ارتدى الرجل معطف فرو ثقيلاً، وشد اربطة حذاء مُعد للسير في ثلوج القطب الشمالي، وضع على ظهره كيس سفر من قماش سميك، اقترب من الطاولة الوحيدة في كوخ مُنعزل في ركن قصي من الاسكا، ارسل ما بدا له انه آخر بريد الكتروني الى عائلته. تعمّد ان تكون كلماته الى زوجته واضحة:"اذا سمعت انني اصبت بمرض انفلونزا قاتل، لا تأتي لزيارتي، خذي الاولاد وسافري الى بيت العائلة الجبلي البعيد وتموني بما يكفيك لاشهر طويلة". لم يتردد يوهان هولتين، اختصاصي الفيروسات الذي يقترب من سبعيناته من قبول ما بدا للكثيرين وكأنه مهمة مستحيلة أو أخيرة. وقد قبلها بعد الحاح من صديقه جيفري توبينبيرغير، من"معهد الامراض في القوات المسلحة الاميركية". بيّن توبينبيرغير ان مختبره توصل الى جمع الكثير من الاجزاء المُكوّنة لفيروس الانفلونزا الذي اجتاح العالم في العام 1918، وقضى على 50 مليوناً. وقد عُزلت تلك الاجزاء الفيروسية من جثة لمجند اميركي قضى بذلك الوباء، الذي عُرف تاريخياً باسم"الانفلونزا الاسبانية". ومع شبح اجتياح فيروس مماثل للعالم، بفعل فيروس يأتي الى البشر من الدواجن، لم يجد توبينبيرغير افضل من صديقه القديم هولتين، للقيام بالخطوة التالية التي لا مفر منها: التعرف الى التركيب الجيني الكامل لفيروس الانفلونزا الاسبانية. وللتوصل الى ذلك لا بد من الحصول على الفيروس نفسه. كيف يمكن التوصل الى فيروس ضرب ضربته واختفى منذ عشرات السنين؟ يكمن الامل الوحيد في مقبرة في منطقة نائية في الاسكا. تحتوي المقبرة رفات لبعض من قضوا في تلك الموجة. ويتولى الثلج والبرد حفظ الجثث، التي تحتوي على الفيروس في رئتيها، قَبل هولتين المُهمة لانه يعلم ان ثمة فيروساً لانفلونزا الطيور من نوع"اتش 5 آن 1" H5N1 قتل بشراً في آسيا، مما يعني انه يقدر على اصابة البشر. ولانه وافد من الطيور، فانه قد يُحدث وباءً يجتاح العالم، كما فعلت الانفلونزا الاسبانية، ربما مع فارق ان عدد قتلاه قد يصل الى 360 مليون انسان! ولمواجهته لا بد من معرفة فيروس الانفلونزا الاسبانية، الذي يُشبه فيروس"اتش 5 آن 1"في انه فيروس طيور أصلاً. بين هونغ كونغ وجبال الاورال بعد مسيرة اكثر من ساعتين، بين ثلوج القطب ورياحه الباردة، وصل هولتين الى المقبرة. انزل الكيس السميك عن ظهره. عثر على الجثث المطلوبة. اخرج ادواته. وبيد خبيرة، بدأ في تشريح الجثث. استخرج اجزاءً من رئاتها. قطّعها شرائح صغيرة. وضع تلك القطع في وعاء خاص. وغمرها بمحلول ليحفظ تركيبها. عاد هولتين الى كوخه. بعد ايام قليلة، صارت تلك القطع الصغيرة مصدراً لمعلومات غنية بالنسبة الى المختبرات الادوية الاميركية والعالمية. حدث ذلك في العام 1997، عندما ظهر فيروس"اتش 5 آن 1"للمرة الاولى. وحينها، اصاب دواجن في هونغ كونغ، ثم قتل طفلاً فيها. قذفت تلك الوفاة بسؤال مُرعب امام علماء العالم: هل تواجه البشرية فيروساً بمثل قسوة الانفلونزا الاسبانية. وبعد اسابيع، عاد هولتين الى اسرته. لم يحدث الاسوأ. لم تُضطر العائلة للجوء الى منزلها الجبلي. لم تتحول"انفلونزا هونغ كونغ"، التي سببها فيروس"اتش 5 آن 1"الى وباء يبيد مئات الملايين من الجنس الانساني، فيما يُشبه كابوساً مقيتاً عن"نهاية العالم". وفي مطلع الشهر الجاري، وبينما وباء انفلونزا الطيور في ذروة حركة انتشاره عالمياً، توصّل العلماء الى اعادة تركيب فيروس انفلونزا العام 1918. تبيّن انه فيروس طيور اصلاً. واكتسب قدرته على اصابة البشر، بفضل تغيير قوي ومفاجئ في جيناته، او ما يُسمى علمياً"طفرة جينية" Genetic Mutation. والاهم انه لم يأت نتيجة امتزاج فيروس الطيور مع فيروس الانفلونزا العادية التي تصيب البشر