أسدلت ستارة الفصل الأخير على الدورة الثانية عشرة من"أيّام قرطاج المسرحيّة"، وبقيت الأسئلة معلّقة. يغادر المرء تونس محمّلاً بكميّة من الانطباعات والذكريات واللحظات الممتعة... وببعض الملاحظات التي لن يأخذها أحد في الاعتبار... فالمؤسسة العريقة، تشكو من غياب التكامل والتواصل في مسارها، ما يجعل من الصعب تراكم الخبرات والتعلم من التجارب. والسبب هو تلك القطيعة بين دورة وأخرى، بين مدير وآخر، بين حسابات واعتبارات راهنة، وما يخبئه الزمن من مستجدات على المستوى العام، طوال العامين المقبلين اللذين يفصلاننا عن الدورة المقبلة. محمد إدريس قرر الغاء الجوائز هذا العام، لاقتناعه بأن مهرجاناً للفنون المشهديّة ليس مباراة رياضيّة. لكنّ ادارة الايام لم تبذل جهداً لابتكار مؤثرات ومناخات ثقافيّة واحتفاليّة بديلة، من شأنها أن تجذب اهتمام الجمهور الواسع، وتخلق نوعاً من الدينامية والتشويق والحماسة التي لا بدّ منها أيضاً لنجاح تظاهرة بحجم"أيّام قرطاج المسرحيّة". وإذا كانت الانتقادات الكثيرة التي وجّهت الى إدريس، تركّزت من جملة ما تركّزت على انحسار مكانة المسرح الافريقي في المهرجان، فإن قلّة لاحظت أن الغائب الأكبر عن المهرجان هذا العام، كان المسرح الخليجي... باستثناء المسرحيين العراقيين الذين جاؤوا يستعيدون عصرهم الذهبي، وبينهم جواد الشكرجي الذي قدّم عرضاً بعنوان"عراق يا عراق"، لا يخلو من بكائيّة وعظيّة تذكّر بجماليات المرحلة التوتاليتاريّة البائدة التي انفتحت اليوم على كل احتمالات الانقسام والفوضى والتفتّت. ولعلّ التجربتين الأساسيتين اللتين لا بدّ من التوقّف عندهما، في سياق جردة الحساب، وتحديد الحصيلة الفنية لهذه الدورة، هما العمل الذي قدّمه"مسرح القصبة الفلسطيني بعنوان"الجدار"تأليف جماعي، اخراج جورج ابراهيم، ومسرحيّة اللبناني عصام بو خالد"مآآآرش"التي كانت لفتت الأنظار لدى عرضها قبل أشهر طويلة في بيروت. مرّة أخرى، ومن خلال التجربتين المذكورتين، يتواجه"المسرح الاحتفالي"مع مسرح الصورة والحركة والتمرّد على المسرح. قصص من زمن الاحتلال عرض"مسرح القصبة"الآتي من رام الله، يمكن اعتباره امتداداً للتجربة السابقة"قصص تحت الاحتلال"، على مستوى القالب الفنّي والجماليات والتقنيات... وهو يجول منذ أشهر في العالم من دمشق... إلى طوكيو. تتألف المسرحيّة الفلسطينية من مجموعة لوحات متكاملة، متقاطعة ومتداخلة، تدور حول الجدار، وتجسّد حكايات مواطنين عاديين، وأحلامهم المجهضة، وتطلّعاتهم المقموعة، في العيش والحبّ والحرية والتجوّل في أرضهم والحصول على أبسط حقوقهم الانسانيّة. العمل قائم على لغة السرد التي تعتمد تقنيات التغريب البريختي، بهدف ايصال الخطاب السياسي ودفع المتفرّج إلى"الوعي". وممثلو"الجدار"رواة بالدرجة الأولى، يتنقّلون بين لعبة الحكي وتقمّص الشخصية التي تدور حولها القصّة. أما النص، فقائم على مجموعة ارتجالات وحكايات، انتظمت في احتفال مشهدي، قوامه الغناء والامثال والنماذج الشعبية، والرقص واللغة الطريفة والقفشات المسلية، والمفارقات المضحكة - المبكية. دور المخرج هنا هندسة هذه العناصر في فرجة شعبية محكمة، تنتظم اشاراتها ومؤثراتها الشعورية في سياق درامي قادر على الوصول الى دائرة واسعة من الناس. وهذا النوع من المسرح الذي يعرف ازدهاراً في العالم العربي من عقود عدّة، وتحديداً منذ قامت الدعوات"الاحتفاليّة"بالبحث عن هويّة جمالية خاصة للمسرح العربي، تميّزه عن المرجع الغربي. ومن أبرز رموز هذا التيار يمكن أن نشير إلى الجزائري الراحل عبدالقادر علّولة، والمغربي الطيب الصديقي، واللبناني روجيه عسّاف، والفلسطيني فرنسوا أبو سالم، والمصري حسن الجريتلي. رواة جورج ابراهيم ينطلقون من سور القدس، وإليه يعودون. يرصفون الحكايات: المعلّمة التي تحلم بفستان جديد لن تلبسه لأنّها لن تتمكّن من الوصول الى المدرسة، بائع الجرائد يحلم بشيء واحد هو السفر، ويعتقله الجنود في مطار تل أبيب، ليلى تريد أن تذهب إلى جدّتها... لكن الطريق في"الغيتو"الفلسطيني حافلة بالذئاب والجنود، مصممة الأزياء وبائعة الملابس التي ازدهرت تجارتها بعد أوسلو، ظل معرضها للملابس يصغر، حتّى صار"بقجة"تحملها وتدور بها وليس من يشتري... لكنّها لم تتخلّ عن تفاؤلها! وماذا عن السجين الذي يحلم بلقاء زوجته بعد ربع قرن من الاعتقال... والعريس الذي لا يعود بإمكانه الوصول الى منزل العروسة يوم الزفاف بسبب الجدار، وصولاً الى مشهد هاملت الفلسطيني المصلوب الذي يطالعنا بالمونولوغ الشهير:"أكون أو لا أكون... تلك هي المسألة"تمثيل أحمد أبو سلعوم، إسماعيل دباغ، حسام أبو عيشة، دورين منير، عماد فراجين، منال عوض. تتقاطع المشاهد في"الجدار"بديناميّة، وتستند إلى سينوغرافيا الفنّان الياباني نوبورو تسوباكي الذي أعاد تجسيد أجزاء من الجدار كما تبنيه اسرائيل، وهي اجزاء متحركة تتشكّل تبعاً لضرورات كل مشهد. كما يوظّف العرض كل العناصر السردية الممكنة، من مختلف اللهجات المحليّة، إلى الموروث الغنائي والموسيقي والأمثال الشعبية أغنية"البيضة والدجاجة"لكشف مفارقات الحصول على التصريح كشرط للتجوّل، وضرورة حيازة التصريح للانتقال إلى مركز الأمن الذي يعطي التصاريح. ولعل هذا الشكل"الاحتفالي"يختصر اتجاهاً كاملاً في المسرح العربي قوامه الفرجة، والتغريب، والمباشرة، والتعليق على الاحداث لفضحها. فالموتى قد لا يجدون لهم أماكن في المقابر الواقعة خلف الجدار. وكل الفلسطينيين باتوا أسرى، كما يكتشف الخارج من السجن حيث يفضل العودة! كل شخصيّة حكاية في عرض"القصبة"، مثل ذلك الفتى الذي يشاهد جثمان والده المضرج بالدماء، لأنّه حاول أن يسعى وراء لقمة العيش في فترة فرض حظر التجول، ففرش"بسطة"أمام منزله... كرنفال العنف المؤسلب أما مسرحية عصام بو خالد فلعبة طقوسيّة، وتقاسيم على مقام العنف. نحن أمام"مجموعة عسكريّة"أشبه بقطيع ذئاب هائجة، يخضع أفرادها لأوامر عليا تحوّل كلاً منهم"رجلاً آلياً"روبوت. صوت مجرّد يحرّك المجموعة، يعطي الأوامر والتعليمات، يستنهض الهمم، يوبّخ ويؤنّب ويحقّر نفهم كل ذلك من نبرة الصوت وجرس الحروف لا من المعاني فهي غير موجودة. يخوض الجنود معارك غامضة، يعودون منها منتصرين أو مهزومين ما الفرق؟. ودائماً يأتي الصوت من مكان يصعب تحديده، يلقي خطباً طلسميّة، أو يدوّي بالأمر نفسه:"مآآآرش"، فيستأنف الجند مشيتهم العسكريّة الموقّعة. هذه المشية هي اللازمة والعمود الفقري والذريعة الدراميّة لعرض خال من النص والحوارات، أو لنقل خال من الكلمات والجمل المفهومة. فقد استعاض