قبل مجيء وزير الخارجية الاميركي كولن باول الى المنطقة بأسبوع تقريباً، أرسل أرييل شارون مدير مكتبه دوف فايسغلاس الى واشنطن بهدف ادخال تعديلات على نصوص "خريطة الطريق". وبعد مراجعة سريعة للتحفظات التي قدمتها الحكومة الاسرائيلية على مشروع بوش للسلام، وافقت مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس على اثنتي عشرة نقطة من أصل أربع عشرة نقطة. وأهم ما ورد في هذه التحفظات البند المتعلق بالنشاط الاستيطاني المطلوب تجميده خلال هذه السنة. وينص هذا البند على ضرورة انسحاب اسرائيل الى حدود ايلول سبتمبر 2000 اثر انتخاب ادارة فلسطينية جديدة، والشروع بتفكيك كل المستوطنات غير الشرعية التي بنيت منذ آذار مارس 2001. وطلب فايسفلاس تأجيل بحث هذا الموضوع الحساس الى المرحلة الأخيرة من المفاوضات - اي سنة 2005 - على اعتبار ان تجميد البناء سيعرض خطة السلام للانهيار بواسطة 220 ألف مستوطن يشكلون أربعة في المئة من عدد سكان اسرائيل تقريباً. وادعى في نقاشه ان المواقع الاستيطانية تمثل تواصلاً لنمو طبيعي حول المستوطنات القديمة المبنية على أراضي الضفة الغربية منذ 36 سنة. واضطرت المستشارة رايس لأن تعرض على مدير مكتب شارون صوراً جوية أخذتها الأقمار الاصطناعية إبان حكم ليكود تثبت بناء مستوطنات جديدة خارج الخط الأخضر. الصحف الاسرائيلية تعزو طلب تأجيل البحث في موضوع المستوطنات الى عدم استكمال بناء جدار الفصل الذي سيتم انجازه آخر شهر تموز يوليو. وهو الجدار الذي تعتبره حكومة ليكود أفضل حل عملي لحماية الاسرائيليين من "الارهابيين" الفلسطينيين الذين يتسللون عبر الخط الأخضر. ولقد انتقدت العواصم الأوروبية بشدة هذا العمل واعتبرته نسخة مكررة منقولة عن جدار برلين. ومع ان شارون ينفي ترسيم الحدود النهائية لاسرائيل الكبرى وفق جدار الاسمنت الفاصل، إلا ان عمليات مصادرة الأراضي تؤكد وجود هذه النية المبيتة، خصوصاً ان التخطيط الجديد يتعمد ضم كتل استيطانية كبيرة، اضافة الى أراض زراعية تابعة لقرى فلسطينية. ويبرّر شارون هذا التغيير الطبوغرافي المفروض بالقول ان الدولة العبرية وحدها تقرر مواقع الخطر على أمنها، وان حكومته مسؤولة عن ضمان سلامة الشعب. وفي ضوء هذه السياسة قرر مواصلة ضم المستوطنات النائية داخل جدار طويل لم يبق من بنائه سوى مساحة لا تزيد على 130 كيلومتراً. وكي تعطل السلطة الفلسطينية هذا المشروع الخطر، طلبت من واشنطن التدخل لمنع تحقيقه لأن الجدار الفاصل عزل مدينة القدس عن محيطها الفلسطيني، ثم اخترق التجمعات السكانية القائمة بحيث اصبحت جغرافية الدولة الفلسطينية المقترحة مجموعة جزر متباعدة غير صالحة للزراعة والسكن. التحفظ الثاني الذي نقله دوف فايسغلاس الى الادارة الاميركية كان يتعلق بإسقاط حق اللاجئين في العودة مقابل موافقة اسرائيل على اقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح. ومعنى هذا ان شارون لن يوافق على حق تقرير المصير للفلسطينيين إلا اذا تنازلوا علناً عن حق العودة لأربعة ملايين لاجئ. واعترضت كوندوليزا رايس على هذه المعادلة المحرجة مدعية ان رئيسي الوزراء الفلسطيني والاسرائيلي يمكنهما التوصل الى تفاهم مشترك شريطة ان تبدأ عملية الانسحاب من المستوطنات الجديدة. وقالت ايضاً ان الرئيس بوش يعول كثيراً على هذا التنازل الصوري لأنه يريد التركيز في خطابه الى الأمة 24 حزيران/ يونيو على مشروع "خريطة الطريق". لهذا السبب يتمنى على شارون مساعدته على تحقيق رؤيته السياسية مثلما ساعده هو على ازالة نظام صدام حسين. ونسبت رايس الى طوني بلير موقفاً مؤيداً لهذا الطرح على اعتبار انه من الصعب الاستمرار في تجاهل القضايا العربية من دون ان ينمي