سنوياً. واستنتج العلماء انه يجب مراقبة جينات فيروس"اتش 5 آن 1"الذي يُسبب الموجة الراهنة من وباء الطيور. فبعد ان ضرب في هونغ كونغ في العام 1997، هدأ هذا الفيروس موقتاً. ثم عاد مزمجراً بقوة واطلق موجة من وباء فتّاك بين دواجن آسيا في العام 2003. وعمدت الدول المُصابة به الى ذبح جماعي مُكثّف لدواجنها، على أمل وقف الوباء. وتسبّب الامر في خسائر اقتصادية هائلة آسيوياً. ولم تنجح تلك الجهود كلها في وقف الوباء. واستمرت الموجة. وانتقل فيروس"اتش 5 آن 1"الى بعض البشر، ممن يخالطون الدواجن في صورة وثيقة. فاصاب بعدواه 116 شخصاً قتل منهم 65 انساناً. وفي الخريف الجاري، عبرت اسراب من الطيور المهاجرة، التي تضم اعداداً مُصابة بالفيروس، من آسيا مهد الوباء الراهن وبؤرته جبال الاورال. واطلق العلماء صيحة تحذير: لقد تحرك ذلك فيروس"اتش 5 آن 1"من مهده الآسيوي الى اوروبا. وسرعان ما ثبتت اصابته لدواجن في روسيا وتركيا ورومانيا والجبل الاسود. وباتت اوروبا في قبضة الذعر من الوباء. ثم عم الذعر، وليس الفيروس، من اوروبا الى انحاء كثيرة من العالم. انها صورة مألوفة تاريخياً عن الاثر النفسي لاوبئة على البشر. المكافحة آسيوياً تسابق طفرة الجينات مُجدداً، كرر العلماء تحذيراتهم من احتمال حدوث طفرة في جينات فيروس"اتش 5 آن 1"، ما يعطيه القدرة على اصابة البشر، ثم الانتشار بينهم. وشددوا على ان هذا الامر لم يحصل الى الآن. ولاحظوا ان الاصابات كلها حدثت بين بشر يخالطون الطيور على نحو وثيق. وعندما اعلنت اندونيسيا، قبل يومين، اصابة رجل وابنه بانفلونزا الطيور، حدث ما يُشبه استنفار عالمي. هل حدث تحوّل جيني في الفيروس، في قلب بؤرته الآسيوية؟ جاءت الاجابة نفياً، لان الرجل وابنه لم يكونا مُصابين بانفلونزا الطيور. واغتنمت"منظمة الصحة العالمية"السانحة للتذكير ان فيروس"اتش 5 آن 1"لم يدخل في طور اصابة البشر، ولا الانتشار مباشرة بينهم أي الانتقال من انسان الى آخر. ويرى بعض العلماء، مثل الاختصاصي يي غيون من جامعة هونغ كونغ، ان الوضع العلمي للفيروس مقلق راهناً بسبب غياب الاجابة الحاسمة عن تلك النقطة بالذات. وبحسب ما نشرته مجلة"ناشيونال جيوغرافيك"أخيراً، يتحدث الخبير الاميركي عن عدد كبير من الاسئلة التي لم تجد اجابة لها بخصوص فيروس"اتش 5 آن 1". ومثلاً، لا احد يعلم هل سيقفز الفيروس الى مرحلة اصابة البشر ام لا؟ هل تتعلم جيناته من"الحيل"ما يجعلها قادرة على ضرب الجسم البشري؟ لا احد يعلم متى قد يحدث ذلك، اذا ما حصل اصلاً؟ ولا احد يعلم كيف سيكون"شكل"الفيروس عندما يصل الى تلك المرحلة! وهذا الغموض يحمل الكثير من الاملاءات. فمثلاً، تعتمد جهود صنع لقاح للفيروس"اتش 5 آن 1"الفتّاك على النوع المُنتشر راهناً في العالم. اذا حصلت طفرة في جينات ذلك الفيروس فصار مُعدياً للبشر، الى أي حدّ سيُشبه حينها، الشكل الراهن للفيروس، والذي يستعمل في صنع اللقاح؟ والمعلوم ايضاً ان دواءي"تاميفلو"و"ريلانزا"، المضادين لهذا الفيروس، قد لا يُفلحان تماماً في شفاء حالات الاصابة ان حصلت. وايضاً فقد يصعب توفيرهما للكثير من المصابين، وخصوصاً"تاميفلو"الاكثر فعالية، بالنظر ارتفاع سعريهما. وربما يبقى الامل، كما لاحظ مايكل ليفيت وزير الصحة الاميركي، وپ"منظمة الصحة العالمية"، رهناً بالقضاء على الوباء في بؤرته الآسيوية، وهو ما شدد عليه الطرفان اخيراً اثناء جولة مشتركة للوزير الاميركي ومدير المنظمة العالمية، خصصت لجهود المكافحة في الدول الآسيوية المُصابة. ويمكن وصف اللحظة الراهنة بانها سباق خفي ومميت، بين"حيل"جينات فيروس"اتش 5 آن 1"والجهود الرامية الى خنق الوباء فيروسه في بؤرته الآسيوية.