عنها بو خالد بلغات خرافيّة، مختلقة، توحي صوتيّاتها الغريبة، بالعبريّة واليابانيّة والفرنسيّة وغيرها. في رؤياه الكوريغرافيّة والبصريّة، يترك المخرج مكان الصدارة لايقاع الاجساد وتشكلاتها في الفضاء، بين الخشبة والصالة و... شاشة الفيديو. إن غياب النصّ يجعل من الجسد حجر الأساس في العمارة المشهديّة التي تقوم على مقدرات ايمائيّة وحركيّة وصوتيّة وتعبيريّة مهمّة. لذا يدير عصام بو خالد ممثليه انطلاقاً من الاداء الخارجي، الميكانيكي، مقترباً من أمثولة مايرهولد، ومستفيداً من تجربته الطويلة في العمل الى جانب روجيه عسّاف. ويتجاوب فريق الممثلين أحمد حافظ، أحمد الخطيب، زياد سحاب، سعيد سرحان، شربل نجم، طارق باشا، فرح نعمة، فهد رياشي، يارا أبو حيدر، سوسن بو خالد بمهارة مع خياراته الاخراجيّة. كما توظف مسرحيّة"مآآآرش"التقنيات السمعيّة - البصريّة في سياق تغريبي تارةً، واختباري تارةً أخرى. تنقل كاميرا الفيديو صورة الجنود، وتفصلها عنهم، تتركها تتحرّك من دونهم على الشاشة. يلجأ العمل الى استنطاق الصورة، دورها ومكانتها وامكاناتها، داخل العرض المسرحي وخارجه. الصورة التي تلتقطها كاميرا الفيديو لحظة العرض، أو التي سجّلت قبل العرض... أو التي اختلطت فيها المادة الوثائقية، بالمادة المركّبة. يحار الجنود بين اطلاق النار على صورة الجمهور، أو اطلاق النار على الجمهور نفسه. من جهة هناك"نحن"ومن جهة أخرى هناك انعكاسنا على الخشبة. من جهة الجنود ومن الأخرى صورتهم التي يتفاجأون بها، يصطدمون بها فتختفي كالسراب. يترك الجنود الواقع ليتحرّكوا داخل شاشة الفيديو التي تشكّل امتداداً افتراضياً لحقيقة يمكن اعتبارها، هي الأخرى، وهميّة ومجازية، حقيقة مسرحيّة ليس إلا! إن استعراض عصام بو خالد ذا النبرة الدادائيّة الواضحة، يقوم على فضح الفاشيّة، وتفكيك ميكانيسماتها. علماً أننا نظلم المسرحيّة اذا تعاملنا في شكل حصريّ وحرفي، مع احالاتها المباشرة إلى الراهن، عبر بث أشرطة وثائقيّة لدخول جنود التحالف الأميركي - البريطاني إلى العراق. الحرب في"مآآآرش"هي كلّ الحروب، والجنود هم أبطال التراجيديا وضحاياها، إذ تنقلب الى كوميديا سوداء. يلجأ المسرحي الشاب غالباً الى تحوير معاني الاشياء ومنطقها واستعمالاتها، كنوع من فضح الواقع، وتعريته. يقترب من البولوني كانتور في صياغة موكبه الجنائزي، وميله الى التنقية، وشعرية المواقف الميكانيكية، وتركيب المشاهد واختراع الادوات والتحكّم من على الخشبة - كمؤلف - في سير العرض... لكنّه يجنح احياناً الى تهريج كاريكاتوري يبعدنا عن أسلوب التورية والمجاز. ويبقى السؤال مطروحاً: كيف نصوّر الحرب ونرويها من خلال تجسيد"الغزاة"على الخشبة؟ التضخيم الكاريكاتوري يوحي احياناً بسخرية سهلة من"العدوّ"، في حين أن العمل الناضج فنياً يفترض نظرة أكثر تعقيداً ل"الآخر"، لثنائيّة الجلاد والضحيّة. يقدّم بو خالد في قداسه الأسود عبثيّة الحرب، في فرجة أقرب إلى"ترفيه مسرحي"، العنف حاضر فيه بجرعات كبيرة... لنقل إنّه تمرين مسرحي على العنف! محاولات متتالية لتطويعه جمالياً بغية التطهّر منه Catharsis. ولعل مشروعه في"مآآآرش"هو أسلبة العنف Stylisation، لتشريح لعبة الحرب بأدوات مسرحيّة تميّز مشاغل جيله لبنانياً وعربياً.