"انفلونزا الطيور". هل تدخل الموجة الحالية من فيروس "اتش 5 ان1" H5N1 التاريخ باعتبارها اول كارثة فيروسية في القرن 21، مثلما كانت "الانفلونزا الاسبانية" كارثة في مطلع القرن 20؟ خلال الاسبوع الماضي، تتابعت اوجه الشبه بين موجتي الوباء، خصوصاً مع بيان روما لخبراء "فاو" عن انفلات الموجة من السيطرة، وكذلك اعلان فيتنام انتقال الفيروس من الطيور الى المواشي. وتقترح "فاو" مهاجمة بؤر الوباء عبر تطعيم مُكَثَّف للدواجن غير المصابة. هل تتوافر الامكانات الفعلية لمثل هذا الهجوم الوقائي؟ وفي حال تعذر التطعيم، ما يكون مصير وباء "انفلونزا الطيور"؟ على عجل، استدعت الحكومة التايلاندية فصائل من الجيش وبعضاً من السجناء للمشاركة في اعدام سريع لملايين الدجاجات خلال ايام قليلة" في محاولة محمومة لوقف انتشار "انفلونزا الطيور" Avian Influenza. في اندونيسيا، صارت الانفلونزا قضية سياسية عندما ثبت ان رجل اعمال ضغط على الحكومة للتكتم على التقارير الاولية عن انتشار تلك الانفلونزا بين دواجنه. وشرع المزارعون في ذبح أو حرق ملايين الدجاجات تحت الرعب، ما جعل الانفلونزا "مرضاً" اقتصادياً. كل ذلك شكل مشهداً نادراً. ولم يمنع انفلونزا الطيور من الانتقال من دول جنوب شرقي آسيا، لتنتشر في موجتين سارتا باتجاهين مختلفين. ذهبت الاولى صوب الصينوهونغ كونغ ولاوس لتلاقي بؤرة انطلاق المرض في فيتنام. وتوجهت الثانية صوب آسيا الوسطى لتضرب باكستان قبل عيد الاضحى بأيام قليلة. كم عدد سكان تلك الدول؟ تضم الصين وحدها 5،12 بليون بشري! كل هؤلاء صاروا في قبضة وباء فيروسي تنفسي جديد. انبعاث شبح "سارس" لم تكن تلك الدول عينها ارتاحت من الهول الذي اصابها به وباء فيروسي تنفسي آخر هو "سارس" SARS. الفارق ان الاخير كان فيروساً جديداً لم تعرفه البشرية قبل القرن 21. وفي المقابل، يعرف العلماء فيروس انفلونزا الطيور جيداً. وفي سنوات سابقة، وخصوصاً في تسعينات القرن العشرين، دأب الخبراء على رفع صوتهم بالتحذير كلما ظهرت بعض حالات من انفلونزا الطيور، خصوصاً في هونغ كونغ. ما الذي يخيف العلماء من انفلونزا الطيور؟ يمكن تلخيص سيناريو الكابوس بكلمات قليلة: ينتقل الفيروس من الطيور الى المواشي. وفي خطوة ثانية ينتقل الى الانسان. خلال انتشاره في المواشي، يخضع الفيروس الى بعض التغييرات في شكله، ما يزيده قوة. ولأن المواشي اقرب في تركيبها الجيني الى الانسان، تنقل الفيروس إليه بأسرع مما تفعل الدواجن والطيور. وتقول الخبرة العلمية ان الفيروس الذي ينتقل من المواشي وما يشبهها الى البشر يصبح اشد قوة وفتكاً. ويزيد في الرعب، ان البشر لم يتعرضوا سابقاً لهذا النوع من الانفلونزا، وبالتالي فإن مناعتهم تجاهه ضئيلة. حدث هذا في "سارس" وفي جنون البقر، على رغم ان مسببه ليس فيروساً فعلياً. والارجح انه حصل في الايدز ايضاً. لكن كل ما سبق يبقى اقل من المقتلة العالمية التي احدثها فيروس الانفلونزا! نعم. الانفلونزا لا غيرها ولا سواها، هي التي سببت اعلى نسبة في الفتك بالبشر. فقد حصدت عشرات الملايين من الارواح في العالم بين اواخر عامي 1918 و1919 . فاق عدد ضحايا تلك الانفلونزا عشرين مليوناً. ويرجح العلماء ان تلك الموجة، التي يشار اليها باسم "الانفلونزا الاسبانية"، سببت كل ذلك القتل لأن فيروسها قفز من بعض المواشي الى الانسان. انه الرعب بعينه. لو تكررت موجة "الانفلونزا الاسبانية" راهناً فلربما