الفيفا ينشر «البوستر» الرسمي لبطولة كأس العالم للأندية 2025    إحباط تهريب 380 كيلوجرامًا من نبات القات المخدر في جازان    مدرب البحرين: أعد بالتأهل لكأس العالم 2026    "الديار العربية" و"NHC" توقّعان اتفاقية تطوير مشروع "صهيل 2" بالرياض    القمر البدر العملاق الأخير    تركي آل الشيخ يعلن القائمة الطويلة للأعمال المنافسة في جائزة القلم الذهبي    قادة الصحة العالمية يجتمعون في المملكة لضمان بقاء "الكنز الثمين" للمضادات الحيوية للأجيال القادمة    جامعة أم القرى تحصد جائزة أفضل تجربة تعليمية على مستوى المملكة    المملكة تواصل توزيع الكفالات الشهرية على فئة الأيتام في الأردن    فريق قوة عطاء التطوعي ينظم مبادرة "خليك صحي" للتوعية بمرض السكري بالشراكة مع فريق الوعي الصحي    وزير الخارجية يلتقي وزير خارجية فرنسا    الذهب يواجه أسوأ أسبوع في 3 سنوات وسط رهانات على تباطؤ تخفيف "الفائدة"    النفط يتجه لتكبد خسارة أسبوعية مع استمرار ضعف الطلب الصيني    جامعة أمّ القرى تحصل على جائزة تجربة العميل التعليمية السعودية    خطيب المسجد الحرام: من ملك لسانه فقد ملك أمرَه وأحكمَه وضبَطَه    خطيب المسجد النبوي : سنة الله في الخلق أنه لا يغير حال قوم إلا بسبب من أنفسهم    ميقاتي: أولوية حكومة لبنان هي تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701    بيهيتش: تجربة النصر كانت رائعة    صحيفة إسبانية.. هذا ما يمنع ريال مدريد عن ضم لابورت    "الخبر" تستضيف خبراء لحماية الأطفال من العنف.. الأحد    ليس الدماغ فقط.. حتى البنكرياس يتذكر !    البثور.. قد تكون قاتلة    قتل أسرة وحرق منزلها    أمريكا.. اكتشاف حالات جديدة مصابة بعدوى الإشريكية القولونية    أمين الأمم المتحدة يؤكد في (كوب 29) أهمية الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية    إصابات بالاختناق خلال اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي بلدة الخضر جنوب بيت لحم    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    الرياض تستضيف النسخة الرابعة لمنتدى مبادرة السعودية الخضراء    جرائم بلا دماء !    الحكم سلب فرحتنا    الخرائط الذهنية    «قمة الرياض».. إرادة عربية إسلامية لتغيير المشهد الدولي    احتفال أسرتي الصباح والحجاب بزواج خالد    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    «السوق المالية»: تمكين مؤسسات السوق من فتح «الحسابات المجمعة» لعملائها    في أي مرتبة أنتم؟    الشؤون الإسلامية بجازان تواصل تنظيم دروسها العلمية بثلاث مُحافظات بالمنطقة    باندورا وعلبة الأمل    6 ساعات من المنافسات على حلبة كورنيش جدة    مدارسنا بين سندان التمكين ومطرقة التميز    عاد هيرفي رينارد    لماذا فاز ترمب؟    علاقات حسن الجوار    الشؤون الإسلامية في منطقة جازان تقيم مبادرة توعوية تثقيفية لبيان خطر الفساد وأهمية حماية النزاهة    خالد بن سلمان يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    أمير المدينة يلتقي الأهالي ويتفقد حرس الحدود ويدشن مشروعات طبية بينبع    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    استعادة التنوع الأحيائي    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    مقياس سميث للحسد    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عروض سليمان البسام وجورج إبراهيم وربيع مروة ولينا صانع . أسئلة المسرح العربي ورهاناته في مهرجان طوكيو