ذلك شعور العداء لأميركا وبريطانيا. في رده على هذه النقطة من التحفظ قال فايسغلاس ان الرئيس بوش اتفق مع شارون على عدم الانتقال من مرحلة الى اخرى قبل اتمام المرحلة السابقة كجزء من اختبار النيات والقدرة على التنفيذ. وكرر ما قاله له رئيس الوزراء من ان التوصل الى نهاية النزاع يقتضي اعتراف الفلسطينيين بحق الشعب اليهودي في اقامة دولة مستقلة على ترابه الوطني. ويبدو ان هذه المشكلة مثلت لبّ الخلاف أثناء المفاوضات التي رعاها الرئيس بيل كلينتون. ذلك ان ايهود باراك كان يصرّ دائماً على ضرورة استخدام "دولة اليهود" بدلاً من المصطلح المتعارف عليه "دولة اسرائيل" ذات القومية الثنائية. وقدم فايسغلاس المخرج المنطقي لتحاشي الخلاف، وقال ان وزير الخارجية كولن باول عرض مرة الخطوط الرئيسية لسياسة اميركا في شأن النزاع الاسرائيلي - الفلسطيني. وكان ذلك في جامعة كانتاكي سنة 2001، عندما شدد في خطابه على العبارة الآتية: "على الفلسطينيين إزالة أي شك، مرة والى الأبد، عن طريق القبول بشرعية اسرائيل كدولة يهودية". وتوخى فايسغلاس اعادة النظر في النص الذي يتحدث عن هذا الموضوع في "خريطة الطريق"، ويقول: "فور البدء في تطبيق خريطة الطريق تصدر السلطة الفلسطينية بياناً قاطعاً يؤكد التزامها رؤية الدولة الفلسطينية المستقلة التي تعيش بسلام وأمان الى جانب دولة اسرائيل". وفهمت كوندوليزا رايس من هذه التلميحات ان حكومة شارون تحاول ادخال تعديلات على مشروع بوش للسلام ينسجم مع القانون الدستوري الذي صدر في اسرائيل سنة 1985. وبموجب هذا القانون لا يجوز لأي حزب يعارض مبدأ "الدولة اليهودية" ان يشارك في انتخابات الكنيست. وتكمن خطورة هذا القانون في تعزيز الطابع اليهودي لاسرائيل واعطاء كل يهودي يعيش في البيرو أو الارجنتين الحق في الانتفاع بحوالى 70 في المئة من أراضي الضفة الغربية. ومع ان ادارة بوش مستعدة لتأييد شارون في مختلف المجالات، إلا ان تبنيها لفكرة الطابع اليهودي سيعرضها للانتقاد لأكثر من سبب: أولاً، لأن تطبيق هذا القانون يعزز المواجهة ضد كل من هو غير يهودي. كما ان اسرائيل تعتبر الأنظمة الدينية - مسيحية كانت أم اسلامية - معادية للسامية، فإن هذا التحول سيجعل شعب "الدولة اليهودية" معادياً لجميع الشعوب الأخرى. ثانياً، ان التقيد بنصوص هذا القانون الدستوري الصارم يعطي القوات الاسرائيلية الحق في إبعاد الفلسطينيين من دون ان تتهم بالتهجير القسري أو الطرد الجماعي. وهذا ما تبتغيه حكومة شارون من وراء الإصرار على تغيير طابع الدولة بحيث يصبح الالتفاف على قرار حق العودة مشروعاً ومبرراً. التعديل الثالث الذي طلبته حكومة شارون يتعلق ببند المراقبة الخارجية. وهي تعتبر "خريطة الطريق" وثيقة اميركية، وان واشنطن وحدها مسؤولة عن تفسيرها. لذلك رفض وزير الدفاع شاؤول موفاز مشاركة أي مراقب أوروبي لاعتقاده بأن فرنسا تريد الدخول من البوابة الخلفية كخطوة باتجاه التدويل. ولكي تتحاشى اسرائيل هذا الإشكال الفني سمحت لسبعين مراقباً اميركياً وكندياً بالإشراف على عملية التطبيق لدى الفريقين. وتنحصر مهمة المراقبين برصد تحركات الفلسطينيين الأمنية والاصلاحات الاقتصادية وتنفيذ الاعتقالات في صفوف نشطاء "الارهاب". وتشمل مهماتهم ايضاً تدريب الاجهزة الأمنية في حكومة "أبو مازن" وتلقي الشكاوى من الجانبين. أما بالنسبة للفريق الاسرائيلي فإن عمل المراقبين محدد بموضوع المستوطنات والتأكد من تفكيك كل المواقع الاستيطانية المبنية بعد آذار مارس 2001. التحفظ الرابع الذي قدمه الاسرائيليون يتعلق بالمرجعيات المعتمدة من بين قرارات الأممالمتحدة. ويستند شارون الى القرارين 242 و338 بسبب التفسير الخاطئ الذي توارت