تتعدّد مصادر الأزمة السياسية في الساحة الفلسطينية، فلهذه الأزمة جذورها التاريخية: الداخلية والخارجية، ولها محركاتها السياسية والتنظيمية، وايضاً لها حوافزها الشخصية والعامة: المشروعة وغير المشروعة. مع ذلك فمن السذاجة بمكان الاعتقاد بأن الأزمة الراهنة في هذه الساحة ترتبط بمجرد اصلاح النظام الفلسطيني السائد، لأن القوى التي سعّرتها هي أصلاً من أهل النظام ولها مصلحة في استمراره، فهي تستمد شرعيتها ووجودها منه، فضلاً عن انها ذاتها تتحمل قسطاً من المسؤولية بحسب موقعها عن تدهور أحواله، وبالذات عن تفاقم الفساد بنوعيه السياسي والمسلكي فيه. أما الدعوة للاصلاح بالنسبة لهذه القوى فهي في الشارع الفلسطيني مجرد شعار للاستهلاك وللاستقطاب وللتورية على توجهاتها السياسية، ولكنها ازاء السلطة فهي مجرد محاولة لابتزار القيادة، واضفاء نوع من المشروعية على سعي هذه القوى لزيادة أسهمها في بورصة النظام الفلسطيني، بما يتعلق بكيفية ادارة الوضع الداخلي وتوجيه دفة السياسة الخارجية، بالأساليب الانقلابية العسكرتارية - الديماغوجية. ولا يخفى على أحد أن القوى التي صعّدت الأزمة في هذا الشكل الدراماتيكي، تستمد قسطاً كبيراً من نفوذها من علاقاتها الخارجية الأميركية والاسرائيلية، ومن تمتعها بمصادر مالية مستقلة خارجية وداخلية غير مشروعة، ومن وجودها على رأس بعض القوى الأمنية، التي باتت تعمل بنظام الاقطاعيات. أيضاً لا يمكن النظر الى هذه الأزمة على اعتبارها تشكّل مرحلة من مراحل التجاذب أو التصارع بين دعاة التسوية ودعاة المقاومة، أو بين تيار المفاوضة وتيار الانتفاضة، أو بين جماعة الدولة وجماعة الثورة، فهذه الأزمة هي أزمة نظام وهي بمثابة أزمة في البيت، أي في بيت القيادة، وبالذات في بيت فتح، وهي الحركة التي تحملت مسيرة الانتفاضة والمفاوضة والمقاومة والتسوية. مع كل ذلك فثمة مؤشرات تؤكد أن ما يجري في الساحة الفلسطينية حالياً انما هو نوع من التصارع على السلطة، أي على النظام السياسي وعلى اتجاهات السياسة الفلسطينية مستقبلاًَ. وهو يرتبط أساساً في شكل استجابة الساحة الفلسطينية للاملاءات الأميركية والاسرائيلية المتعلقة بمسارات عملية التسوية، خصوصاً ما يتعلق منها بخطة شارون بالانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة. ومع ادراكنا للأهمية الحاسمة للمصادر الداخلية في أزمة النظام الفلسطيني، النابعة من تخلف البنية الاجتماعية والسياسية للشعب الفلسطيني وظروفه الخاصة، ومن علاقات التفرد في القيادة وغياب الديموقراطية والمؤسسات، فإنه لا يمكننا اغفال دور المصادر الخارجية، ولا سيما الشراكة المعقودة بين ادارة بوش وحكومة شارون في شأن تغيير القيادة الفلسطينية" فهذه الشراكة لعبت دوراً حاسماً في ايصال الأزمة الى هذا المستوى وظهورها في الشكل الذي ظهرت عليه. وفي الواقع فقد لعبت اسرائيل بدأب كبير على وتيرة التناقضات الداخلية للفلسطينيين، مستغلة مصاعبهم ومعاناتهم والخلل المؤسسي في نظامهم وعدم قدرتهم على التوصل الى توافقات مناسبة، في شأن رسالتهم السياسية ووسائل كفاحهم، فهذه أمور سهّلت كثيراً على المداخلات الاسرائيلية والأميركية. وكما بات معروفاً فإن نقطة انطلاق الصراع من أجل تغيير القيادة الفلسطينية بدأت بعد انتهاء مفاوضات كامب ديفيد تموز/ يوليو 2000 والتي رفض فيها الرئيس عرفات الانصياع للاملاءات الأميركية والاسرائيلية في شأن قضايا الحل النهائي: القدس، اللاجئين، المستوطنات، الحدود، الترتيبات الأمنية. وفي حينه أعلن كل من باراك زعيم حزب العمل ورئيس حكومة اسرائيل آنذاك، بتغطية من الرئيس السابق بيل كلينتون، بأن عرفات لم يعد شريكاً لإسرائيل في عملية التسوية، وانه ليس