تحصد ارواحاً اكثر، على رغم كل التقدم العلمي. والسبب هو تصاعد حركة انتقال الناس والمواشي والبضائع في العالم. وكذلك ظهور مجموعة كبيرة من "المدن المليونية الضخمة" MegaCities خلال القرن العشرين. وكلا الامرين لم يكن موجوداً في ايام الجائحة الاسبانية. في الحيوان والانسان لا يحتاج المرء الى عناء كبير ليلحظ تكرار اجتياحات الاوبئة التي تسببها فيروسات ذات علاقة بالحيوانات" خصوصاً منذ بداية القرن الحالي. وكذلك يمكن التنبه بسهولة الى سرعة انتقال موجة الوباء من المستوى المحلي الى العالمي. فقد افتتح القرن 21، على تجدد الهلع من جنون البقر الذي انفلت في اوروبا، بعد ان جدد "عافيته" في بريطانيا التي شهدت موجته الشهيرة في تسعينات القرن الماضي. ويمكن القول ان الشكل الانساني من هذا المرض لا يسببه فيروس. وفي المقابل، فإن انتشاره في عالم الحيوان يسببه عنصر شديد الشبه بالفيروس. شهد العام 2001 اجتياح الحمى القلاعية Foot & Mouth Disease للماشية عالمياً انطلاقاً من بريطانيا. وحقق فيروس الايدز صدمة في العام 2002، بتشكيله بؤرة جديدة في آسيا، خصوصاً الهندوالصين وروسيا. كان العام 2003، عاماً للفيروسات بامتياز، إذ عاش العالم في قبضة الرعب من "سارس"، كما اخترقت الفيروسات الحصانة التاريخية للاراضي الاميركية، وسجلت اول حال جنون بقر فيها. انها طفرة سلبية تماماً في العلاقة بين الانسان وعالم الحيوان والفيروسات. وفجأة، صارت الحياة اليومية للبشر مهددة بأشباح لا تراها العين. تتهدد الحياة الجنسية بجحيم الايدز. يسود الفزع اطباق الطعام اليومي. بتنا نخاف لحم البقر ولحوم الدجاج والنباتات والحبوب المعدلة وراثياً، والالبان المتلاعب بها...الخ. ثمة خيط لا بد من التقاطه. انه التدجين الاصطناعي. فمع استعمال المزارع الكثيفة العدد بديلاً من القطعان، صار شعار انتاج الحيوانات هو "الاسمن والارخص والاكثر"، مع الاعتذار للشعار الرياضي الشهير. يدأب الذين يستثمرون اموالهم في تربية الحيوانات اصطناعياً للحصول على اكبر عدد منها، في اقل وقت ممكن، واطعامها ارخص طعام مغذ، شرط ان "ينفخ" في وزنها! ينطبق الوصف نفسه على تربية الدجاج والابقار والبط والخراف، وحتى الاسماك التي شهدت فضيحة السلمون وسمومه، وتلك تحتاج الى مقال خاص. ومجدداً، فإن عقلية الربح التي تستخف بأي شيء الا الارقام المالية، بالغت في قلب المعادلات الطبيعية المستقرة منذ ملايين السنوات في عيش الحيوانات. فأطعمت الابقار علفاً ممزوجاً بطحين العظام، وهو ما لايحصل في الطبيعة اطلاقاً. ورصت مئات الخراف في زريبة واحدة، فاذا اصيب اي منها بالحمى القلاعية، أصيب القطيع كله. وتتكدس مئات، وأحياناً، آلاف الدجاجات لتأكل من علف واحد، يمزج بالزيوت الصناعية احياناً، فتصاب كلها بأي فيروس عابر. واستخدمت الهورمونات في الماشية والطيور والدواجن، على حد سواء. ولا عجب. فمنطق الربح المالي ادى الى فضائح الهورمونات في الانسان، إذ صارت اجساد الرياضيين محطة لفضائح المنشطات الهورمونية. المفارقة، ان الانترنت واكبت كل ذلك، فكأنها تقلد البشر. وفي اول شهر من العام الحالي، اصيبت الانترنت بموجتين عالميتين، "باغل" و"ماي دووم"، من الفيروسات الالكترونية، التي وصلت نسبة اصاباتها الى واحد من كل 12 رسالة الكترونية. لو ان النسبة نفسها حدثت في اي وباء بشري، فإن ذلك سيعني اصابة 500 مليون بشري بالفيروسات دفعة واحدة! وللحديث صلة.