قبل الحديث عن رواية "ثلج" للكاتب التركي اورهان باموك في ترجمتها العربية دار الجم ل، استميح القارئ عذراً ان يشاركني العودة حقبة من الزمن الى العام 1994 حين ارتفعت في شوارع اسطنبول ملصقات ترجمتها:"ذات يوم قرأت كتاباً غيّر حياتي". في ذلك الوقت لم تكن الدعاية للكتب الأدبية أدركت المجال الاعلاني ? التجاري، بل كان يبدو هجيناً ومستغرباً ان تحمد دور النشر الى ترويج الأدب كما يروّج الصناعيون بضاعتهم والتجار سلعهم. الا ان تلك الدعاية جاءت في وقتها لتطلق الرواية الخامسة لباموك الى فضاء من الرواج أدرك حدود المئة وسبعين ألف كتاب في العام الاول، وكانت الاسرع مبيعاً في تاريخ النشر التركي المعاصر. سبقت"الحياة الجديدة"أربع روايات شكّل مبيعها سلّماً تصاعدياً أدهش الجميع وعلى رأسهم باموك نفسه - فهو لم يتوقع ان تنفد نسخ"جودت بك وأولاده"مع ان ناشرها لم يطبع من الاصدار الاول اكثر من ألفي نسخة."البيت الهادئ"باعت ثمانية آلاف نسخة عام 1982 وعام 1985 باعت روايته الثالثة"القلعة البيضاء"16 ألف نسخة، أما"الكتاب الأسود"فباعت 64 ألف نسخة، واستمر التصاعد في المبيع السنوي مع صدور"اسمي أحمر"عام 1998، لكن القفز فوق المئة ألف نسخة لم يتحقق الا بعد"الحياة الجديدة"والملصقات التي رافقت صدورها. يقول أورهان باموك:"عندما صدرت كتبي الأولى كان الماركسيون والمحافظون والاسلام السياسي في حال مواجهة قصوى، وبما انني كنت جديداً في الساحة الادبية رحّب بي الجميع الى حدّ ما، ولو مع بعض الريبة... لكن ذلك ادى الى حصولي على كل الجوائز، الى ان شهدت تركيا نهضة اعلامية ملحوظة، فاذا بكتبي تلقى اهتماماً واسع النطاق. وتجد طريقها الى الترجمة في الغرب". مورين فريلي التي ترجمت"ثلج"الى الانكليزية، عاشت ردحاً طويلاً من الزمن في اسطنبول وعرفت اسرة باموك. تقول ان سرعة التغيرات في تركيا خلال الحقبتين المنصرمتين كانت مذهلة، وشهدت الكثير من المعاناة والالتباس، وما يكتبه اورهان باموك محاكاة لذلك الواقع المعيش وانعكاس للمونولوغ الداخلي الدائر في نفوس الناس. وتضيف فريلي ان المزائج الاسلوبية التي يعتمدها باموك، ولو انها تبدو متغايرة أحياناً أو متحدية للمنطق هي ايضاً تصوير صادق للبلبلة الروحية والنفسية التي يمر بها الاتراك حالياً على اختلاف معتقداتهم وتوجهاتهم. تحولات سياسية عند"ثلج"يقول باموك ان 18 سنة من هيمنة المناخ الماركسي على قوى الطليعة في تركيا أفلت الى غير رجعة"واللافت ان الاسلاميين السياسيين حلوا محل الماركسيين واستعاروا الكثير من مفردات خطابهم، ذلك ان الروح الوطنية ومناهضة الغرب قواسم مشتركة تجمع بينهم، ولذا قررت كتابة هذه الرواية. أحببت فكرة المدينة المنقطعة عن بقية تركيا بسبب الثلج، وفي الوقت نفسه يقع انقلاب عسكري". "ثلج"هي سابع روايات باموك. كان بطلها"كا"منفياً لاسباب سياسية في فرانكفورت. يعود الى اسطنبول بعد غياب 12 سنة لحضور مأتم والدته، ثم يرتحل الى مدينة فقيرة في الأناضول تدعى قارْص، فيما ينهمر الثلج ندفاً متلاحقة. والجدير ذكره ان كلمة"كار"تعني الثلج في التركية، وهنا"كا"يشاهد ويشهد احداثاً بينما"كار"يملأ الأرض والفضاء بلا هوادة، في قارْص. يدّعي"كا"انه صحافي جاء ليكتب عن الانتخابات المحلية وعن ظاهرة انتحار الفتيات المحجبات، اضافة الى مقتل عمدة المدينة. الا ان دافعه الشخصي حميم وبعيد من الصحافة والسياسة في آن، فهو على علم بطلاق حبيبته الجميلة إيبك التي عرفها على مقاعد الجامعة، وفي خياله حنين دفين اليها. اما إيبك فكانت تعيش وحدها في"فندق قصر البلح"حيث يجد"كا"له غرفة تؤويه غيلة البرد والثلج... الثلج سقفه والثلج