نشر في الحياة يوم 23 - 03 - 2004

لو أن "مهرجان طوكيو الدولي للفنون" تمكّن من استضافة عرض توفيق الجبالي الأخير - كما كان يعتزم - ضمن التجارب والأعمال العربيّة التي قدّمتها دورته العاشرة، لنجح في تقديم بانوراما مكتملة من شأنها أن تختصر اللحظة المسرحيّة العربية، في مختلف روافدها وتجاربها واتجاهاتها. لكن مشاركة المسرح التونسي في المهرجان المذكور، حالت دونها عراقيل اداريّة فضّلت ادارة المهرجان عدم التوسّع في شرحها... هي التي واجهت مصاعب من نوع آخر مع العرض الفلسطيني، وتعرّضت لضغوط مباشرة من السفارة الاسرائيلية في اليابان بسبب اصرارها على برمجة "قصص تحت الاحتلال" ل"مسرح القصبة" في رام الله. هكذا لمس اليابانيّون، في غمرة سعيهم المتحمّس الى الانفتاح على العالم العربي واكتشافه، وهي بادرة جديدة من نوعها تستحقّ الحفاوة والاهتمام، واكتشفوا مدى تعقيد الواقع العربي، وحجم المصاعب التي تواجهها الفنون المشهديّة العربيّة في النمو والانتشار والوجود، بين الاحتلال، وثقل البيروقراطيّة الاداريّة والسياسات الثقافيّة الرسميّة غير المعنيّة بالشأن الثقافي، أو التي تعمل على مصادرة الابداع وتدجينه واحتوائه بكلّ الأشكال. وهذه القضايا الابداعيّة والانتاجيّة، طرحت مطوّلاً في ندوة ضمّت ممثلي المسرح الآسيوي سنغافورة، كوريا، هونغ كونغ...، والعربي، وشارك فيها من الجانب العربي رائد عصفور، "مسرح الفوانيس" - الأردن، حسين الرفاعي "مسرح الصواري" - البحرين، هدى وصفي مسرح "الهناجر" - مصر، ومصمّمة الرقص التونسية نوال اسكندراني، وكاتب هذه السطور.
غاب المسرح التونسي إذاً، فحرم الجمهور الياباني من الاطلاع على أحد الاتجاهات الأبرز على المستوى المشهدي العربي على رغم تراجعه في السنوات الأخيرة، ذلك القائم على طغيان العنصر البصري، وعلى الثراء الجمالي والتقنية النظيفة، وأوليّة الجسد على النصّ، والرؤية الاخراجيّة على "الخطاب". لكن مشاركة الكويتي سليمان البسّام، والفلسطيني نزار الزعبي، والثنائي اللبناني ربيع مروّة ولينا صانع، جاءت لتضع ثلاث تجارب مختلفة من المسرح العربي الراهن، في مواجهة مثيرة ومعبّرة:
المسرح القائم على تحوير النصّ الشكسبيري، وتحميله بشحنة من الاسقاطات السياسية، وهو الاتجاه الذي برع فيه قبل سليمان البسّام، المسرحي العراقي جواد الأسدي.
المسرح الاحتفالي الذي يتوسّل الأسلبة، والعناصر الطقوسيّة، واللعب الادائي، وتقاليد الحكواتي، لمعالجة الواقع السياسي من خلال السخرية والتضخيم والمسرحة... وهذا الاتجاه عرفته الخشبة الفلسطينية مع "مسرح الحكواتي" المقدسي وفرنسوا أبو سالم منذ الثمانينات "محجوب... محجوب"، "حكاية العين والسنّ"...، ويمضي فيه "مسرح القصبة" الذي يشرف عليه جورج إبراهيم.
تجربة "البرفورمانس" التي تمضي بالفرجة الى تخوم الاحتفال المتعارف عليه، وتخرج المسرحيّة من فضائها المعهود في محاولة لتجاوزها إلى "العرض" التجهيزي الذي يقوم على تقنيات مختلفة المحاضرة والفيديو...، ويصعب اخضاعه للتصنيفات القديمة، ويتلاعب على مستويات الخطاب والسرد والصورة والرؤية واعادة تشكيل الواقع.
