قد لا تكون مبالغة أن تؤكد أنك في كل مرة تدير جهاز التلفزيون يطلّ عليك وجه جديد وصوت مختلف. في كل مرة، يستقبلك قدّ ممشوق، هو لهاوية تحلم بركوب موجة الفن، أو شاب احب الشهرة فأسقط صوته على هزّ وسط راقصات جميلات. اللافت في الموضوع هو المشهد نفسه الذي يتكرر يومياً: صوت خفيف، يرافقه إيقاع سريع وأجساد تتمايل - وكأن الرقص بات الجندي المجهول وراء نجاح المغني - كلمات سئمت الأذن سماعها وألحان تخطت السرقة فيها الحد المعقول. طفرة المغنين تفرز معادلة جديدة وتطرح سؤالاً بديهياً: هل حقاً يعيش الوسط الغنائي تخمة فنية؟ وهل سينقلب السحر على الساحر فيصبح لكل شخص عادي مطرباً خاصاً؟ خطورة الجواب قد تجعلك تفكر في ما لو نظرت إلى المسألة بالعكس: ماذا لو قررت شركات الإنتاج، لسبب مادي مثلاً، أن توقف عمليات تبنّي المواهب الجديدة وإنتاج الأغاني الجديدة؟ هل ستضمنّ أعمال اليوم استمرارية للأغنية العربية، خصوصاً أن أي عمل يقدم لا يدوم إلا لشهرين في أقصى حدّ؟ فعصر اليوم لا يمتّ بصلة للعصر الذهبي القديم، حينما كانت أغنية واحدة قادرة على العيش على الأقل نصف قرن، على رغم قلّة وسائل الإعلام والفضائيات القادرة على نشر الأغنية في كل مكان. بين الإعلام وشركات الإنتاج على ما يبدو، أن الحال ضاقت بكتاب الأغنية وملحنيها. فهؤلاء الذين يعدّون المنبع الأساسي للأغنية، يتحدثون بغضب عن مستوى الموسيقى العربية اليوم. ويحمّل هؤلاء وسائل الإعلام وشركات الإنتاج مسؤولية كبرى في ما يجري اليوم على الساحة الفنية. الشاعر نزار فرنسيس، يعتبر، أن انتشار الفضائيات وحاجتها إلى ملء ساعات بثّ طويلة لعبا دوراً كبيراً في تردّي الوضع الفني"هناك فوضى كبيرة في البث تحول دون انتقاء الأفضل والنوعية الجيدة. وتلعب شركات الإنتاج دوراً بارزاً في ذلك، فهي تفتقد إلى خبرة الإدارة. وتقوّم عملها على أساس التسويق المادي". من جهته، أكد الشاعر الياس ناصر أن" العنصر الاستهلاكي هو السبب. فالمسؤولية تقع على عاتق الإذاعات والتلفزيونات، كما إن الدولار سيّد الموقف". في الجهة المقابلة، الفن في بلادنا غير مدعوم ليقدم ثمرة جيدة كما الطب والتكنولوجيا مثلاً". بالنسبة إلى الملحنين، الوضع مختلف، فقد رأى الملحن الياس الرحباني أن"هناك سرقة فكرية أخطر من القتل والحرب... هناك قتل للفكر في لبنان الذي يجب أن يكون سباقاً في الإنتاج النوعي الفني من الحان وشعر ومسرح... نحن في عصر مافيات الملحنين وشركات الإنتاج إذ يغيب الهدف الجمالي غياباً كلياً". وأمام هذا المشهد المتمرد على أغاني اليوم، ترى شركات الإنتاج المسألة من وجهة نظر مختلفة. وأكد المكتب الإعلامي لشركة"روتانا"أن"الأغنية المهمة لا تحتاج إلى بث مكثّف ودعاية كبيرة. ولكن إذا ظهرت أغنية جديدة، ولا يملك مطربها الشهرة اللازمة، وجب دعمها وعرضها ليعتاد عليها السامع. في المقابل، هناك أغان تفرض نفسها لجودتها فيتكرر بثّها نزولاً عند رغبة وطلب المشاهدين...فألبومات نجوم كثيرين مثل حورج وسوف وعمرو دياب ومحمد عبده وحسين الجسمي وأصالة نصري وكاظم الساهر ونجوى كرم وأنغام وغيرهم لا تحتاج إلى عملية تسويق كبيرة، بل على العكس ينتظر الجمهور الخاص بكل مطرب تلك الأعمال سنوياً. تفاؤل رغم أي شيء على رغم انزعاج الكثيرين مما يصيب الساحة الفنية من ابتذال، ما زال بعضهم يتفاءل بالمستقبل. إذ اختتم فرنسيس قائلا":"الدنيا لو خليت خربت". واعتبر ناصر بدوره" أن الساحة الفنية لا تخلو من الأصالة، الكم قليل، إنما كلما هناك شمس تشرق ونساء تنجب، كل شيء قابل للتغيير...". أما تفاؤل الرحباني فتميّزه صبغة واقعية، إذ أعرب عن إيمانه المطلق في مواهب برنامجه الفني"سوبر الستار"، قائلاً إن"هناك أصواتاً رائعة وجميلة جداً، ونوعية ستفرض نفسها"، موضحاً أن شاشة المستقبل لم تحصل يوماً على المرتبة الأولى إلا بعد أن بدأت تقدم أصواتاً أصيلة جذبت آذان الجمهور". في النهاية، ووسط كل النتائج والتحليلات والوقائع التي يتحدث عنها البعض، بات من شبه المؤكد أن الساحة الفنية لا تعيش تخمة مغنين أبداً. بل العكس هناك أزمة كبيرة يعيشها الوسط الغنائي تتطلب صوتاً أصيلاً ولحناً متّقناً وكلمة عميقة.