"، وعلى الوجود الميليشياوي، ما جعل قيادة الحركة تتمتع بمركز سلطوي مطلق، سياسي وإداري ومالي، وهذا الشرط لم يعد موجودا في الداخل، فثمة هنا مجتمع من أربعة ملايين في الضفة والقطاع له حياته السياسية ومتطلباته الطبيعية وتحدياته الخاصة. وثالثا، مثّلت عملية الانتخابات تطورا نوعيا في النظام الفلسطيني، من التعيين إلى التمثيل، ما ساهم في توليد طبقة سياسية جديدة في"فتح"والساحة الفلسطينية تتمتع بنوع من الاستقلالية إزاء القيادة السائدة، وبرؤية نقدية وروح طموحة، ما جعلها تنافس القيادة على مواقعها وعلى دورها"لا سيما أنها تعتبر نفسها الوريثة الطبيعية لها، كونها حملت عبء الانتفاضة الأولى والثانية"وهو ما جرى التعبير عنه في ترشّح مروان البرغوثي لمنصب الرئاسة، في منافسة مع محمود عباس أحد القادة التاريخيين ل"فتح"ومرشح اللجنة المركزية الأمر الذي تراجع عنه في ما بعد، وهو ما جرى التعبير عنه في تشكيل قائمة"فتحاوية"موازية للقائمة التي شكلتها اللجنة المركزية. وإضافة إلى أزمة القيادة، المتمثلة بغياب المؤسسة وتقاليد القيادة الجماعية والحياة السياسية الطبيعية، فإن أزمة"فتح"تتركز أيضا في المجالين السياسي والتنظيمي. على الصعيد السياسي ظلت"فتح"تراوح عند الشعارات المبادئ والأهداف والأسلوب، على رغم التطور في الفكر السياسي الفلسطيني، ولذلك لم تنتج خطابا سياسيا / ثقافيا يعبر عن رؤيتها لديناميات الصراع ضد المشروع الصهيوني ومستقبل قضية فلسطين وشعبها وفهمها للمرحلية ولمفهوم الدولة الديمقراطية وإشكالية عملية التسوية وأشكال النضال وإشكالاتها، فهذه المسائل خضعت لتجاذبات واجتهادات متباينة انعكست سلبا على وحدة الحركة وسلامة توجهاتها السياسية. بمعنى أخر فإن حركة"فتح"التي تتّسم عموما بالعفوية والبراغماتية والتجريبية، بالنسبة الى السياسة الاستراتيجية، مع المرونة وربما البراعة في إدارة السياسة التكتيكية، لم تستطع تمثل التطورات السياسية الدولية والإقليمية في تفكيرها السياسي أو تمثل التحولات الاستراتيجية المرتبطة بالانتقال إلى مرحلة التسوية والمتعلقة بإقامة دولتين لشعبين، وهي أمور تجلت في وضوح في التخبط السياسي والميداني في إدارة الانتفاضة، وفي الإخفاق في معادلة المزاوجة بين المفاوضة والانتفاضة، ما أدى إلى تدهور وضع"فتح"ومعها الوضع الفلسطيني في مختلف المجالات. ومعلوم أن التحول نحو التسوية في مطلع السبعينات لم يحدث نتيجة تطور في الثقافة السياسية ل"فتح"كحركة، ولم يشرع للأمر في مؤتمراتها، وإنما اتخذ هكذا قرار، على هذه الدرجة من الأهمية، في إطار اللجنة المركزية فقط، وكذلك الأمر لدى توقيع اتفاق أوسلو 1993. وبديهي أن كل العمليات السياسية، من المفاوضة إلى الانتفاضة، لم تدرس في الأطر القيادية ولم تكن وليدة ثقافة سياسية ولم تأت نتيجة إعدادات ميدانية. ومعنى ذلك أن"فتح"هي نوع من الحركات السياسية المغرقة في مركزيتها، بالنسبة الى القرارات الاستراتيجية السياسية والإدارية والمالية، ولا يعفيها من ذلك لا مركزيتها أو مراوغتها بالديموقراطية، اللتين هما أقرب إلى الانفلاش والفوضى في القضايا التكتيكية والمحلية والاجتهادات السياسية. وفي هذا المجال تبدو"فتح"وكأنها حركة للقيادة، أو للزعيم أبو عمار بخاصة، أكثر من كونها حركة لها قيادة، بدليل أنها كانت تميل حيث تميل القيادة، أو بشكل أدق حيث يميل زعيمها الراحل ياسر عرفات، فإذا مال نحو الكفاح المسلح تذهب معه، وإذا