هاملت الأصولي
افتتح "مهرجان طوكيو" بمسرحيّة عربيّة من انتاجه، في خطوة هي الحلقة الأولى من سياسة تعاون طوال ثلاث سنوات. إنّها "قمّة هاملت" التي سبق للجمهور أن شاهد صيغتها الانكليزية في تونس أيّام قرطاج والقاهرة التجريبي والكويت "مهرجان الكويت المسرحي" وأدنبره. أعاد المخرج الكويتي سليمان البسّام صوغها بالعربيّة، في حلّة جديدة رافقتها موسيقى حية، وقدّم عرضها العالمي الأوّل في اليابان مع مجموعة من الممثلين العرب كفاح القوس/ هاملت، نقولا دانيال/ كلوديوس، مناضل داوود/ بولونيوس وفورتنبراس، أمانة والي/ جرترود، مريم علي/ أوفيليا، بشار العبدالله/ لايرتس والبريطاني نايغل باريت تاجر السلاح.
هاملت هنا لم يعد البطل الكلاسيكي الذي نعرف. إنّه مفتاح درامي، شخصية مستعارة من النصّ الشكسبيري، ومن ذاكرتنا الثقافيّة، تُرك ليتحرّك في الواقع السياسي العربي اللفظي الحافل بالدسائس والمؤامرات والخيانات والفساد والانقلابات والانقسامات... والعجز عن مقاومة الغازي. أعاد البسّام كتابة رائعة ويليام شكسبير بلغة سياسية عربيّة... لغة المؤتمرات، والصحف، والخطب السياسية. تصوّر المسرح على شكل قاعة مؤتمرات بستة منابر، وضع خلفها شخصياته التي احتفظت بأسمائها الاصليّة: كلوديوس العمّ القاتل، جرترود الأم الخائنة، أوفيليا البتول الجريح، هاملت طبعاً حامل أوزار الظلم والساعي الى الانتقام، إضافة الى لايرتس، فورتنبراس، بولونيوس... كل منبر يحمل اسم صاحبه. نحن في قمّة، تذكّر بالقمم العربيّة، نسمع الخطب الجوفاء نفسها، نتفرّج على الانقسامات المعهودة في هذه المدينة غير المحددة الملامح التي يحاصرها العدوّ. الامة على أبواب حرب تهددّ كيانها، والقادة منقسمون، غارقون في مصالحهم وعصبياتهم... شيء من "منمنمات تاريخيّة" سعدالله ونّوس، وربّما من "ملوك الطوائف" منصور الرحباني!
الاضافة التي تقدّمها مسرحيّة البسّام، هي أيضاً نقطة ضعفها. فدور المخرج مبدئياً هو تأويل النصّ من دون المساس به، من خلال الكتابة الاخراجيّة. أما المسرحي الكويتي الشاب، فيكتب فوق الكتابة نصّاً "تفسيرياً"، ويعيد اخراجه فيكون أوصل الخطاب نفسه مرّتين. لكنّ الجرأة التي أثارت اهتمام الجمهور، هي صورة هاملت المبتكرة، إذ حوّله الظلم، والعجز عن الانتقام لأبيه القتيل، أصولياً ومتطرّفاً وارهابياً، كما باتت أوفيليا انتحارية عربية! وهذه المناقشة الرمزيّة لأوضاعنا ونقدها، أمام امتحان الحداثة المستحيلة، هي جوهر العرض وهويّته. وكل العناصر الأخرى الاخراج والتمثيل... في خدمتها. هكذا يقتتل القادة العرب، بتشجيع من تاجر السلاح الغربي، ويأتي فورتنبراس، الغازي الأجنبي الذي يرمز الى اسرائيل! ليسيطر على الأمّة المهزومة.
احتفال عبثي ضدّ الاحتلال
والسياسة المباشرة هي أيضاً حجر الأساس في الخيارات الجمالية لمسرحيّة "قصص تحت الاحتلال" التي قدّمها "مسرح القصبة" في طوكيو، وكانت حازت الجائزة الأولى في آخر دورات "أيام قرطاج المسرحيّة" في تونس، وعرضت في "مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي" و"مهرجان لندن الدولي للمسرح" LIFT. والضجّة التي أثارها العمل في اليابان، تأتي بعد مصاعب مشابهة واجهتها الفرقة خلال جولتها في الولايات المتحدة، اذ تعرّضت لحملات قاسية من جماعات ضغط مؤيدة لاسرائيل.
