المشهد ليس متكرراً. ففي كل مرة يحتشد فيها اللبنانيون في ساحة النجمة وكنيسة مار جاورجيوس في وسط بيروت، تبدو كأنها الجنازة الاولى. لم يظهر على وجوه الحشود التي جاءت تودع جبران تويني ورفيقيه أمس انها اعتادت المآتم وتأبين الشهداء، على رغم أنها المرة الثالثة التي تفتح الكنيسة نفسها أبوابها لوداع ضحايا التفجيرات في أقل من ستة أشهر. الاعصاب مشدودة، والتدافع في أوجه. فالجميع يريد الدخول والمشاركة ولا أحد مستعد لتقديم مكانه للآخر. رجال الامن وأعضاء الفرق الكشفية بذلوا ما في وسعهم لتنظيم الدخول الى الكنيسة، ولم تفدهم خبرات سابقة في تنظيم المأتم. فأمس اختلط الحزن بالغضب والسخط، ولم يقف الناس بصمت، بل أطلقوا العنان لانفعالاتهم وصراخهم ودعواتهم داخل الكنيسة. موعد التشييع الذي كان مقرراً في الساعة الثانية عشرة ظهر أمس تأجل بانتظار وصول النعوش الثلاثة، لكن الكنيسة كانت غصت منذ الحادية عشرة بالمشيعين وبينهم شخصيات سياسية وديبلوماسية كثيرة. رئيسا مجلس النواب والحكومة نبيه بري وفؤاد السنيورة والرؤساء السابقون امين الجميل والياس الهراوي ونجيب ميقاتي ورئيس"اللقاء الديموقراطي"النائب وليد جنبلاط الذي تخطى الحظر الامني للمشاركة في الجنازة. اضافة الى الوزراء حسن السبع وشارل رزق وفوزي صلوخ ومروان حمادة ونايلة معوض، وعدد من النواب بينهم بهية الحريري وصولانج الجميل وستريدا جعجع. وفي الحادية عشرة والنصف وصل السفير الأميركي جيفري فيلتمان ثم الفرنسي برنارد ايمييه، تلاه سفير البعثة الاوروبية في بيروت باتريك رينو ثم السفير البريطاني جايمس وات. كما كان بين الحضور سفراء مصر وروسيا وتركيا وعدد من رجال الدين المسلمين والمسيحيين والوفود الشعبية والشخصيات العامة. نايلة تويني ابنة جبران جلست وحيدة على المقعد الامامي تبكي بصمت الى أن وصل جدها النائب ميشال المر فعانقته بحرارة وأجهشت بالبكاء، ثم جلست بقربها أرملة تويني سهام، أم طفلتيه التوأمين اللتين لم تكملا عامهما الاول بعد. جيزيل خوري الاعلامية اللبنانية وارملة الصحافي الراحل سمير قصير اتخذت لنفسها مقعداً في احدى زوايا الصفوف الخلفية. وعلا التصفيق في القاعة لدخول غسان تويني، متكئاً على يد أحد المقربين. وفي الواحدة الا ربعاً بدأ رجال الدين يلوحون بمباخرهم وفتح الباب لاستقبال اول النعوش. دخل نعش جبران محمولاً على عشرات الأكف كأن مجرد لمسه صار بركة سعى الشباب للحصول عليها. وما ان وصلوا الى منتصف الممشى المؤدي الى المذبح حتى رقصوا بالنعش وهتفوا"جبران حي فينا". وارتفعت الدعوات الى الاقتصاص من الفاعل وراحت النسوة المفجوعات يلوحن بمناديلهن ويصرخن مودعات فيما الرجال يخبئون دموعهم عبثاً. ولم يكد النعش الثالث يصل بدوره الى المذبح حتى ساد تدافع واستدعي افراد الصليب الاحمر لمساعدة الذين فقدوا وعيهم نتيجة التدافع والصدمة. بدأت الصلاة على راحة نفوس الشهداء الثلاثة بعد محاولات يائسة لإسكات الجمع، ولكن ما ان استهل متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة القداس حتى ساد صمت كسره من حين إلى آخر صوت تنهيد أو بكاء. خضر وتلا راعي أبرشية بيروت للموارنة المطران بولس مطر الإنجيل المقدس، ثم ألقى متروبوليت جبل لبنان للروم الارثوذكس المطران جورج خضر عظته فقال:"أرز لبنان الذي نصبته. هناك تعشش العصافير. يا جبران ونقولا واندريه أنتم محرقة عصافير، كما تقول ناديا تويني، كانت معششة في أرز لبنان أحياها ربها بالحب فتجنحت بكامل حبها الى الفردوس. سلام عليكم يا ثلاثة جاؤوا من قلب بلدي في هذه الرحلة