لئن بدا أن اتفاقاً مضمراً في أوساط حركة المسرح العربي الراهنة قد أُنجز عن قصد ويقضي بالذهاب باتجاه يتقاطع مع تيار في المسرح العالمي يُعلي من شأن جماليات السينوغرافيا ويرتكز على لغة ينطقها جسد الممثل لإيصال قيم إنسانية عليا هي المضمون الحقيقي للشخصية المسرحية وتجليات تحولاتها البشرية ... لئن بدا ذلك واضحاً جداً فأن نماذج من المسرح العربي شاركت في الدورة السادسة لأيام عمان المسرحية الملتقى الدولي للفرق المسرحية المستقلة، التي تقيمها سنوياً فرقتا "مسرح الفوانيس" الأردنية و"الورشة المسرحية" المصرية، أعطت مساحة واسعة للغة الحوار بغية تصعيد الحالة الدرامية الى حد يبلغ أحياناً الإلقاء المحض وإلى حد أن العروض غير الناطقة بالعربية أوصلت الى المتفرج دلالتها الأوسع أكثر مما فعلت بعض العروض العربية أو تلك التي كانت هاوية تماماً. بدا المسرح العربي في نماذجه تلك يلهث وراء ذلك التيار من دون اللحاق به... بل بدا تمريناً يحتاج قدرة حِرفية أشدّ وأقوى قياساً الى المسرح العالمي. ولعلّ الأعمال المسرحية العربية التي قدّمت خلال المهرحان تمنح فكرة ما عن المرحلة المسرحية التي يجتازها المسرح العربي في بعض العواصم العربية والمدن. عائق اللهجة الدارجة بدءاً من المشهد الافتتاحي لمسرحية "حب في الخريف" للمخرج التونسي عزالدين قنون يطل المشاهد على باحة بيت متواضع. موجوداته تشي بقسوة الواقع ولدى ظهور الشخصيات في المشهد ذاته نلحظ الوطأة التي ترزح تحتها هذه الشخصيات من علاقة جسد الممثل الإيمائية، نوعاً ما، بالموسيقى إذ يضعه المشهد على عتبة ينظر من خلالها الى تحولات الشخصيات في العرض. غير أن المشاهد الذي يفتقد معرفة كافية باللهجة التونسية "الدارجة" سرعان ما يفقد خيط تواصله مع الأحداث فبدت الشخصيات مشوشة وغريبة عليه. في المقاطع الأولى، وفي نقطة قريبة من أوج الصراع تبدو الغيرة بين امرأتين تمهيداً لإطلالة على تفاصيل تعقيدات خاصة بعلاقات اجتماعية ذات بعد إنساني حيث أمكن للمرء أن يقرأ كلاماً كثيراً بين الأسطر من حركة الجسد أكثر من الملفوظ. في ذلك يلحظ المتابع ل"حب في الخريف" شخصيتين تستمران في العرض وفقاً لخط واحد: الأولى ضعيفة ومنفعلة ومتوترة ليلى طوبال والأخيرة ذات سطوة لا ينتابها تردد أو ضعف صابرة الهميسي... يستمر ذلك وقتاً طويلاً من المسرحية من دون إحداث أي تغيير كأنما هما نقطة صراع تصب فيها كل الحالات المسرحية التي تحملها الشخصيات الأخرى. وفي ذلك ظلت حركة الممثل وانفعالاته مفتاحاً في التأويل للوصول الى دلالة العمل الواسعة في الأقل. وعلى الرغم من أن الممثل بدا يمتلك قدرات فائقة إلا أن العمل انغلق على ذاته في بعض الأحيان. وما خلا تلك المنطقة الصغيرة التي تغطت بستارة حتى بدت كما لو أنها باب البيت والشجرة التي استطالت أغصانها الجافة فقد تأخر المخرج عزالدين قنون عن استخدام بقية العناصر السينوغرافية على الخشبة الممتلئة بقطع من ذات حجم كبير... البئر كان يظنها المرء طاولة والسلم ظل قطعة ميتة حتى جاء الهاني، الذي قام بتجسيد دورة الممثل توفيق العايب، من فوق ذلك السلم. لا يعني ما سبق أن عرض "حب في الخريف" وعلى امتداد الساعة والنصف يفتقد الإثارة ولا يجذب الانتباه، وربما أن الدارجة التونسية أعاقت التواصل مع العرض إلا أن ثمة ما هو لافت جداً للنظر في أداء الممثل، وعلى هذا الأساس ارتقت بعض مشاهد العرض الى مستوى مسرحي رفيع. تُرى ما الذي حدث لعرض "أحلام شهرزاد في ليلة زفافها" حتى خرج الجمهور بانطباع غير جيد عن العمل؟ لم تبلغ المسألة حد عجز المشاهد عن إدراك البنية الحكائية المسرحية المأخوذة من متن "ألف ليلة وليلة"... بل تجاوز ذلك الى أن كل عنصر من العناصر المسرحية كان غريباً عن صاحبه. ما يعني أن العرض كان فاشلاً بوضوح. لقد امتاز ايقاع العرض بالبطء والرتابة، وبدا ممّلاً في أثناء تبديل قطع الديكور التي لم يُحسَن استخدامها بحيث يتضح دورها في العمل باستثناءات نادرة. والى ذلك حال ضعف الصوت لدى الممثلين محمد القاني وسهيل إياد وضعف توظيف السينوغرافيا دون الإعلاء من الحالة الدرامية ودون وضوح الشخصيتين ودون متابعة تحولاتهما خصوصاً حين وصل الخطاب المسرحي الى مستوى الخطاب الشعاري الإنشائي في صور الحرية ومقاومة القهر ولم تنفع المؤثرات الموسيقية والسينوغرافية في ربط المشاهد بالعرض دائماً. وكان واضحاً اجتهاد المخرج الأردني هشام حمادة في السعي الى أعمق الحالات المسرحية عبر قدرات ممثليه اللذين شاركاه في اعداد العمل انطلاقاً من نص للكاتب المسرحي كريم جمعة. ولو جمعت المؤثرات الموسيقية والضوئية اللونية إلى قدرات الممثل بعيدة عن القطع الأخرى على الخشبة لربما أن العرض لم يظهر على الحالة التي ظهر عليها مشوشاً وغير عميق. وفي الأرجح فإن العرض لو أخذ الفرصة الكافية في استكشاف الفجوات بين عناصره لأمكن انقاذه من فشله الأكيد. الأسطورة والألم في مسرحية "الرجال الجوف" لفرقة المسرح الفني الحديث العراقية وهي من اخراج غانم حميد كريم تتفاعل على الخشبة ثلاث لحظات: الأسطورة والحرب والمسرح. واجتهاد المخرج وطاقم ممثليه: آسيا كمال أنتيغونا، هديل كامل الكترا، شذى سالم امرأة عراقية معاصرة، مكسيم باسم رجل الفزاعة، فلاح ابراهيم خادم العرض يتضح في السعي الى الارتقاء بمعاناة المرأة العراقية الى مصاف نساء الأسطورة على غرار ما هن عليه في المسرح الإغريقي. يتأسس منطق العرض بقراءة مسرحية لمقاطع من "الرجال الجوف" قصيدة الشاعر الإنكليزي ت.س.إليوت. فتؤسس هذه القراءة في ذهن المشاهد قسوة الفراغ الإنساني الذي أنتج فكرة الحرب... "ليس الموت الذي يلاحقنا. بل نحن نركض خلفه" في واحد من أعمق مشاهد المسرحية التي تبلغ عبره قمة فانتازيا تحمل منطقها الخاص وحيث المعالجة المسرحية للفكرة مبحث في النفس الإنسانية. وفي المشهد الختامي تقتل المرأة "رجل الفزاعة" مجسّدة بؤرة الصراع ومرجعه بين النساء الثلاث. والمشهد بقدر ما أكد التعقيد والجمال أكد الألم أيضاً وأن معاناة المرأة العراقية ليست أسطورية بل هي عين الحقيقة. لم يخل العرض من الفجوة الواضحة بين فكرة العرض ومعالجتها المسرحية كالوقوف في مطب المعلوماتية المباشرة فقد أعلنت انتيغونا والكترا تعريفاً باهتاً يكاد يكون مدرسياً في