العرض إخراج نزار الزعبي كناية عن احتفال هاذ، يتوسّل الكوميديا والاستعراض وتقنيات "الحكي" ليعيد تجسيد فصول من معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال. يقوم العرض على البساطة في تصوير فانتازيا متخيلة، تنبع من مرارة الواقع، وتستوحي تقنيات الكوميديا ديلارتي، مقتربة من المسرح الاحتفالي في أسلوب الحوار والحركة والمؤثرات الصوتية والبصريّة. ويعتمد الممثلون جورجينا عصفور، محمود عوض،، حسام أبو عيشة، كامل الباشا، اسماعيل دبّاغ، خالد ماسو على ديكور من أكوام الصحف، منها يقتطفون مادة التمثيل والارتجال والحوار.
وانطلق العمل في الاساس من مجموعة ارتجالات تمثيليّة قام بها أعضاء الفرقة في رام الله، وتطورت وفق خط درامي ما فتئ يتغذّى من الأحداث التي رافقت الانتفاضة وتلتها. وبرزت المواقف الكوميدية للتعبير الساخر عن لا عقلانيّة الاحتلال وممارساته، ولتجسيد إقبال الفلسطينيين على الحياة، ورفضهم أن يتحولوا أرقاماً من الموتى والجرحى والبيوت المهدمة، في الصحف اليومية.
والمسرحيّة تقوم على عنصر الفانتازيا الغرائبية، وتطرح أسئلة معقّدة حول العلاقة بالحياة والموت، وتعتمد السخرية والكوميديا السوداء في مواجهة عبثية الواقع. نشير مثلاً الى مشهد المكالمة الهاتفية المفترضة بين الأب الذي يعيش تحت الاحتلال والابن الذي هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية. أو حكاية الحمار الأبيض الذي صادره الإسرائيليون من جملة ما استولوا عليه في القرية، ويطلب الممثل من قوى الغيب أن تعيد اليه حماره على طريقة "المتشائل". فيما يتصوّر الفنّان الهاوي مثلاً أن زيارة شارون للمسجد الأقصى جزء من فيلم يقوم هذا الاخير ببطولته، ويتخيل نفسه أحد الكومبارس الفلسطينيين، فيبذل جهداً كبيراً في رجم جنود الاحتلال على أمل أن يشاهده مخرج الفيلم فيرشحه لأدوار البطولة في أفلامه المقبلة.
ويحول الممثلون تدريجاً أكوام الورق إلى مقبرة يدفنون أنفسهم تحتها، ثم تخرج أجزاء من أجسادهم من هذه الكومة، كأنّها احالة الى أسطورة "طائر الفينيق"، واعلان الرغبة في الانبعاث السياسي، والانساني، والعودة الى الحياة.
موت الممثّلة في شاشة فيديو
ونصل أخيراً إلى المسرحيّة اللبنانية "بيوخرافيا" لربيع مروّة ولينا صانع التي يمكن اعتبارها بين أكثر التجارب اشكاليّةً على مستوى المسرح العربي منذ سنوات. قدّمت للمرّة الأولى قبل عامين في بيروت ضمن منتدى "أشكال ألوان"، ولم تعرض بعد ذلك في أي بلد عربي، فيما جالت على مهرجانات عالميّة عدّة من "فرنكوفونيات ليموج" الفرنسي، إلى "مهرجان الفنون" في بروكسيل.
هل "بيوخرافيا" مسرحيّة حقّاً؟ هناك عرض حتماً، لكنّ المسرحيّة لم تبدأ بعد، والأرجح أنّها لن تبدأ. إنّها خارج الإطار ربّما، خارج الحقل البصري للكاميرا كما نقول في السينما. سنسمع عنها بعد قليل، من خلال كلام عن بعض التفاصيل التي حذفتها الرقابة... أما خلال العرض الراهن، الآن وهنا، فسنكتفي غالباً بمقابلة إذاعيّة؟ تلفزيونيّة؟ مع "الممثّلة" الواقفة وحدها في العراء، قلقة ومتردّدة، بقميصها الداخلي الأبيض، ويداها معقودتان أمامها إلى الأسفل، تتلعثم برشاقة بين مقتضيات "الشخصيّة" المفترضة، وحقيقتها هي كممثّلة. فهذه التجربة الاستثنائيّة تقوم على ضياع الحدود بين الممثّل والشخصيّة، في التباس متعمّد يعيدنا إلى اشكاليّة شهيرة، عالجها ديدرو في كتابه "مفارقات حول الممثّل": لينا صانع في دور ممثّلة يجرى معها حوار حول عملها المسرحي الذي يحمل عنوان "بيوخرافيا"، ويتناول عناصر بيوغرافيّة "مفترضة"، تتقاطع مع حياة الثنائي لينا صانع وربيع مروّه.
