أثارت مسألة انعقاد المؤتمر السادس لحركة «فتح» اهتماما واسعا، خصوصا في الساحة الفلسطينية. فقد مر عقدان على المؤتمر السابق، وهذا أول مؤتمر سيتم عقده بغياب ياسر عرفات، الزعيم التاريخي لهذه الحركة، وبعد ولوج طريق التسوية وإقامة السلطة. وفوق كل ذلك فهذا المؤتمر سيتم عقده في ظروف صعبة بالنسبة الى «فتح» بعد تراجع دورها كحركة تحرر وطني، وانحسار مكانتها القيادية في الساحة الفلسطينية، وظهور «حماس» كندٍ لها في الصراع على مكانة القيادة والشرعية. وعلى خلاف ما يعتقد كثيرون فإن معضلة حركة «فتح»، لا تقتصر فقط على مسألة انعقاد المؤتمر، أو على غياب التوافق من حول مكان وزمان عقده وعدد أعضائه، بالرغم من أهمية كل ذلك. مثلما أنها لا تتعلق فحسب بعدم توفر قيادة تاريخية جامعة لهذه الحركة من وزن الزعيم الراحل ياسر عرفات. فثمة، إضافة لما تقدم، معضلات تكوينية في هذه الحركة نشأت معها منذ قيامها، ضمنها غياب البني المؤسسية، واحتكار القيادة (وبالتالي الزعيم) التقرير بشؤونها وسياساتها، وضعف قطاع التنظيم فيها، لاعتباره مجرد جهاز من أجهزتها الأخرى، والاستهتار بالعمل السياسي (والفكري) لصالح المبالغة بالعمل الدعوي والشعاراتي والأمني والمظاهر المسلحة. ومعنى ذلك أن هذه الحركة تحتاج إلى أكثر من مؤتمر لتصويب أوضاعها، بل إنها بحاجة ماسة لإعادة صياغة، أو تأسيس جديد، لبناها وعلاقاتها وأشكال عملها واطروحاتها السياسية. صحيح أن هذه الحركة التي ساهمت في بلورة الهوية الوطنية وبادرت للكفاح المسلح ومكّنت البعد الفلسطيني من الحضور في المعادلات السياسية في المنطقة، وقادت العمل الوطني طوال أكثر من أربعة عقود، واجهت العديد من الامتحانات والمنعطفات الصعبة والخطيرة، إن بالاحتكاك مع بعض النظم العربية، أو بحكم استهدافها من قبل إسرائيل، ما أثر عليها كثيرا. لكن، وعلى أهمية كل ما تقدم، فإن عوامل العطب الذاتية (التي ذكرناها) هي التي أدت إلى ترهل جسم هذه الحركة وتكلسه، وبالتالي إلى تراجع مكانتها في العمل الوطني، الأمر الذي تجلى في شكل خاص بخسارتها الكبيرة في الانتخابات التشريعية الثانية (2006) وانهيار وضعها بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة (2007). وكما هو معلوم فإن هذه الحركة لم تستطع أن تطور بناها وعلاقاتها الداخلية، أما تفكيرها السياسي فتوقف عند الشعارات التي أطلقتها في منتصف الستينات، على رغم كل التحولات السياسية التي أقدمت عليها. وبعد الخروج من لبنان (1982) تراجع دور هذه الحركة في ميدان الكفاح المسلح ، لكن امتداداتها وقدراتها ورمزيتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة مكنتها من تسيير الانتفاضة الأولى (19871993)، واستثمارها في ما بعد، في عقد اتفاق أوسلو (1993)، بكل الإجحاف المتضمن فيه كثمن للاعتراف الإسرائيلي بقيادة منظمة التحرير وهي ذاتها قيادة فتح. وهذا إنما انعكس سلبا على الحركة باعتبارها حارسة «الحلم» الفلسطيني. وقد تفاقمت معضلة «فتح»، بعد قيام السلطة، واعتبارها بمثابة حزب لها، وتحول كوادرها إلى موظفين فيها، ما أدى إلى فقدانها طابعها كحركة تحرر، وإصابتها بلوثة السلطة والتسوية، في آن معا، ما أثار من حولها الشبهات الوطنية والمسلكية. بعد ذلك، وعندما حاولت «فتح» استعادة زمام المبادرة وتعزيز صدقيتها في المجتمع، عبر المزاوجة بين المقاومة والمفاوضة، واستئناف عمليات المقاومة المسلحة، خلال الانتفاضة الثانية (التي اندلعت أواخر عام 2000)، أدى ذلك إلى مفاعيل سلبية، إذ افتقدت الانتفاضة طابعها الشعبي، وسهل على إسرائيل استهداف السلطة و»فتح» معاً. وكان ما ساعد على ذلك واقع التخبط والفوضى في هذه الحركة. واللافت أن حركة «فتح» لم تعمد ولا مرة الى مراجعة أوضاعها الداخلية، أو تجاربها، كما أنها لم تقم ولا مرة بمحاسبة أو مساءلة أي من قيادييها، بشأن أي شبهة، أو اتهام، ذي طبيعة مسلكية أو أخلاقية أو وطنية، وهي أوضاع أضعفت من صدقية هذه الحركة في المجتمع الفلسطيني، بعد أن تفشت مظاهر الفساد والمحسوبية والفوضى، في مناطق السلطة. وإضافة إلى كل ما تقدم فإن قيادة «فتح»، وخاصة الزعيم الراحل ياسر عرفات (وبعده أبو مازن)، تتحمل مسؤولية تهميش إطارات ومؤسسات منظمة التحرير لصالح السلطة، كما يحسب عليها إضعاف روح التنوع والتعددية في الساحة الفلسطينية، بعد أن باتت هي بالذات تفتقد اليها، مثلما افتقدت للعلاقات الديموقراطية. لكن وللإنصاف، أيضا، فإن معضلة «فتح» تكمن أساسا في عدم تمكنها من تحقيق انجازات ملموسة في مواجهة عدوها، لا بالانتفاضة ولا بالمقاومة، لا بالمفاوضة ولا بالتسوية. هكذا تم تضييع منظمة التحرير، والسلطة لم تتحول إلى كيان، بقدر ما تحولت إلى جهاز للسيطرة وتغطية واقع الاحتلال، بدعوى الاستقلال. والمؤسف أن الكفاح الفلسطيني بالانتفاضة والمقاومة تمخض عن حالات مزاجية وفوضوية وعاطفية، بدلا من كونه نتاج إستراتيجية مدروسة ومنظمة. أما ولوج طريق المفاوضات والتسوية فكشف عن واقع خبوّ الروح الوطنية وعدم قدرة القيادة الفلسطينية على توليد البدائل والمعادلات السياسية للرد على التملصات الإسرائيلية. وبالمحصلة، وبسبب من كل ما سبق، استطاعت إسرائيل تجويف هذه الحركة، وتأزيمها، وإثارة الشبهات من حولها، بشأن تخليها عن وضعها كحركة تحرر وطني، واعتمادها طريق التنازلات. وهي الأوضاع التي مهدت لصعود «حماس»، وأفول حركة «فتح». فهل ثمة إرادة فتحاوية، أو هل ثمة متسع بعد لوقف هذا التدهور؟