تقديم نفسيهما من دون حاجة الى ذلك. وقد أدى الممثلون جميعاً شخصيات لم تتأرجح خارج التصور التاريخي الأكاديمي عنها على رغم أنه قد فوجىء بها لتكون شاهدة على الألم في كل العصور. ويشعر المشاهد أن أداء الممثل كان يحتاج غوصاً أعمق في الشخصية وفي الحالة المسرحية وبدا ذلك واضحاً في بعض المواقف التي جمح بها المخرج نحو كوميديا لم تكن مقنعة تماماً. المهاجر الفلسطيني في معظم أعماله لا يتجه "مسرح القصبة" الفلسطيني نحو التجريب والى حد بعيد يميل الى الإمساك بقضية راهنة يقدمها. ولم تكن مسرحية "المهاجر" التي أعدها جورج ابراهيم المخرج والممثل عن "مهاجر بريسبان" لجورج شحادة. وبعيداً عن النص حققت مسرحية "المهاجر" مستوى متقدماً في الإخراج مع محمود خُميس وفي التمثيل الذي لمع بقوة في أداء حسام أبو عيشة وخالد المصو. ففي مشهد دخول الأخير الى مختار القرية، حاملاً سكيناً قتل بها امرأته القتيلة التي تطوف القرية وما من أحد يراها، ثمة رؤية دانت بحل إخراجي - تمثيلي في غاية البساطة والإدهاش الوعي القروي تجاه المرأة وأعلت من شأن ما هو مسرحي صميمي من دون الحاجة الى الإنزلاق في الشعار والدوغما. والى ذلك استغل المخرج محمود خُميس العمق المسرحي في ثلاث مناطق منه تدور فيها الأحداث بحيث يتسنى متابعة التعقيدات النفسية التي تظهر في الشخصية بتصور الحدث وفي ذلك لعبت الإضاءة صمّمها معاذ الجعبة وفيليب اندريو دوراً أوضح تلك التعقيدات. وقد بدت الكوميديا غير مفتعلة، خصوصاً تلك التي قدمها محمد البكري وحسام أبو عيشة، ومن ذلك النوع الذي ترتقي به مفارقة تكوّن الشخصية ومن العلاقات التي تربط بين الشخصيات ومن حركتها وقدرات وأدوات الممثل الذي يجسدها. وفي صدد إعداد النص، يمكن القول أن جورج ابراهيم اعتاد في الأعمال الثلاثة الأخيرة في الأقل نقل الحدث من واقع افتراضي لدى كاتب غير عربي الى واقع حقيقي فلسطيني... وللحق لم تنقص الرجل ولو مرة الجرأة في ملامسة مناطق حرجة ومحظورة وكان في كل مرة يثير جدلاً وأسئلة بعد العرض مباشرة. إلا أنني في المرات الثلاث التي هي: "رمزي المجد" 1996 "العذراء والموت" 1998 وأخيراً "المهاجر"، فإن جورج ابراهيم لم يكن لتتضح لديه رؤية تاريخية أو قراءة للواقع السياسي أو إصغاء لهجس التاريخ في أعماله المذكورة. في "المهاجر" ينتقل جورج ابراهيم بمهاجر جورج شحادة من "بريسبان" الى قرية "دير الزيتون" التي يموت فيها... المهاجر الجديد الذي يود الذهاب الى "دير الهوى" يأتي به سائق العربة الى دير الزيتون وحين يكتشف الأمر يتسامح المهاجر مع السائق الماكر الذي أقنعه وتسامح معه وقبل الإقامة في "دير الزيتون" عوضاً عن "دير الهوى" مع أن عربته الرديئة لا تذهب أبعد من "دير الزيتون" وقد تسبب بمقتل إحدى نسائها... عدا عن معالجة جورج ابراهيم عودة "المهاجر" الفلسطيني على هذا النحو من البساطة الساذجة فإن انتقاله من واقع افتراضي لدى جورج شحادة الى واقع فلسطيني حقيقي يأخذ المشاهد الى منطقة وعرة من التأويل يصعب الخروج منها من دون جراح. عايدة ... جليلة بكّار من ذلك الحضور القوي والمؤثر على الخشبة