ديدرو إذاً، وبيرندللّو أيضاً. فهذا الدخول إلى مختبر العمليّة الابداعيّة، إلى كواليس اللعبة المسرحيّة، ليس بعيداً من "المسرح داخل المسرح". وهو أحد المحاور الأساسيّة لعرض متعدد المستويات، يقوم على مساءلة الأدوات الفنيّة، دور المسرح وأهميته، هويّة صانعيه، وانتمائهم إلى زمن وعصر ومجتمع ومرحلة وجيل... كما يقوم على نقد الخطاب السياسي والجمالي، عبر تفكيك العلاقات بين الواقع وصورته. ويسأل المشاهد مراراً خلال العرض: هل هو دور مسرحي مصطنع ومركّب؟ هل تلعب لينا صانع دورها الحقيقي مئة في المئة، في ما تكشف من أسرار حميمة، وتسرد من وقائع، وتعلن من مواقف؟ تبعاً لأيّ منطق، أو آليّة، تندرج إذاً العناصر البيوغرافيّة في سياق العرض، إذ تذوب، بمهارة نادرة، وسط سيل من التفاصيل المتخيّلة، القائمة على الاستطراد والمبالغة و"التلفيق" الفنّي والهذيان الذي لا يعلن نفسه؟ هذا الضياع بين الحقيقة واختلاقاتها، يترك لنا حريّة التصديق، والانفعال، ويخلق صدمة الوعي. والاشتغال على اللاتمثيل، يتوازى سيطرة مذهلة على الوسائل التقنية، بدقّة وتقشّف يذكّران ببعض مسرح بيتر بروك. ويتوازى اللاتمثيل مع جرأة الثنائي في "تعرية الذات" كمشروع مانيفستو جمالي، وجودي، ميتافيزيقي، هو العمود الفقري ل"بيوخرافيا" سينوغرافيا علي شرّي. فالمسرحيّة تريد أن تنتمي إلى شكل فنّي جديد، يجمع التجهيز البصري، وال"هابنينغ"، وال"برفورمانس" كما تقول "الممثلة"، إذ تأسف لكونها لم تصوّر مشهد اطلاق الرصاص عليها من مقاتل ميليشيوي في الحرب: "كانت طلعت برفورمانس حلوة!".
أين ينتهي السياسي ليبدأ الفنّي في العمليّة الابداعيّة، كما تسأل الممثّلة، ردّاً على الصوت الذي يسألها عن علاقة جيلها بالسياسة؟ مذكّرة بأنّها لا تقدّم سوى "إجابات فرديّة". وسرعان ما تتحوّل إلى استجواب "مكارثي"، تجريها مسجّلة مع "الممثّلة" التي تتحكّم هي بها، فتوقفها وتعيد الشريط وإذا بالكلام مختلف عن المرّة السابقة... تتحاور لينا صانع مع الصوت الذي يشبه صوتها، تختلف معه حدّ الخصام والمناكفة تتخاصم معه. صوت مغفل، طالع من لا مكان، بل من أمكنة عدّة متناقضة، يحاور "الممثّلة" حول تجربتها، وعلاقتها بفنّها وجيلها وزوجها ونفسها ومجتمعها والجنس والسياسة والحرب، إلخ.. ومراراً ينقطع الحوار. توقف المسجّلة، تعيدها، فيطلع الكلام مختلفاً، يضمن تصاعداً درامياً نحو القطيعة القصوى... إذ يتحوّل الحوار إلى استجواب بوليسي، ومحاكمة خلاّقة.