مال نحو التسوية تميل معه، وإذا غادر المفاوضات إلى الانتفاضة تغادر معه، وهذا ما يفسّر اتجاه كتائب الأقصى المنبثقة من"فتح" بتبني نمط العمليات التفجيرية / الاستشهادية على رغم أن دلالاتها السياسية لا تتوافق، كما يفترض، مع التوجه السياسي للحركة. أما على الصعيد التنظيمي فإن قيادة"فتح"لم تستطع أيضا إنضاج ثقافة التعددية والتنوع وترسيخها في شكل واضح وسليم لدى قيادات الحركة وكادراتها وأعضائها، ولدى التيارات المنضوية فيها، لغياب الأطر وتسيّبها ولضعف الروح المؤسسية وضعف علاقات التفاعل والتواصل الداخلية. هكذا لم يجر تكريس طابع"فتح"كحركة جبهوية، في الثقافة السياسية والتنظيمية الداخلية، بتكريس العلاقات الديموقراطية، وبخلق نوع من الحراك الداخلي، بل إن"فتح"ذاتها باتت أشبه بتنظيم مترهل غير واضح المعالم، إذ غابت الحدود بين الأطر، وتلاشت معايير العضوية، وباتت الحركة أقرب إلى التجمع الهلامي منها إلى تنظيم سياسي. بعد العودة إلى الداخل وقيام السلطة الفلسطينية باتت"فتح"أيضاً في مواجهة معضلات التناقض بين طابعها كحركة تحرر وتحولها حزباً للسلطة، لا سيما أنه بدا أن حركة على هذا القدر من الانفلاش يصعب عليها المواءمة بين هذين الاستحقاقين. وفي المحصلة تماهت"فتح"مع السلطة وأصيبت بتشوّهاتها علاقات البيروقراطية والفساد والمحسوبية، وهي التشوّهات التي أصابت قبلها حركات التحرر الوطني والأحزاب السياسية المعارضة في العالم الثالث جبهة التحرير الوطني في الجزائر مثلا. ولا شك في أن هذا الوضع تفاقم بعدما باتت الحركة في مواجهة تحديات الاستحقاقات الانتخابية والمنافسة على القيادة والسلطة، لا سيما من قبل حركة"حماس". وما زاد من خطورة مأزق"فتح"أنها باتت في وضع لا تحسد عليه، خصوصا أنها أخفقت في جلب التسوية، ولم تنجح في إدارة السلطة، وفقدت السيطرة السياسية والميدانية في الانتفاضة. على ذلك فثمة تحديات وتعقيدات كبيرة تواجه قيادة الحركة في هذه المرحلة، ولا نبالغ إذا قلنا أن"فتح"كحركة سياسية تقف اليوم أمام مسارين متعاكسين: فإما النضوج والنهوض على قاعدة من التجديد والتطوير السياسي والتنظيمي، أو اعتماد الطرق السابقة في القيادة والإدارة ما يؤدي بها نحو المزيد من الترهل والتفسخ. ولا شك في أن الطريق الأول يتطلب من قيادة"فتح"حسم أمرها في اتجاه إعادة هيكلة الحركة، وتحويلها من مجرد حال شعبوية إلى حركة سياسية منظمة، تتمتع بحياة داخلية مستقرة وتخضع لآليات المشاركة والتطور الديموقراطي. وعلى الصعيد السياسي فإن هذا الأمر يتطلب الانتقال من العفوية في السياسة إلى إنتاج رؤية استراتيجية تهضم أو تستوعب مختلف التطورات الحاصلة في الفكر السياسي الفلسطيني"والذي ساهمت"فتح"بقسط وافر فيه، في سنين انطلاقتها الأولى. ولا شك في أن مقاربة قيادة الحركة لهذا الطريق من شأنها تسهيل عملية التحول والتطور، أما مقاومة القيادة له فربما أدت إلى زيادة فقدانها السيطرة، وإلى إضعاف قدرتها على مواجهة التحديات الراهنة. في كل الأحوال فإن قيادة"فتح"وكوادرها معنيون بالمبادرة إلى إجراء مراجعة نقدية لمسيرة الحركة، والتجربة الفلسطينية عموما، في جوانبها: السياسية الفكرية والتنظيمية والميدانية، للإجابة عن الأسئلة الاستراتيجية الملحة التي تطرحها المتغيرات والتطورات الحاصلة في الحركة وفي الساحة الفلسطينية وفي مجال الصراع مع إسرائيل،من نوع: أين كنا وأين صرنا؟ أين أخفقنا وأين أصبنا؟ كاتب فلسطيني