مؤهلاً لقيادة شعبه نحو السلام. في ظل حكومة شارون اليمينية المتطرفة واصلت اسرائيل سعيها للنيل من رأس النظام الفلسطيني المتمثل بالرئيس عرفات، برفضها المطلق للتعاطي معه، مدعية أنه لم يعد له صلة وأنه ليس أهلاً للثقة وأنه يسعى لتدمير اسرائيل، عبر اتفاقات أوسلو، على مراحل. وفي هذا الاطار قامت اسرائيل بإضعاف السلطة الفلسطينية، بقيامها بتدمير بناها التحتية والحد من قدراتها، وبمعاودتها احتلال المناطق والمدن التي تديرها، والتي كان من ضمنها فرض الحصار المشدد على رئيسها في مقره في رام الله، منذ أواخر 2001 ولم تكتف اسرائيل بكل ذلك إذ قامت بكل ما من شأنه تصعيب حياة الفلسطينيين، إذ أمعنت فيهم حصاراً وتدميراً، لاستنزافهم وارهاقهم، وصولاً لفرض املاءاتها عليهم. وقد بررت اسرائيل ممارساتها تلك بالدفاع عن أمنها وعدم ثقتها بالقيادة الفلسطينية، مطالبة الفلسطينيين بوضع حد للعنف أو الارهاب بمصطلحاتها وبتغيير القيادة الفلسطينية القائمة والمقصود الرئيس عرفات تحديداً. حقيقة الأمر فإن شارون كان يتوخى من كل ذلك التملص من استحقاقات عملية التسوية ومن ثم العمل على تقويضها أو تبديدها نهائياً، للخروج بإسرائيل من مسار أوسلو الذي ظل يعتبره كارثة على اسرائيل وخطراً على الصهيونية. وكالعادة فقد لاقت هذه السياسة الاسرائيلية نجاحاً أكبر بسبب الدعم الذي قدمته لها الإدارة الأميركية، فالرئيس بوش وصل الى حد رهن رؤيته لحل القضية الفلسطينية وحق تقرير المصير للفلسطينيين، بإقامة دولة لهم خطاب يوم 24/6/2002، بإدخال تغييرات على النظام الفلسطيني، الغرض منها عزل عرفات، أو نزع صلاحياته، على الأقل. وقد تم ترجمة هذا الدعم، في ما بعد، في خطة "خريطة الطريق"، التي نصّت على استحداث منصب رئيس الوزراء في الحكومة الفلسطينية، وتقليص الصلاحيات الأمنية والمالية لعرفات، في محاولة واضحة لخلق مركز قرار جديد، يمكن أن يتطور الى مركز قيادة بديلة لعرفات. الواضح أن هذه المطالب ليست مجرد مطالب لإصلاح الفلسطينيين، وتحويلهم الى نمط القيادة الجماعية وعلاقات المؤسسات والمشاركة، وانما هي مطالب سياسية بامتياز الغرض منها، أولاً، تقليص صلاحيات الرئيس عرفات، وصولاً لإضعافه أو تغييره، وهو المقصود بتجريد عرفات من سلطاته المالية والأمنية" ثانياً، مداعبة آمال الفلسطينيين بالإصلاح والتغيير لاعطاء شرعية للتدخلات الأميركية الرامية الى دفعهم للتجاوب مع الطروحات الاسرائيلية المتعلقة بالتسوية، في ظل الارهاق والاستنزاف الذي يتعرضون له بنتيجة التضييق الاسرائيلي عليهم" ثالثاً، محاولة ايجاد منبر منافس لقيادة عرفات يمكن تطويره ورعايته مع الزمن" وهو ما لم تخف الإدارة الأميركية واسرائيل عملهما عليه. واللافت ان هذا التعامل مع عرفات، من قبل اسرائيل والولاياتالمتحدة الأميركية اللتين تدعيّان الحرص على الديموقراطية، يتم على رغم كونه منتخباً من قبل شعبه لرئاسة السلطة الوطنية! اضافة الى كونه رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية وقائداً لحركة فتح، والأهم من كل ذلك أنه زعيم الفلسطينيين في كل أماكن تواجدهم" بغض النظر عن كل الاشكاليات والالتباسات التي يثيرها في سياساته وفي ادارته لأوضاع الساحة الفلسطينية. والمفارقة ان هذا الموقف الاسرائيلي والأميركي، المتغطرس، يحاول أن يتناسى وأن يتجاهل الحقيقة الساطعة والتي مفادها ان الرئيس عرفات هو الزعيم الذي استطاع نقل الوعي الفلسطيني، من المجال التاريخي والرمزي، الى المجال البرغماتي والسياسي، أو من مجال الصراع والنفي المتبادل الى مجال التسوية والتعايش المشترك. وفق صيغة دولتين لشعبين، والمتضمنة اقامة دولة للشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، أي