ويستعيد الحوار تفاصيل من أعمال سابقة لمروّة وصانع، يتوقّف عند تيمات أساسيّة مثل العائلة وطغيان الأب، يعرّج على ذاكرة الحرب الممحوّة، يحرّك المبضع في جرح الهويّة، والذات، والعلاقة الزوجيّة، والابداع، يعلّق على راهن سياسي حارق، يتناول الرقابة التي تعوق القول، وتحرّمه، حين يكون تمرّداً جذريّاً. والراديكاليّة من سمات هذه المسرحيّة "الصداميّة" و"الاستفزازيّة" كما يقول الصوت متّهماً، التي تتطاول على سلطة القول، وتحوّل القرف إلى شاعريّة نادرة، منتمية الى مسرح جان جينيه وبرنار - ماري كولتيس. وتكمن راديكاليّة العمل في كتابة النصّ طبعاً، في الخطاب المباشر... إنّما هي، في شكل أهمّ، راديكاليّة جماليّة، في تصوّر القوالب الفنية وأشكال التعبير. في اعتماد السرد الدائري والمتقطّع والتصاعدي، وتعدد زوايا النظر والسمع، وتفجير اللغة المسرحيّة وفضحها وامتحان امكاناتها القصوى... وخصوصاً في استعمال الفيديو في شكل مبتكر، يخلق الشرخ بين مستويات الكلام، ويحفر الهوّة بين الصوت والصورة، ويفضح التفاوت - في حياتنا اليوميّة، وفي الايديولوجيا السائدة، وتقنيات الاتصال - بين الواقع وتجلياته، بين الأصل والصورة.
فالإطار الزجاجي الفارغ الذي كانت تتكلّم لينا صانع من خلفه في البداية، يمتلئ بسائل ضبابي، تدريجاً، ويصبح شاشة عليها صورة وجه لينا صانع، وهي تقف وراءها. تقف وراء الصورة. والصورة ضبابيّة، مشوشة وغير واضحة، والصوت يأتي منها أحياناً، أو لا يأتي. تتكلّم الممثّلة، أو تتوقّف عن الكلام، وتبقى صورتها، ويبقى صوتها، يعيد ويكرّر، وفي الذروة يتلاقى صوتها مع صوت محاورتها، فيرددان الكلام نفسه كاللازمة. وحين يتأزّم الحوار مع المسجّلة، حول ضرورة الرقابة، وتنصحها "المرأة الأخرى" عدم الدخول في التفاصيل، يدخل في كادر الفيديو مسدس، تسدد فوهته إلى وجه لينا صانع، وتتطاير الصورة شظايا، فتمتلئ الشاشة بدم برتقالي. تكرّر اللقطة مرّتين، إنه العنف "الآرتوي" انطونان آرتو، أو التجاذب "الايزنشتايني" البارد، بين مستويين مختلفين من العمل.
تقول لينا المؤلّفة والممثّلة: "المقاومة تصوّر عمليّاتها كي تؤكّد وجودها، إذ تعتقد أن الشخص لا يكون حقيقياً إلا إذا كان صورة". إنها تمثّل، أي تموت، أي تزول، أي لا تعود... لذلك ستقطع اللعبة فجأة... تحضر سطلين، تفتح مواسير صغيرة، وتفرغ الشاشة من سائلها. تملأ به قوارير صغيرة، تصففها بعناية على صينيّة. تأخذ كلّ وقتها. إنه ماء الرحم، الذي احتضن صورتها، وفراغ الوعاء - الشاشة، هو موتها. موت العرض. لم يبقَ إذاً سوى أن تحمل القوارير، تجتاز صالة المسرح، وتتوجّه نحو باب الخروج.
قرب الباب، ستجلس الممثّلة إلى طاولة في انتظار خروج الجمهور، تصفف القوارير ذات السائل الأبيض التي نقشت عليها صورتها... وستبيع كل قارورة عليها صورتها، لمن يرغب، ب 20 دولاراً! لكن المشاهدين سيطيلون الجلوس في مقاعدهم، فكيف تراهم يعرفون أن العرض انتهى؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.