منذ اندلاع انتفاضة الأقصى، قبل أربعة عشر شهراً، اضطلعت حركة فتح وأجهزتها بدور أساسي وريادي في المقاومة المسلحة ضد قوات الاحتلال الاسرائيلية وعصابات المستوطنين، في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولكن هذا الدور لم يحظ بالاهتمام المناسب في وسائل الإعلام العربية، ولا في أوساط المحللين والمتابعين. ويمكن تفسير ذلك بعدة أسباب من ضمنها: أولاً: عزوف حركة "فتح" عن اعلان مسؤوليتها عن غالبية هذه العمليات، والتي يجري الإعلان عنها بإسم "كتائب الأقصى" أو "كتائب العودة"، التي باتت تظهر بمثابة أجنحة عسكرية للحركة. وهذا العزوف ناجم عن أسباب سياسية عدة تتعلق بفهم "فتح" لإدارة الصراع مع اسرائيل وتمسكها بعملية التسوية، في اطار محاولتها فرض معادلة جديدة تتأسس على الانتفاضة والمفاوضة، كما تتعلق بالموقع القيادي الذي تحتله هذه الحركة في السلطة الوطنية الفلسطينية واعترافاً منها بالالتزامات والمسؤوليات التي تقع على عاتق هذه السلطة التي تحتضن الانتفاضة، من دون أن تقطع مع عملية التسوية. ثانياً: عدم تفهّم غالبية المتابعين والمحللين لهذه الظاهرة، أو التشكيك في صدقيتها بالحديث عن الفصل بين قيادة هذه الحركة المساومة وقواعدها المناضلة. وفي رأي هؤلاء فإن حركة "فتح" أقلعت عن دورها النضالي وذهبت الى التسوية، ما صعّب عليهم مناقشة الأمور وتحليلها بموضوعية خصوصاً وأن هؤلاء لم يستوعبوا مغزى مقاومة القيادة الفلسطينية ورفضها للاملاءات الاسرائيلية والأميركية في مفاوضات كامب ديفيد 2 تموز 2000، والتي شارك فيها الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون شخصياً. وما يزيد الوضع التباساً، على الكثيرين، الإعلان المتكرر للرئيس ياسر عرفات عن الالتزام بعملية التسوية والدعوة لوقف اطلاق النار، في هذه الظروف الصعبة والمعقدة. والمشكلة هنا أن الوعي السياسي العربي ما زال، على الغالب، وعياً كلامياً أكثر منه وعياً يتأسس على الواقع والممارسة السياسيين. ثالثاً: تركيز وسائل الإعلام على العمليات الاستشهادية التي تحدث دوياً هائلاً والتي توقع خسائر بشرية كبيرة في صفوف الاسرائيليين، خصوصاً وان اسرائيل ذاتها عمدت الى التركيز على هذه العمليات تحديداً لوصم أعمال المقاومة بالارهاب وللنيل من شرعية وعدالة الكفاح الفلسطيني، خصوصاً ان هذه العمليات استهدفت المدنيين داخل اسرائيل. رابعاً: ظهور عمليات المقاومة التي تنتهجها "فتح" وكأنها جزء من فاعليات الانتفاضة العادية واليومية، والتي تجري داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة ضد الاسرائيليين من العسكريين والمستوطنين. ولكن وقائع المقاومة المسلحة خلال أشهر الانتفاضة سلطت الأضواء، مجدداً، على الدور الكبير الذي ما زالت تضطلع به حركة "فتح" في المقاومة المسلحة للاحتلال الاسرائيلي، على رغم الإعلان المتكرر عن وقف اطلاق النار، من قبل السلطة الفلسطينية. وبحسب بعض المراقبين فإن انتقال "فتح" الى الإعلان المباشر عن عملياتها، عبر كتائب الأقصى والعودة، جاء استجابة للحاجات التي فرضتها تطورات الانتفاضة وبضغط من الكوادر الميدانيين، وفي اطار رؤية فتحوية بضرورة ايجاد هامش بين "فتح" و"السلطة"، وأيضاً في سياق محاولة "فتح" اعادة الاعتبار لذاتها والحؤول دون استثمار الفصائل الأخرى لنضالاتها" أما تاريخ الإعلان عن هذه الكتائب فجاء بعد اغتيال الشهيد حسين عبيات في بداية الشهر الثاني للانتفاضة. عموماً فإن نشاط حركة فتح لم يعد سراً على أحد فقد رصد المحللون الاسرائيليون نشاطات هذه الحركة، وهذا روني شيكد يقول: "منذ بدأت انتفاضة الاستقلال غدا تنظيم فتح "حزب الله" المناطق: ميليشيا تقوم في النهار بتحريض الشارع الفلسطيني وفي الليل تنفذ عمليات عصابية ومهام ارهابية وخصوصاً اطلاق الرصاص على المستوطنات والمنشآت العسكرية أو نصب كمائن بالرشاشات أو العبوات الناسفة على الطرقات". "يديعوت أحرونوت" 10/11/2000. أما يوآف ليمور فيقول: "رام الله هي مدينة القادة. من هنا تصدر الأوامر، وهنا تبدأ كل الشرور". احدى هذه القيادات هي قيادة القوة 17، في السنة الأخيرة شكلت عناصر هذه القوة... ازعاجاً جدياً لقوات الأمن. فقد نفذوا مئات العمليات خصوصاً اطلاق النار على المحاور والطرقات". معاريف 26/10/2001 ويحتار اليكس فيشمان في تفسير ظاهرة اعلان "نشطاء فتح مسؤوليتهم عن هجمات ارهابية... هل من الجائز انه عرفات لا يسيطر حتى على رجاله؟ أم ان رجاله ربما جرى افهامهم ان العمليات الارهابية مسموح بها في منطقتي ب وج ضد المستوطنين والجنود، وان العمليات على الطرق هي جزء من قواعد لعبة اطلاق النار؟" يديعوت أحرونوت 24/10. وتؤكد هآرتس 20/9/2001 أن "عرفات حرك ضد اسرائيل وبوسائل مشابهة أجهزة رسمية القوة 17 ومنظمة غير حكومية خاصة فتح - التنظيم الى جانب المنظمات التي تعتبر الارهاب عقيدة". وفي الواقع فإنه ومنذ بداية الانتفاضة ثمة صراع معقد ودامي بين فتح والأجهزة الأمنية الاسرائيلية، لزمت فيه قيادات "فتح الصمت" تاركة للفعل تأثيره، في وقت شنّت فيه اسرائيل حرباً علنية ضد "التنظيم" وضد الأجهزة الأمنية التيي تتبع لفتح وللسلطة الفلسطينية، الى درجة انها وجهت فيها الاتهام للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بأنه يحرض على "العنف" وبأنه يقف وراء موجة "الإرهاب" ضدها، كما اتهمته، بعد الهجوم الارهابي على أميركا، بأنه بمثابة "بن لادن" بالنسبة لها. وبعيداً عن لغة التحليل والتكهنات فإن لغة الأرقام والإحصائيات تؤكد كل ما ذهبنا اليه، وهذه الأرقام والإحصائيات تؤكد بأن حركة فتح نفذت أكثر من 80 في المئة من العمليات ضد الاسرائيليين في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وهذا ما يعترف به الاسرائيليون أنفسهم. ويمكن القول هنا ان الحركة التي حملت عبء نمو ظاهرة المقاومة المسلحة ضد الاحتلال والمستوطنين، تحملت هي أيضاً وطأة عمليات الاغتيال الاسرائيلية التي استهدفت عدداً كبيراً من كوادرها الميدانيين، حتى ان أول عملية اغتيال اسرائيلية، خلال أشهر الانتفاضة، نفذت ضد واحد من هذه القيادات هو الشهيد حسين عبيات، الذي اغتيل يوم 9/11/2000، كما أن ما يؤكد ذلك استشهاد 103 من رجال الأمن الفلسطينيين، من أصل 682 شهيداً، خلال العام الأول للانتفاضة. وقد شهد العام الأول للانتفاضة مقتل حوالى 164 اسرائيلياً، حوالى 59 منهم قتلوا بنتيجة 9 