مثلما من ذلك الصوت الواثق الهادىء سمع الحضور حكاية تلك المرأة التي تاهت في أزقة الشتات الفلسطيني في "البحث عن عايدة" المونودراما التي كتبتها ومثلتها جليلة بكار وأخرجها الفاضل الجعايبي. يحمل الإسم عايدة مقاربة ما لعودة رمزية تنجزها تلك الشخصية التي لا نراها إلا بصوت الممثلة الكبيرة. هي في الأرجح عودة الى خارج الزمن الفلسطيني... عودة غامضة وغير معروفة في الإطلاق. عايدة تكاد تكون مجهولة على الخشبة خارج علاقتها بالممثلة التي تنتمي الى جيل "سلّم وغرق" ولم تتقمصها الممثلة ولم تدعيها لنفسها بل أبقتها فلسطينية مثلما شاءت لها أن تكون... هل خرجت عايدة الى أين؟ من الهزيمة والخذلان لنراها غائبة دائماً في الحكاية التي قالتها جليلة بكار على خشبة مسرح؟ ربما أن عايدة هي المنقوص الفلسطيني في سيرة جليلة بكار التي أخذت على نفسها استكمال شخصية عايدة فيها من خلال البحث في ذاتها عما هو مفقود وغير متحقق أصلاً. الأمر الذي يبرر جزئياً وعلى نحو ما الإرتباك في الانتقال المدرسي في روايتها أحداث التاريخ الفلسطيني بالتوقف في محطاته الأبرز منذ العام 48. قالت جليلة بكار كل ما أرادت أن تقوله عن ذلك التاريخ ولم تكن عايدة الغائبة تلمح في صوتها إلا عندما كانت تتحدث عن تجربتها في المسرح والتمثيل. الأمر الذي قليلاً ما حدث. ونعلم من جليلة بكار أنها قدمت عرضاً خاصاً لنساء صور الفلسطينيات في إحدى السنوات لأحد الأعمال المشاركة فيها، لكن عايدة لم تأتِ لترى جليلة... كانت جليلة تلملم ملامح عايدة من وجوه تلك النساء، عايدة التي لن تعود مثلما لم تجىء أبداًَ. وعلى ذلك قد يصح أن عايدة التي هي نتاج وحصيلة لمجموعة حيوات فلسطينية عادية ويومية غير أنها أيضاً محاولة للخروج من الشهادة المحضة على هذه الحيوات والانتقال بها الى مناطق التجربة في حد ذاتها وهو الانتقال من الجبل الشاهد على الغابة الى الغابة. على ما يقال. صحيح أن جليلة بكار تقصدت أن تقدم "البحث عن عايدة" لمناسبة مرور خمسين عاماً على اغتصاب فلسطين غير أنها كما لو كانت تنتظر هذه المناسبة لتبوح. ومن شدة ما كانت جليلة بكار في ذلك شديدة القرب الى تجربتها الخاصة بدت عايدة الغائبة مفضوحة تماماً على الخشبة... إنها الوجه الغائب لجليلة بكار نفسها. وعلى جاري العادة أثيرت مسألة التطبيع مع العدو الإسرائيلي في المهرجان من جراء مشاركة فلسطينيي 1948 في عرض "المهاجر" لمسرح القصبة المقدسي، وقد صدر بيانان عن لجنة مقاومة التطبيع مع الكيان الصهيوني التابعة لمجمع النقابات المهنية وردت في الأول دعوة صريحة لمقاطعة المهرجان، وجاء الثاني رداً على بيان أصدرته إدارة المهرجان وعلى بيان آخر وقعته الفرق المسرحية الفلسطينية المشاركة وقد عقدت مؤتمراً صحافياً لهذه الغاية اتهم فيه أحد أنصار لجنة مقاومة التطبيع مع الكيان الصهيوني الكاتب الراحل اميل حبيبي والممثل محمد البكري بأنهما اسرائيليان ممّا استدعى من الأخير أن يقسم على الملأ وفي كلمة الضيوف التي أعطيت له في حفل الختام لو أن شرياناً فيه يصب في التطبيع لاجتثه من جذره. وضجت القاعة بتصفيق حار استمر طويلاً.