وراءه الحكومات المتعاقبة منذ حرب 1967، لكي تواصل احتلالها. ومع ان الوزير الاميركي كولن باول اكد أثناء وجوده في عمان ان بلاده لن تعيد صوغ "خريطة الطريق"، إلا ان شارون كرر أمام "أبو مازن" شرطه المبدئي القائل بأن استئناف المفاوضات لن يبدأ قبل وقف العمليات العسكرية الفلسطينية بالكامل، وطالبه أثناء لقائهما بضرورة تنفيذ ما وعد به في خطابه أمام مجلس النواب من انه سيعمل على وقف الارهاب. والملفت ان كوندوليزا رايس التي أعلنت في صحيفة "يديعوت احرونوت" ان أمن اسرائيل هو المفتاح لأمن العالم، أيدت كلام باول القائل بأن نص "خريطة الطريق" ليس خاضعاً للمراجعة أو التعديل أو التغيير. وقالت ايضاً ان الادارة ستوجه الدعوة الى "أبو مازن" لزيارة واشنطن، وان حرب العراق فتحت نافذة كبيرة للتحرك الى أمام. ويبدو ان الرئيس بوش كان ينتظر اللقاء الثامن مع صديقه شارون لكي يبحثا سبل التحرك وكيفية توظيف "خريطة الطريق" في الخطاب السنوي الذي سيلقيه بوش يوم 24حزيران. ارجأ رئيس الوزراء الاسرائيلي زيارته فجأة بحجة ازدياد العمليات الانتحارية واضطراره الى البقاء في البلاد. ويقول شمعون بيريز ان تأجل الزيارة لا ينبئ عن تهريب شارون من التزاماته تجاه "خريطة الطريق" فقط، وانما يشير الى بداية خلاف حول اساليب مكافحة الارهاب. ذلك ان واشنطن بدأت تلمس خطورة التمادي في ضرب الانتفاضة الفلسطينية، وكيف ان آثارها السلبية ستعطل جهود القوات الاميركية في العراق وتقدم لأسامة بن لادن الفرصة الملائمة لاستغلال الجمود في أزمة الشرق الأوسط. ومع اعلان الرئيس جورج بوش ترشيح نفسه لولاية ثانية عن الحزب الجمهوري، بدأت لهجة التحفظ تطغى على الخطاب السياسي الذي تقدمه الإدارة الاميركية الى الجمهور. ودشن عملية التراجع وزير الخارجية كولن باول بحديث تلفزيوني قال فيه ان بلاده لن تمارس ضغوطاً على اسرائيل لحملها على تطبيق "خريطة الطريق". وحدد مهمة واشنطن حيال هذا الموضوع بالعمل على خلق ظروف يشعر معها الطرفان بأن تطبيق "الخريطة" يلبي مصالحهما. وشدد في حديثه على ان الولاياتالمتحدة تنتظر من القيادة الفلسطينية الجديدة ممارسات عملية حازمة في شأن الأمن. وكان بهذه الديباجة يمهد لتطمين المؤسسات اليهودية، في نيويورك وفلوريدا، ويعبد الطريق أمام مستشاري البيت الأبيض لمباشرة الحملة ضد محمود عباس باعتباره نسخة اخرى عن المرشد الأكبر ياسر عرفات. وقرأ الفلسطينيون في هذا التحول المفاجئ حذر الرئيس بوش وحرصه على التأني وسط الجبهة الداخلية بعكس مغامراته العسكرية على الجبهة الخارجية. وأدركوا ان المعركة الانتخابية سنة 2004 ستضطره الى التفاهم مع شارون والى تجديد دعوته بهدف الاتفاق معه على مضمون الخطاب السنوي يوم 24 حزيران. وكان من الطبيعي ان يؤدي الانعطاف السياسي الاميركي الى مطالبة حكومة "أبو مازن" بفرض الأمن ووقف "الارهاب" قبل الشروع في مطالبة اسرائيل بوقف بناء المستوطنات. وخشية وقوع السلطة الفلسطينية في الفراغ لجأت الى مصر لعل جهودها بواسطة رئيس الاستخبارات عمر سليمان، تثمر هذه المرة وتقنع قادة "حماس" و"الجهاد الاسلامي" بضرورة اعطاء رئيس الوزراء الجديد فرصة التقدم في امتحان الزعامة. ومن المؤكد ان ورقة العمل التي وعد محمد دحلان بإعدادها حول التعاون الوثيق بين اجهزة الأمن الاسرائيلية والأمن الوقائي الفلسطيني... سترمى في سلة المهملات. والسبب ان رفض اسرائيل ومواصلة العمليات الانتحارية وتراجع بوش، اجهضت مساعي "أبو مازن" واقنعته أن صحن الحمص الذي قدمه له شارون أثناء العشاء السري، لم يكن سوى وجبة مسمومة ستبقى اعراضها تتفاعل الى حين الانتهاء من بناء جدار الفصل آخر شهر تموز... * كاتب وصحافي لبناني.