عمليات استشهادية من أصل 12 عملية ولكن أكثر من 90 اسرائيلياً قتلوا بالرصاص وبعبوات متفجرة، وبحسب معاريف فإن معطيات أجهزة الأمن تشير الى أن حوالى 80 في المئة من العمليات نفذت من قبل أوساط مرتبطة بالسلطة الفلسطينية أو من قبل أشخاص عملوا لصالحها. وقال المصدر انه يبرز في العمليات دور قوات 17 والاستخبارات العسكرية وأطر المخابرات العامة في قطاع غزةوالضفة الغربية وأوساط من جهاز الأمن الوقائي" 8/1/2001. وتقول صحيفة هآرتس 24/10/2001 أنه "منذ بداية الانتفاضة قتل 80 اسرائيلياً من أصل 164 في عمليات نفذتها أجهزة الأمن الفلسطينية". وبعد اغتيال عاطف عبيات من كوادر فتح أكدت معاريف في عددها الصادر يوم 19/9/2001 أنه لوحده مسؤول عن مقتل 5 اسرائيليين وجرح الكثير من المجندين والمستوطنين. وتذكر صحيفة هتسوفيه 24/9 نقلاً عن مصدر استخباري انه "منذ بداية الانتفاضة في العام الماضي قتل 176 اسرائيلياً بإضافة 13 شهيداً من العرب في اسرائيل استشهدوا برصاص الأمن الاسرائيلي وأصيب 1742 شخصاً آخر بجروح. وبحسب التوزيع الذي أجراه الجيش ثمة 71 قتيلاً من بين القتلى من رجال الأمن والباقي 127 من المدنيين من المستوطنين والاسرائيليين داخل الخط الأخضر. أما الجرحى فثمة 1742 جريحاً اسرائيلياً من بينهم 524 من رجال الأمن و1215 من المدنيين. وأبلغ رئس هيئة الأركان الجنرال شاؤول موفاز أعضاء اللجنة أنه في العام الماضي نفذ الفلسطينيون حوالى 8000 عملية ضد اسرائيل منها 84 عملية في الجبهة الداخلية، داخل الخط الأخضر". وهذه الإحصائيات قريبة الى حد ما من احصائيات التقرير الصادر عن مركز الإعلام الفلسطيني التابع لحركة حماس، فبحسب هذا التقرير فإن كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس سجلت أكبر عدد من تفجير السيارات وعمليات الاستشهاديين في المدن الصهيونية الرئيسية حيث نفذت الكتائب 12 عملية استشهادية كبيرة سقط فيها 61 صهيونياً - على الأقل - في ناتانيا وتل أبيب وغزة والقدس الغربية وكفار سابا ونهاريا حتى 10/9/2001 وأن كتائب شهداء الأقصى التابعة لفتح نفذت أكبر عدد من عمليات اطلاق الرصاص ضد قوات الاحتلال وبالتحديد في الضفة الغربية التي تشهد يومياً عمليات اطلاق نار ضد المستوطنين وجنود الاحتلال حيث سقط فيها 30 صهيونياً. أما حركة الجهاد الإسلامي فنفذت أربع عمليات كبيرة سقط فيها 10 من الصهاينة. وفي عمليات نفذتها الجبهتان الشعبية والديموقراطية قتل 6 صهاينة. ولم يذكر التقرير من يقف وراء مقتل 73 صهيونياً، لأنه بحسب التقرير لم تعرف الجهة التي قامت بقتلهم حتى الآن! وعموماً فإن المصادر الأمنية الاسرائيلية تحمل المسؤولية لفتح وأجهزتها ولأجهزة السلطة عن مقتل هؤلاء. وكما قدمنا فإن عدم الإعلان عن غالبية الفاعليات العسكرية ينسجم مع التوجه السياسي للسلطة الفلسطينية التي تقودها حركة "فتح"، والتي لا نجد الإمكانية ولا المصلحة السياسية في اعلان الحرب المفتوحة ضد اسرائيل، في هذه المرحلة الصعبة والمعقدة، فمن الذي يستطيع النيل من 73 رجل أمن وجندي اسرائيلي، خصوصاً، إذا علمنا ان العمليات الاستشهادية في معظمها وجهت ضد المدنيين الاسرائيليين؟ أما الدور الريادي لفتح، فهو لا يتعلق فقط بتوسيع وتعزيز المقاومة المسلحة وانما يتعلق أيضاً بتوجيه وتسييس هذه المقاومة، فقد استهدفت عمليات فتح المستوطنين والعسكريين الضباط والمجندين الاسرائيليين، هذا أولاً، وثانياً فإن الغالبية العظمى من هذه العمليات نفذت داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة والقطاع، ثالثاً، لم تنتهج حركة فتح خط العمليات الاستشهادية، بسبب التحفظ تجاه هذه العمليات التي تطاول على الغالب لمدنيين ومن ضمنهم أطفال ونساء، وهو ما يثير اللبس والجدل، من النواحي الأخلاقية والسياسية، ولذلك فقد انتهجت خط العمليات المباشرة التي ينفذها مقاتلون محترفون بهدف ايقاع الأذى بالمستوطنين والعسكريين، كما انتهجت خط وضع العبوات الناسفة في عمليات خاصة ضد الإسرائيليين العاملين في جهاز الاستخبارات وضد ضباط الجيش. وهذه العمليات هي التي ساهمت بتقويض الاستقرار بالنسبة الى جمهور المستوطنين الاسرائيليين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي التي حولت المستوطنات من كونها ذخراً استراتيجياً لإسرائيل الى كونها عبئاً سياسياً وأمنياً بالنسبة لها. وقد شهد العام الأول للانتفاضة مصرع 51 عسكرياً وضابطاً بالإضافة الى 72 مستوطناً داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، 67 اسرائيلياً داخل الخط الأخضر 59 منهم بنتيجة العمليات الاستشهادية. وعلى العموم فإن حركة "فتح" تخوض المقاومة المسلحة انطلاقاً من مفاهيم عدة من ضمنها: أولاً، ان العمل المسلح الفلسطيني لوحده لا يستطيع ان يحقق أهداف الفلسطينيين، وأن هذا العمل ليس غاية في ذاته، وأنه يجب ان يقترن بخطة سياسية مسؤولة تؤدي الى نتائج ملموسة. ثانياً، ضرورة تفويت الفرصة على اسرائيل التي تريد اظهار الانتفاضة باعتبارها عملاً مسلحاً يستهدف أمن المدنيين في اسرائيل ذاتها للتغطية على ممارساتها الارهابية ضد الفلسطينيين. ثالثاً، عدم الانجرار الى الفخ الذي تنصبه اسرائيل بجر الانتفاضة الى الميدان الذي تتفوق هي فيه، أي الميدان العسكري، خصوصاً أن هذا الوضع يحرر اسرائيل من القيود الدولية، كما أنه يزيد من كلفة الانتفاضة على الجماهير الفلسطينية ويؤثر على قدرتها على التحمل وبالتالي فإنه يؤثر على طول نفس الانتفاضة في صراع يفترض انه طويل ومعقد ومضنٍ" رابعاً، الاعتقاد بأن الأوضاع الراهنة على الصعيدين الدولي والعربي لا تسمح بترف طرح الشعارات، مهما كانت نبيلة، وأن هذه الأوضاع تعترف بشرعية الكفاح الفلسطيني من أجل دحر الاحتلال من الأراضي الفلسطينية المحتلة، خصوصاً وان الانتفاضة بحد ذاتها التي تجري في الحدود الجغرافية والبشرية لهذه الأراضي لا تستطيع حمل عبء ايجاد حلول لمجمل قضايا الصراع العربي - الاسرائيلي. وعليه فإن من المهم مراقبة جبهة الصراع الفلسطينية - الاسرائيلية، وتحليل ما يجري فيها بموضوعية وبصبر كبيرين بعيداً عن لغة الشعارات ووجهات النظر المسبقة، وبعيداً عن التكهنات التي تحاول التمييز بين السلطة وفتح أو بين قيادة فتح وقواعدها، فهذه التفسيرات السهلة مريحة للبعض ولكنها أولاً لا علاقة لها بالحقائق وثانياً لا تجاوب على الواقع المركب للكفاح الفلسطيني. * كاتب فلسطيني.