حدث مسرحي، فرنسي وعالمي، تشهده خشبة مسرح «الكرتوشري» في ضاحية «فانسان» الباريسية هو مسرحية «ماكبث» لويليام شكسبير التي تقدمها فرقة «مسرح الشمس» كما صاغتها المخرجة الفرنسية الرائدة والطليعية أريان منوشكين وقد عمدت الى ترجمتها أو بالأحرى اقتباسها بنفسها. ومنوشكين هي مديرة مسرح الشمس وتبلغ اليوم الخامسة والسبعين من عمرها، وبدت عودتها الى الخشبة، هواها القديم والدائم، بعد فترة من الانقطاع، بادرة تعيد الى المسرح الفرنسي والأوروبي وهجاً بات يفتقده. فرقة «مسرح الشمس» هي إحدى أشهر الفرق المسرحية في فرنسا وتقدم عروضها في «مسرح الكرتوشري» منذ مطلع السبعينات مستعيدة، ومن خلال رؤية جديدة، نصوصاً لكتّاب معاصرين وحديثين، أو نصوصاً كلاسيكية ومنها بعض مسرحيات شكسبير. وكان المسرح قد قدم في الثمانينات أعمالاً لشكسبير منها مسرحية «ليلة الملوك»، وهي من أعماله الكوميدية وتدور أحداثها في أرض بلاد الإيليري، مملكة الحب والموسيقى والرغبات المتأججة. وكما عوّدتنا في أعمالها السابقة، اختارت أريان منوشكين منحى تجريبياً في قراءتها مسرحية «ماكبث» ووضعتها في قالب معاصر. تبدأ المسرحية التي تتواصل نحو أربع ساعات برقصة الساحرات اللواتي يقررن لقاء ماكبث، وتنتهي بمشهد حربي. تتخلل هذين المشهدين مشاهد كثيرة تستعيد أجواء سينمائية، منها أصوات طائرات الهيليكوبتر مما يذكّر بفيلم «القيامة الآن» لفرنسيس فورد كوبولا. تتلاقى هذه المشاهد مع مشاهد حربية أخرى تروي سيرة القائد ماكبث الذي يغتال ملكه دنكن ليجلس على عرش اسكوتلندا مكانه. في هذه المسرحية يبدو بلاط الملك، من خلال ديكوره وأجوائه، أقرب ما يكون إلينا إلى زماننا الحديث. في هذا البلاط تدور الصراعات والمكائد التي يسجلها الصحافيون بكاميراتهم. نحن هنا في حضرة الطغاة، وفي إمكان المشاهد أن يستحضر صور هؤلاء في التاريخ الحديث ومنهم من ينتمي الى العالم العربي حيث هيمنت منذ نهاية النصف الأول من القرن العشرين الانقلابات العسكرية وسمحت للمستبدين بالاستئثار بالسلطة ونقلها كإرث الى أولادهم. من جانب آخر، يظهر الجنود وقد ارتدوا الأزياء الرمادية العصرية، ونستمع الى الأصوات التي يبثّها جهاز كمبيوتير محمول. باختصار، تهيمن أجواء الصناعة السينمائية على أجواء المسرحية التي يصادف عرضها اليوم مع مرور خمسين عاماً على تأسيس «مسرح الشمس». وقد اعتبر بعض النقاد أن سيطرة هذا العنصر السينمائي أفقد نص شكسبير سحره وبريقه. وبموازاة هذا الحضور السينمائي، تعتمد المسرحية أيضاً على العناصر الأخرى التي عودتنا عليها أريان في أعمالها السابقة، ومنها الخلق الجماعي والابتكار والتجريب، ما يسمح لجميع أعضاء الفرقة، وهم من جنسيات مختلفة، بنقل تجاربهم وخبراتهم خلال التمارين. هناك أيضاً، بالطبع، الاستيحاء من قيم المسرح الآسيوي، ومعروف عن منوشكين أنها تأثّرت بمسرح الشرق الأقصى وسافرت الى اليابان وكمبوديا والهند لتدرس خصائص هذا المسرح الشرقي القديم. وتعتبر منوشكين أنها في عملها على نصوص شكسبير حاولت فهم ما يريده وليس فقط ما كتبه، حتى تتمكن من مقاربة جمهورها وكسر الجدار الذي يفصلها عنه معتمدة أكثر من أربعين ممثلاً يجسدون شعباً بأكمله. الاعتماد على التعددية المشهدية مضافاً إليها الحضور الجسدي المتحرك للممثلين والأداء المسرحي المنفتح على مرجعيات وتجارب كثيرة، كل ذلك جعل من النص الكلاسيكي في الأصل والمصاغ في بداية القرن السابع عشر مشهداً معاصراً بامتياز ولقد أدهشنا أداء الممثلَين اللذين قاما بتجسيد شخصية ماكبث وزوجته الطموحة وهما شخصيتان يذهبان أمام أعيننا وبصورة تجريدية نحو التشبث المستميت برؤيتهما ونحو الندم أيضاً. بالإضافة الى هذا الأداء المسرحي المتميز جاءت الترجمة التي وضعتها منوشكين بنفسها تعكس نبض النص الأصلي بلغة كثيفة معقدة، وقد رافقت بتناغم تام حركة الممثلين على الخشبة. العرض الجديد لماكبث في مسرح الكرتوشري يشكل، على رغم طوله وحدة متماسكة بعناصره المختلفة التي أضفت عليها الموسيقى مزيداً من القوة، وقد قام بتأدية هذه الموسيقى مباشرة مؤلفها جان جاك لوميتر. كما أن عنف حركة الجسد على المسرح والتي كان لها الأثر الأكبر في المشاهد تذكّر بعبارة الباحث والناقد الأدبي رولان بارت «المسرح هو الفن الأكثر إروسية بقدر ما يقدم الجسد كمادة مباشرة للرؤية».