ابواب موصدة في وجهه دون الفرار من تلك المدينة المسكونة بأشباح زوالها حيث العمارة الشاهدة على مجد غابر للامبراطورية العثمانية، وكاتدرائية فارغة للأرمن، شاهدة على المذابح التي تعرّضوا لها، وظلال الحكام الروس واصداء احتفالاتهم الصاخبة، وتعلو الجدران المتفسخة صور اتاتورك مؤسس الجمهورية ورائد المعاصرة الذي كان اول مسلم يحرّم ارتداء الحجاب... وهنا الفتيات اللواتي تمنعهن المدارس من دخول صفوفها اذا ارتدين الحجاب فيدفعهن اليأس الى الانتحار. انتحال صفة الصحافي يفسح في المجال لباموك استعراض الآراء والتناقضات التي تنشأ في الحقب اللاحقة لانهيار امبراطورية نشرت سيطرتها على آسيا الصغرى وبعض اوروبا طوال خمسة قرون: علينا ان نبقى أقوياء! أي عار ارتكبناه! من المذنب يا ترى؟! والسؤال اللجوج القاتل: من تكون بحق؟ وإذ يحاول"كا"ان يكشف سرّ الفتيات المنتحرات يلقى صداً واضحاً تعود منابعه الى المصادر الاساسية لحال الاستلاب المتجذرة في الذهن الجمعي، فهو"متهم"كونه من خلفية بورجوازية يعيش في اسطنبول المنفتحة على الغرب، وهو كان منفياً في ذلك"الغرب"ويرتدي معطفاً متأنقاً... المؤمنون يتهمونه بالالحاد، السلطة لا تريده ان يكتب عن المنتحرات لئلا تتعرض للاحراج، واذ يكون في محل الحلويات يدخل اصولي مسلّح ويقتل مدير المعهد الذي طرد ابنته المحجبة. وتظنه الشرطة زوج إيبك فتعتقله ثم تعتقل الزوج. وهناك يشهد"كا"عنف البوليس وعسفه، ويدرك انه مراقب فيجهد لتضليل المكلفين متابعة خطاه ليلتقي كحلي، الأصولي المتواري عن الانظار والمتهم بتدبير قتل مدير المركز. وهكذا تكرّ سبحة المصادفات واللقاءات في حركة متواصلة تكتنفها المآسي والشعور بضياع الهوية واشتداد الظلام على ايقاع ندف الثلج المتواصل. حتى"ثلج"لم تلعب النساء ادواراً تتجاوز أداة المتعة في روايات باموك، الا ان العنصر النسائي يتجسد بقوة هنا من خلال إيبك واختها قديفة، ناهيك عن كورس الفتيات المحجبات، كما في التراجيديا الاغريقية، يحملن المأساة ويذهبن ضحيتها:"الأمر الذي أوقع"كا"في يأس عجيب من هذه الحكايات كلها هو ان الفتيات المنتحرات لم يجدن فرصة للخلوة سوى من اجل الانتحار. حتى الفتيات المنتحرات بحبوب النوم كنّ يقتسمن الغرفة مع غيرهن حتى وهن يمتن بشكل سرّي". أعلاه عينة جيدة نسبياً من الترجمة العربية التي وقعها عبدالقادر اللي، وأصدرتها"منشورات الجمل"، الا ان هذه الترجمة عموماً في حاجة الى تحرير شامل، فالعبارات الفجة كثيرة، بل ان بعضها يأتي غامضاً وملتبساً، خصوصاً في تسويق الكلمات والحفاظ على أزمنة الافعال ضمن الجملة الواحدة:"من الصعب تحديد ما اذا كان قد اتخذ تلك القرارات في تلك اللحظة كما كتب القصيدة، او انها جاءت نتيجة التناظر السري للحياة في اثناء محاولته فك اسرار كتابه"، عبارات مترجمة حرفياً كهذه تتكرر عبر الكتاب مما يرهّل النص ويبلبل ذهن القارئ:"زرقة عينيه تقترب من لون كحلي لا يمكن رؤيته في عين تركي"والمقصود بها ان اللون الكحلي في زرقة عينيه ليس مألوفاً في عيون الاتراك... مؤسف حقاً، الا تكون"منشورات الجمل"بذلت جهداً أكبر في تحرير الترجمة خصوصاً انها، كما يبدو مأخوذة عن التركية مباشرة. مع ذلك فمطالعة"ثلج"ضرورية في أي لغة يفضلها او يختارها القارئ، لأنها تطرح اسئلة تتعلق مباشرة بواقعنا العربي، ولأنها ايضاً قصة حزن لا شفاء منه الا بالجمال الذي فيها. ويشعر العربي لدى مطالعة"ثلج"انه ورث امراض الامبراطورية العثمانية من دون ان يوفق بأتاتورك، اللهم الا في تونس التي استعار لها بورقيبة شرعة حقوق اجتماعية من فرنسا قبل نشوء الاصوليات المتشددة في العالمين العربي والاسلامي.