في روايته الجديدة "ثلج" الصادرة قبل شهور باللغة التركية في اسطنبول، يعرض اورهان باموك امام القارئ، من جديد، مهاراته الكتابية. وهو، هنا، يستكمل مشروعاً إبداعياً ما برح يوطّد دعائمه بحذق. ك. شاعر تركي يعود من ألمانيا الى تركيا بعد اكثر من عقد قضاه منفياً، بعيداً من ديار الأهل. بعد أربعة ايام فقط في البيت ينطلق ك. الى مدينة "قارص" الحدودية لكتابة تقرير عنها. المدينة النائية بقعة منسية لا يفطن احد إليها من ابناء العاصمة. لا يدخل ك. المدينة حتى يبدأ الثلج ينهمر من دون توقف، ليلاً ونهاراً. يغطي الثلج كل شيء، البيوت والمحلات والشوارع والأشجار والطرقات. المقاهي التي تكتظ بالعاطلين من العمل تزداد اكتظاظاً وفندق "قصر الثلج" يضيع في الثلج والعزلة. في الرواية تنعقد الخيوط وتتشابك وتذهب المسالك مذاهب شتى. وهذا هو شأن باموك في رواياته. فالحكاية حبلى بالألغاز والحبكة تنزلق عند كل مفصل لتترك مكانها لحبكة اخرى تسرع لملء الفراغ. يلاحق الشاعر، الذي بات الثلج يخنق روحه، حوادث انتحار الفتيات في المدينة، وتقاتل المجموعات السياسية في ما بينها وتداعي البيوت المبنية على عجل أي البيوت التي تُبنى ليلاً بعيداً من انظار الموظفين الحكوميين وذلك لأنها بيوت غير قانونية وسوى ذلك. بلغة كثيفة وتقنيات سردية حاذقة يأخذ الراوي بيد الشاعر ك.، وكذلك بيد القارئ، في رحلة شاقة لا تلوح نهايتها. وفي الطريق الذي أمحى الثلج ملمحه، يختفي كل شيء في التيه والحيرة والضياع. تلقّف القراء، وكذلك النقاد، الرواية بشغف. وفي الشهور الأولى فقط نفدت طبعات متلاحقة بمئات الألوف من النسخ. وشأن كل رواية لباموك ارتفع صوت السجال وانقسم المعنيون بالشأن الى فرق وجهات. وكرر الناقد التركي مراد بلكه ما سبق وقيل وهو ان اورهان باموك ادخل الرواية التركية في قلب العالم. رواياته، يقول بلكه، ما بعد حداثية وهي رسّخت في القوام المبدأ المعماري الهندسي حيث يشبه النص بهواً طويلاً يطل على غرف متجاورة صممت بإتقان.