على جزء من أرض فلسطين التاريخية" مستثمراً في ذلك ثقة شعبه به بحكم مكانته التاريخية والرمزية والوطنية. ولا شك في ان الولاياتالمتحدة واسرائيل تدركان بأن عرفات هو الزعيم الذي تتوحّد من خلفه الغالبية العظمى من الفلسطينيين، على اختلاف تياراتهم وتوجهاتهم، وأنه من بعده لن يوجد الزعيم الفلسطيني القادر على تسويق عملية التسوية مع اسرائيل، أو السيطرة على النزعات المختلفة في الشارع الفلسطيني، في المدى المنظور. ولا شك أيضاً في ان اسرائيل والولاياتالمتحدة تدركان أن عرفات أكثر اعتدالاً وبرغماتية من الغالبية العظمى من الفلسطينيين، لذلك فإن تغييره أو عزله، لن يقدم لهما شيئاً، ولن يقول الى أي اتجاه سوى الى الفوضى. ازاء ذلك يمكن القول إن حكومة اسرائيل، ومعها الإدارة الأميركية، تلعبان لعبة خطيرة، بموقفهما ضد عرفات، وبادعائهما المراوغ أنه جزء من المشكلة وليس جزءاً من الحل! في حين ان شارون الإرهابي، الذي وقف دوماً ضد اتفاق أوسلو وضد التسوية، يعرّف أميركياً بأنه رجل سلام! مما تقدم يمكن الاستنتاج بأن اسرائيل والولاياتالمتحدة تحاولان في مساعيهما المحمومة لحصار عرفات واضعافه، خلق الوقائع التي تسمح بإيجاد نوع من القيادة في الساحة الفلسطينية، تكون أكثر تجاوباً مع املاءاتهما، بعد أن عجزتا عن جر القيادة الحالية الى ذلك. ومن مراجعة كل التقديمات التي قدمها عرفات لتسيير عجلة التسوية، فإن المسعى الاسرائيلي - الأميركي لرفض التعامل معه يؤكد أن المطروح على الفلسطينيين، هو أقل بكثير من اتفاق أوسلو، وهو لا يرقى الى ايجاد حل عادل وتاريخي للصراع العربي - الاسرائيلي، ولو بالمعنى النسبي. فقد بات واضحاً ان اسرائيل في ظل حكومة شارون لا يمكن أن تقدم على خطوة نوعية في مجال احقاق حقوق الفلسطينيين. أما الإدارة الأميركية، التي يحدد سياستها تيار المحافظين الجدد، فهي لا تعتبر نفسها معنية بعملية التسوية، بقدر ما هي معنية بأمن اسرائيل وتفوقها في المنطقة، وبفرض الترتيبات الشرق أوسطية: السياسية والاقتصادية والأمنية التي تتلاءم مع مصالحها وأولوياتها. على كل ليس القصد هنا القاء مسؤولية الأزمة الفلسطينية فقط على عاتق اسرائيل والإدارة الأميركية، للتهرب من مسؤولية الفلسطينيين عن هذه الأزمة. فالمقصود هنا وضع هذه الأزمة في اطارها الموضوعي الصحيح، وبحسب معطياتها والقوى المحركة فيها وتوجهاتها. في هذا الإطار تبدو مشكلة الفلسطينيين على غاية في الصعوبة والتعقيد هذه المرة، إذ أن الحديث عن القيادة البديلة لم يعد مطروحاً من خارج المنظمة، فالمطروح حالياً محاولة تغيير النظام الفلسطيني من داخله، أي من داخل المنظمة والسلطة، ومن داخل حركة فتح ذاتها، ربما بهدف المجيء بقيادة تلائم المواصفات الاملاءات الأميركية والاسرائيلية. على ذلك فإن التحديات الراهنة تفترض من مجمل القوى الفلسطينية، سواء كانت في السلطة أو في المعارضة، توحيد جهودها ومواقفها لتفويت هذه الاستهدافات وافشالها، في تحقيق أقصى قدر ممكن من التوافق السياسي والميداني" من دون أن يلغي ذلك أهمية العمل على تطوير النظام السياسي الفلسطيني، من داخله وبحسب أولوياته وحاجاته. ولا شك أن القيادة الفلسطينية وفي مقدمها الرئيس عرفات تحديداً، وازاء هذه التحديات، معنية بالمبادرة الى عملية اجراء مراجعة حساب للذات ونقد التجربة الماضية واستنتاج العبر المناسبة منها للشروع في بناء البيت الفلسطيني على أسس وطنية مؤسسية وديموقراطية سليمة، تتجاوب مع حاجات الشعب الفلسطيني وتتناسب مع امكاناته وتضحياته، بما يقوي الساحة الفلسطينية، في مواجهة التحديات التي تعترضها، وبما يعزز مناعتها أمام التدخلات والاختراقات الخارجية. * كاتب فلسطيني.