المعطَّرة بالنعمة، اذ تستريحون في مساكن المجد ومنها تنقلون الى هذا الوطن وعود السماء. فاذا أرادت ان تنشئ لبنان من بركات الرضا سوف يتكون شاء من شاء وأبى من أبى. جمعتكم هنا قدسية التفاني فكان اجرتكم رجاء القيامة والحياة الأبدية. جمعكم ثلاثة هذا الاحساس الذي تعبر عنه شاعرتنا: بلدي حيث الحياة بلد بعيد، بلدي ذاكرة رجال أشداء كالجوع وحروب أعتق من مياه الأردن، سنذكركم معاً كلما ذكرنا بلداً يسافر بين الحلم والصباح...". وأضاف:"يعسر عليّ الكلام عليه لأني رافقته منذ طفولته ورافقت مكرم وودعته وودعناه جميعاً في ترتيل كان غسان مشتركاً فيه ورجائي الا يغادر شفتيه الدعاء، فقد بات بفراقك يا صاح مشدوداً الى السماء على آخر حدود التوتر. غير أني لمست التعزيات تنزل على صديقنا بعد جراح له كثيرة وذهلنا من صبر انسكب سره عليه وحملناكم وأخذناكم واحداً واحداً في محبتنا وبات كل صدر من صدورنا متكأ لأبيك ليبقى ما أرادت له النعمة ان يبقى لنستمتع بوهج عينيه وكلماته الغاضبة كالسيف، والتي تطلب في حقيقتها السلام، وكأني بك يا جبران تكمل المسيرة وتحفظ التراث وتقول ذلك بلغتك وشدتك وحرصك على البلد لنموه واكتماله بالحق في وجه مهمشيه عن التاريخ الفاعل والمعطي في شرقنا العظيم". وقال:"هناك من ينسب نفسه الى البلد بشروط او ظروف وعند التحولات ويستلذ البلد اذا نفعه ويرميه اذا انتفت اللذات. انت قلت هذا بلد لا يستباح لأن أبناءه ارتضوه معطى تاريخياً يمكن ثباته اذا احبه أبناؤه جميعاً وتواصلوا، بحيث ترفض كل جماعة سؤددها، لأن سؤدد الجزء يعطل الوحدة وتالياً يضع حداً للإبداع وخدمة الحضارة في بلاد العرب والدنيا. انت لم تقل شيئاً ما لا يقوله اي وطن عن نفسه. انت لم تعطل كبر الغير او نفوذه او سلطانه في حيز سلطانه ولكنك أردت لبلدك الكبر وسلطاناً في حيز سلطانه. لذلك جاء قتلك ظلماً مطلقاً. فرزقك الله النصر ويرزق بلدك النصر". ونقل خضر تسليماً كبيراً من بطريرك"انطاكيا العظمى"اغناطيوس الرابع للشهيد وتعازيه لوالده وللعائلة جميعاً ولعائلتي نقولا وأندره. وختم:"سوف ننشد يا غسان حتى يسلم المسيح الملك الى الله الآب بعد أن يكون قد أباد كل رئاسة وسلطان وقوة فلا بد له من أن يملك وآخر عدو يبطل هو الموت ثم يكون الله كل شيء في كل شيء. هذا كلام يخص الله على لسان بولس. وأما ما يخصنا نحن فنقوله على لسان صاحب الرؤيا:"طوبى للمدعوين الى وليمة عرس الحمل". جبران جالس الآن في الوليمة التي تنتظرنا اذا كنا قد احببنا بعض الشيء ولم نخن حتى النهاية. سلام على جبران في طريقه مع رفيقيه الى عشاء العرس. إنهم ذهبوا ليهيئوا لنا مكاناً أرجو أن يتسع لكل الأحبة الذين ذاقوا ملاطفات يسوع. آمين". تويني ثم ألقى والد الشهيد غسان تويني كلمة قال فيها:"لا ادعو اليوم لا الى انتقام ولا الى حقد ولا الى دم انا ادعو الى ان ندفن مع جبران الاحقاد كلها والكلام الخلافي كله وأن ننادي بصوت واحد ذلك القسم الذي أطلقه في ساحة الشهداء يوم انتفاضة 2005 التي ذهب ضحيتها". وكابد تويني الاب الدمع قبل أن يتابع بصوت متهدج:"قل ان اعطي لانسان ان يقف في المكان ذاته على مدى ستين سنة يودع والده ثم ولده. اذكرهما عندما عاد جبران تويني من المنفى من السفارة حين سقط شهيداً في 11 كانون الثاني يناير 1947، وهو يلقي خطبة في الدفاع عن وحدة فلسطين وعروبتها وانتساب لبنان الى القضية العربية. كان يحملني تلك الرسالة فعدت وتوليت المسؤولية مكانه ونشأ ولدي جبران على تلك المبادئ وهو ردد صباحاً بالقسم الذي صار شعاراً لجيل من الشباب. اقول ذلك، لانني