هنالك متغيرات على أكثر من جبهة من الجبهات المشتعلة في المنطقة. فالعراق اجتاز مطباً كبيراً كان يُعد له عندما تحدى العراقيون أو عدد لا بأس به منهم، كل التهديدات الإرهابية وتوجهوا إلى صناديق الاقتراع وبذلك انتزع العراقيون بجرأتهم وتوقهم إلى واقع جديد أمن ومستقر حقهم في الحياة رغم هدير الصواريخ والقذائف المتطايرة والسيارات المفخخة وكل أنواع القتل والدمار. ومع حدوث بعض الهنات الهينات والشوائب فهذا لا يقلل من أهمية الحدث خاصة وأنها التجربة الأولى لانتخابات متعددة الآراء والاتجاهات التي يشهدها العراق منذ نصف قرن. فالديموقراطية ثقافة وممارسة عريقة ومكثفة وتحتاج إلى وقت لإتقانها خاصة في دول العالم العربي. ومن هذا المنطلق اعتبر الرئيس جورج دبليو بوش مجرد إجراء الانتخابات في العراق نصراً أهداه لنفسه وإضافة إلى فوزه الأصلي بولاية ثانية. ولوحظ هذا الأمر في خطاب"حالة الاتحاد"الذي ألقاه فجر الخميس وكرس فيه قسماً كبيراً للحديث عن الانتصار الآتي في العراق كما أنه بدد الكثير من الكلام الذي يتردد حول احتمال انسحاب القوات الأميركية عندما أكد بشكل حاسم عدم وجود نية لمثل هذا الخروج من العراق. أما السلام الضائع منذ فترة طويلة فقال بوش بأنه يرى بلوغ سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين"في متناول اليد"وكذلك قيام الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية. وإذا أمكن اختصار ما جرى في الأيام القليلة الماضية وبمعزل عن مفاجآت الأيام الآتية لوجب القول: لقد ربح العراق الجديد جولة لكنه لم يربح الحرب بعد... كما خسر الإرهاب المحلي والوافد جولة لكنه لم يخسر الحرب نهائياً بعد. ولا يزال السؤال المحوري مطروحاً بقوة: هل أن العراق لا يزال موحداً ويجب العمل على منع تقسيمه؟ أم أنه مقسم ويجب العمل على إعادة توحيده؟ أن الجواب القاطع على هذا التساؤل غير متوافر بصفة جادة وواثقة، وكل ما يقال في هذا المجال لا يتعدى التعبير عن الأمنيات سواءً من الطرف الذي يرى في الحكم الذاتي ذلك المنحى الصحيح لحاضره ومستقبله... أو من الطرف الذي لا يريد تقسيماً للعراق لأنه يعلم مدى خطورة هذا التطور في حال حدوثه. ووسط هذه الأجواء من التحولات أنجبت سيدة عراقية طفلة أطلق عليها اسم"انتخابات". وهذه التسمية لها مدلول خاص ومميز باعتبار أن العراق شهد عملية انتخابية للمرة الاولى، وهذا يعني أن التسمية كانت تيمناً بحدث استثنائي شهده تاريخ العراق المعاصر، لا ما كان يحدث من قبل. أما الوجه الآخر للمتغيرات المفاجئة في المنطقة فيتمثل بانعقاد قمة شرم الشيخ الثلثاء المقبل بين رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وآرييل شارون بمشاركة مصر ولأردن. ومع أن التجارب الكثيرة والمريرة علمتنا عدم التفاؤل المفرط في إطار حدوث عملية اختراق في مسألة السلام بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، فإن هذا الحدث لا يمكن التقليل من أهميته بقطع النظر عن النتائج المفترضة له. فهي المرة الأولى التي يستأنف فيها هذا الحوار منذ أربع سنوات شهدت الكثير من المآسي المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني. وفي المقابل كانت الانتفاضة الفلسطينية المتواصلة خلال هذه الفترة والتي حاولت الدفاع عن نفسها وعن شعبها وعن حقوقها. وعلى رغم عدم التكافؤ في الامكانات العسكرية فإن فترة السنوات الماضية كانت وبالاً على الفلسطينيين والإسرائيليين معاً. وهكذا يبرز من جديد شرم الشيخ كمرفأ للحلول التي تم إجهاضها أكثر من مرة. فعلى نفس الشاطئ الحالم عقدت عدة لقاءات إقليمية ودولية لكن كل الاتفاقات التي تم التوصل إليها والوعود التي قطعت تبددت بسرعة وذهبت هباء كعصف الريح. والمهم في الأمر أن يتذكر الرئيس جورج بوش لقاءه الشهير بمحمود عباس، عندما كان رئيساً للوزراء في فلسطين، وكيف أن الولاياتالمتحدة من جهة وإسرائيل من جهة لم تقدما الدعم المطلوب لعباس حتى أرغم على الاستقالة، وبقيت التفاصيل معروفة. وإذا كانت إسرائيل ومعها الولاياتالمتحدة تعتبران أن الرئيس الراحل ياسر عرفات كان عقبة في وجه السلام ... فإن ما قام به أبو مازن خلال أيام قليلة يجب التنويه به سواء لجهة إصلاح العلاقات مع بقية الفصائل لمواجهة تطورات المرحلة المقبلة أو لجهة قول الكلام الصريح عن عدم عسكرة الانتفاضة. والأمر المهم ليس في التصريحات الكلامية التي تشيد بالرئيس الفلسطيني بل في الطريقة العملية التي يمكن مساعدة أبو مازن بها ليؤكد لشعبه أن هنالك بوادر إيجابية قد تؤدي إلى وقف شلالات الدم والدوران في حلقة الموت المفرغة. ومع كل هذه البوادر التي برزت بسرعة لا بد من ربط ما جرى وما سيجري بتولي وزارة الخارجية الأميركية الدكتورة كوندوليزا رايس. ويكفى التوقف عند أول مهمة ديبلوماسية تقوم بها بعد الموافقة على تعينها هي الحضور إلى الشرق الأوسط، للتأكيد على أولويات سمراء الخارجية الأميركية في عهد بوش المجدد له. فهذا الأمر لم يأت اعتباطاً بل هو يلتقي مع نظرة بوش ورايس بضرورة التوصل إلى سلام فلسطيني - إسرائيلي من زاوية أن مثل هذا السلام من شأنه أن ينعكس إيجاباً على الأمن القومي الأميركي، كذلك فالأمر يمس مباشرة الواقع الأميركي وأن تواصل الحالة المضطربة في المنطقة سيبقى الولاياتالمتحدة في حالة من القلق. ومن دون أي دفاع مسبق عن مواقف وسياسات الآنسة رايس فقد سبق لها عندما كانت مستشارة الرئيس لشؤون الأمن القومي أن أدلت بآراء فيها الكثير من الإيجابيات للحق الفلسطيني، وليس تبني المواقف الإسرائيلية من دون أي نقاش، والمؤمل أن تطبق وزيرة الخارجية الأميركية الجديدة تطلعاتها ومواقفها خلال فترة"عهدها"للسنوات الأربع المقبلة خاصة وأنها صاحبة الكلمة المسموعة جداً لدى الرئيس الأميركي. إن رياح التغيير التي تهب على المنطقة تحمل جديداً على غير صعيد واتجاه. وقد آن للإدارة البوشية أن تدرك عملياً وحسياً مدى نتائج وأضرار الحسابات الخاطئة لمواقفها سواءً في العراق أو في عملية السلام في المنطقة دون إسقاط التركيز على قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1559 الذي هو صناعة أميركية - فرنسية