اردد قولك يا سيد موتنا، قيامة المسيح قام من الاموات، وقلت سيادتك الآن انه ذهب الي، الى مكان في بدلة العرس، هل الاقيه؟. وختم تويني مردداً القسم:"ادعو اللبنانيين جميعاً مسيحيين ومسلمين لان يكونوا واحداً في خدمة لبنان الوطن العظيم وفي خدمة قضيته العربية". نايلة تويني والقت نايلة تويني كلمة باللهجة العامية، رثت فيها والدها، فقالت:"انا نايلة ابنة أبي جبران، وابنة جدي غسان وابنة جبران والد جدي، انا ابنة التويني وابنة النهار، انا ابنة الحرية، المجتمعين تحت سقف الله وسماء لبنان. فليعرف كل من لا يعرف، انا ابنة القتيل الذي لا يموت لانه ابن الحرية، يحمل الراية المضرجة بالدم والنار والقلم الذي ارتوى بدم سمير قصير وبدم جبران وبدم كل العرب النهضويين الاحرار. واقول باسم أبي واسم جدي واسم والد جدي واقول خصوصاً باسم طير الفينيق وباسم كل الشهداء الذين ماتوا دفاعاً عن الحرية، أقول باسم كل الابطال الذين حملوا راية شرف الكلمة في جريدة النهار واينما كان، وأقول باسم كل الاحرار في لبنان والمنطقة العربية، ان رايتنا لن تنكسر لانها راية الحرية. ابي لم يمت، انا عين الحرية انا عين الديك التي ستلاحق القاتل حتى آخر قبر حتى نصل الى الحرية. انا ابنة النهار، ابنة أبي، انا اخت الجنود المجهولين والمعلومين في جريدة النهار، جريدة الحرية، أحمل القلم الذي جرح ولم يكسر، أحمل القلم الذي سيظل واقفاً مثل الرمح، ويضوي ليل الظلمات والديكتاتوريات العربية، النهار لا تموت، لبنان لا يموت، الحرية لا تموت، هذا هو عهد الوفاء لجبران وسمير قصير واندريه ونقولا وكل الاحرار، هذا هو عهد الوفاء لجدي غسان ولشباب وفرسان الكلمة في النهار، ولفرسان الحرية الخارجين من ظلم القهر، النهار لن يتحول ليلاً بوجود كل الصحافيين في النهار، كلنا سنمسك قلم جبران وسنكمل، هذا هو عهدي للحرية، ويجب ان نبقى واقفين لنحقق حلم جبران تويني. كان حلمه ان يستشهد من أجل لبنان، وهذا ما حدث، ونحن سنبقى صوته وقلمه، ويجب ان نبقى يداً واحدة ونحقق حلم جبران تويني بلبنان". طبارة والقى النائب بهيج طبارة كلمة باسم رئيس كتلة"المستقبل"النيابية النائب سعد الحريري، فقال"يا شباب 14 آذار، يا شباب رفيق الحريري، يا شباب باسل فليحان وسمير قصير وجورج حاوي، يا شباب مي شدياق ومروان حمادة، يا شباب جبران تويني، نجتمع اليوم في وداع شهيد جديد من لبنان، شهيد الكلمة الحرة شهيد الكرامة والوحدة الوطنية، شهيد الحقيقة. لقد فدانا جبران تويني بدمائه كما من قبله كل الشهداء الذين سقطوا على درب الحرية والديموقراطية والاستقلال. لقد فدانا جبران تويني لانه كما رفيق الحريري كان يعلم اننا شعب يستحق الفداء ويستحق التضحية، شعب يقاوم بصدوره العارية وأيديه المسالمة وبكرامته المجردة وبكلمة الحق أقوى طاغوت عرفه الزمن: طاغوت الارهاب والعنف والقتل الجبان. ان الذين قتلوا جبران تويني جبناء يخشون الديموقراطية ويخشون الحرية ويخشون الحقيقة. يخشون النهار، كل ما هو في وضح النهار ولا يرتعون الا في عتمة الليل. لكننا نقول لهم من عتمة هذا الليل سينتصر النهار ومن ظلمة الارهاب سينتصر الحق ومن ديجان القتل الجبان ستنتصر الحقيقة. ان لبنان يقف على باب الحرية والسيادة والكرامة الوطنية، وأنتم ايها الشباب تمسكون بمفتاح هذا الباب: وحدتكم الوطنية، تمسككم بالعيش المشترك واصراركم على الحقيقة ستهزم القتلة المجرمين وستهزم أعداء لبنان وتسقطهم في قبضة العدالة ليدفعوا ثمن ما جنته أيديهم. لبنان بكم سينتصر ورفيق الحريري بكم سينتصر، جبران تويني بكم سينتصر".