مشتركة. ويبقى المطلوب بإلحاح من أهل المنطقة وخصوصاً من صناع القرار فيها قراءة المتغيرات في الموقف الدولي العام، والتأكد من ارتكاب أخطاء قاتلة ومميتة لا تشفع لأصحابها بالصفح والغفران لأن المواقف الدولية ليست جمعيات خيرية تتبرع بالنصائح والحلول مجاناً. والذي لا يقرأ تداعيات هذا الموقف جيداً سيعرض نفسه وشعبه لكثير من المتغيرات التي تباغت وتفاجئ أحياناً. لقد توسع نطاق"حالة الاتحاد"ليتجاوز حدود الولاياتالمتحدة والرئيس جورج دبليو لا يمانع حتماً التوسع لذا وجدناه يشيد بهذا وينتقد ذاك. أشاد بالعراقيين الذين شاركوا في الانتخابات الأخيرة وأنتقد سورية وإيران لمواقفهما من"رعاية الإرهاب"، كما كان ناصحاً في بعض مراحل الخطاب حيث تمنى المزيد من الديموقراطية والمشاركة الشعبية للمملكة العربية السعودية ومصر. ويبقى السؤال: هل تغير بوش الثاني عن بوش الأول؟ أن التغير سمة بشرية طبيعية ومن دون التخلي عن"الثوابت"التي ألزم نفسه بها يمكن للرئيس الأميركي أن يحدث بعض التغيرات في ممارسات سياسته الجديدة القديمة. ولدى الغوص في تفاصيل القضايا التي يتوقع أن تهب عليها رياح التغيير نتوقف قليلاً عند قمة شرم الشيخ الفلسطينية - الإسرائيلية وبمشاركة مصرية وأردنية. لقد حدث"شرم الشيخ"من قبل، وحضر الرئيس بوش شخصياً، وهذه المرة ربما تمثله كونداليزا رايس لكن"العقبة"قمة العقبة تغلبت على أي تفاهم أو اتفاق. وحول هذا الأمر كتبت صحيفة"يديعوت احرونوت":"منذ أزمة المحادثات في كمب ديفيد فهم الكثيرون بأنه لا يمكن الوصول إلى حل سلمي. فاليمين الإسرائيلي فهم أن مشكلة النزاع ذي المئة عام، لكنه لم يفهم الحلول. أما اليسار ففهم الحلول لكنه لم يفهم المشكلة. والآن فإن شارون وأبو مازن يسيران معاً حتى لو لم يتم اللقاء التام بينهما. فالسلام لا يلوح في الأفق لكن الحلول الانتقائية قائمة، ولن يفرح أحد ولكن أن يعيش أفضل له من أن يكون محقاً نحن نسير نحو نهر دماء وسيكون هادئاً ليس مئة في المئة، لكن في الحياة لا توجد مئة في المئة". وكأن مثل هذا الكلام يمهد إلى أنصاف حلول وليس إلى حلول كاملة. وفي قضية النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي ليس من حلول عجائبية تقلب الموقف رأساً على عقب. والسؤال المحوري المطروح دائماً وابداً: هو الموت من أجل القضية هو الشعار النهائي لهذا الصراع؟ أم أن الحياة أو بعضاً منها هو حق طال انتظار استرداده وآن الأوان لتكون الحياة من أجل فلسطين وليس فقط الموت من أجلها؟ ماذا يختلف الوضع الآن عما سبق؟ هناك رئيس فلسطيني جديد. وهناك ولاية جديدة للرئيس الأميركي. وهنالك قناعة لدى شارون بضرورة التوصل إلى تسوية من دون التضحية بالمزيد من الإسرائيليين الذين وعدهم بالأمن خلال مئة يوم منذ أن تولى السلطة! وهناك أخيراً اقتناع لدى الفلسطينيين بضرورة التوصل إلى تفاهم ووقف النزيف الكبير. كلها عوامل يمكن أن تسهم في تهيئة أجواء التغيير التدريجي والهادئ، حتى لا تعصف الرياح العاتية وتقلب الطاولات والمواقف والهيكل على رؤوس الجميع. كاتب لبناني.