تشكل الانتخابات الرئاسية الفلسطينية في مجرد اجرائها، وفي الطريقة التي جرت فيها، وفي نسبة مشاركة الناخبين فيها، وفي النتائج التي اسفرت عنها، حدثاً بالغ الأهمية في التاريخ الفلسطيني الحديث. اذ هي تحمل جملة دلالات تتصل بالحاضر وبالمستقبل. وأهم العناوين التي ترمز إليها تلك الدلالات تتلخص في ثلاثة: ديموقراطية الفلسطينيين المتمثلة في حسن ممارستهم للتعددية، والمسؤولية العالية التي واجهوا فيها المهمات المطروحة امامهم، سلمياً حين تقتضي الضرورة ومقاومة بالسلاح وبكل وسائل الكفاح حين تقتضي الضرورة ذلك ايضاً، ومقدرتهم، في ظل الاحتلال، على رسم شكل نظامهم المقبل بعد ان يتحرر بلدهم ويشكلوا دولتهم المستقلة على ارض وطنهم. وثمة دلالات اخرى قدّم فيها الفلسطينيون الى اشقائهم العرب دروساً جديدة، اضافة الى دروس قديمة، على رغم هنات وعناصر خلل لم يستطيعوا ان يتحرروا منها ومن مصادر تكونها ومن استمرار توالدها. وقبل الدخول في قراءة اكثر دقة لهذا الحدث الكبير ولدلالاته، نتوقف عند مسألتين اساسيتين واجهتا وتواجهان الشعب الفلسطيني في نضاله من اجل الحرية، في هذه الحقبة العصيبة والدقيقة وشبه الحاسمة من تاريخ القضية الفلسطينية، وهما المسألتان اللتان اختلف الفلسطينيون في التعامل معهما، واختلف اشقاؤهم العرب معهم فيها، وأساؤوا جميعهم الى القضية الفلسطينية باختلافهم حولهما. المسألة الأولى تتعلق بالهدف الذي يناضل الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية من اجل تحقيقه، اسوة بما فعل ويفعل الكثير من شعوب العالم المناضلة من اجل حريتها. وهذا الهدف، الذي ما زال يدور خلاف حول تحديده بين فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية، هو عن اي فلسطين يجري الحديث وعن اي فلسطين يراد استعادتها وإنشاء الدولة المستقلة عليها. وهو خلاف يحتدم احياناً، ويتراجع احياناً اخرى، لكنه يظل كامناً، ويظل يربك الشعب الفلسطيني، ويحمّله اعباء وتضحيات كبيرة، ويقفل احياناً، او يكاد، آفاق الوضوح امامه حول المستقبل. في حين ان القراءة الواقعية لحركة التاريخ في فلسطين، وكذلك في عالمنا العربي وفي العالم، تشير بوضوح الى ان الهدف من النضال الفلسطيني، بعد كل تلك العقود من التضحيات ومن الانتظار الطويل والشاق المملوء بالكوارث على جميع الصعد، هو اقامة دولة فلسطينية على الأرض التي احتلت عام 1967، اي بمساحة اقل من مساحة الأرض التي كان حددها قرار الأممالمتحدة عام 1947 القاضي بتقسيم هذا البلد المعذب الى دولتين عربية ويهودية، ومنع الشعب الفلسطيني يومها، وظل يمنع، من اقامة تلك الدولة لأسباب اكثرنا، ولا نزال نكثر، الحديث عنها وعن شروط تكونها في تلك الحقبة العاصفة من تاريخنا العربي وتاريخ فلسطين، وعلى امتداد الزمن اللاحق كله. وغني عن التأكيد أن الدقة في تحديد الهدف من النضال اساسي وأولي بالمطلق بالنسبة الى اي شعب ولحركته الوطنية، لا سيما عندما يكون الوضع في مثل حال الشعب الفلسطيني الممنوع، بالقهر والإكراه والقتل والدمار، من حقه المشروع في تقرير مصيره. ذلك ان النضال، اي نضال، إنما يحتاج، لكي يحقق غاياته، الى الوضوح وإلى التحديد الدقيق وإلى الواقعية في آن. وهذا الهدف، بالنسبة الى الفلسطينيين بالذات، قد لا يكون نهائياً في المرحلة الراهنة، او المقبلة. ولا يوجد في الحياة شيء نهائي. والمقصود بالنهائي، هنا، هو ما يتصل بإيجاد حل نهائي للنزاع العربي - الإسرائيلي على ارض فلسطين، وعلى هوية سكانها، المتعددي الانتماءات الدينية والقومية والثقافية والتاريخية. ولهذا الحل النهائي شروط تاريخية لا يمكن تحققه إلا بتحققها. ولذلك من غير المنطقي في العمل السياسي عموماً، وفي النضال بأشكاله المختلفة على وجه التحديد، ان توضع الأهداف النهائية كلها كهدف للتحقيق الفوري. فمثل ذلك المنطق يصنف عادة في خانة المغامرات التي تقود الى الدمار. وإذ أتوقف عند هذه المسألة فلأنه آن الأوان، كما أعتقد جازماً، لكي تتفق فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية على هذا الهدف المشار إليه اتفاقاً واضحاً لا التباس فيه. ففي ظل هذا الاتفاق، فقط، يمكن لمكونات الحركة الوطنية الفلسطينية ان تتحاور في ما بينها ديموقراطياً حول التكتيكات الواجب اتباعها، وحول وسائل النضال وأشكالها التي ينبغي استخدامها من اجل الوصول الى هذا الهدف. اما في ظل الاختلاف حول الهدف فإن التضحيات الباهظة التي ستقدم في النضال لن تجدي نفعاً، ولن توصل الشعب الفلسطيني الى حريته التي ناضل منذ ثلاثة ارباع القرن للحصول عليها. والدولة الفلسطينية هي الشكل المحدد الذي تتجسد وتتجلى فيه هذه الحرية. ألا تشير الى ذلك الوقائع الراهنة في فلسطين، وفي مجمل اوضاعنا العربية؟ تلك هي المسألة الأولى. اما المسألة الثانية فهي تتعلق بأشكال النضال. فأشكال النضال هي في حياة الشعوب مثل صيغ التنظيم في حياة الأحزاب، مرهونة بالهدف الأساسي المنشود تحقيقه، اي بالسياسة العامة التي تحددها الحركات الوطنية والاحزاب لنضالاتها. فأشكال النضال إنما تتبع، بالضرورة، للهدف. ووظيفتها المحددة هي خدمة هذا الهدف. كذلك هو شأن التنظيم في الحزب، اي حزب. فوظيفة الصيغ التنظيمية هي ان تخدم برنامج الحزب وسياساته وتخضع لها. وما يؤلم في الحال الفلسطينية هو ان الامور تسير في الاتجاه المناقض لمنطق الاشياء. فالمقاومة، المسلحة تحديداً، صارت هي الشكل المحدد مسبقاً للنضال الذي يخضع الهدف له. اذ صارت المقاومة، في منطق حركتي حماس والجهاد، وكذلك في منطق المقاومة التابعة لحركة فتح، هي الهدف، تماماً مثلما هي الحال في منطق"حزب الله"في لبنان. المنطق هو ذاته، هنا وهناك. وهذا، في نظرنا، واحد من اكبر الاخطاء التي ارتكبت وترتكب في كل من فلسطينولبنان، على رغم اختلاف ظروف كل من الحالين، في البلدين الشقيقين الجارين. والملاحظة التي نسوقها هنا لا ترمي الى التقليل من دور المقاومة، كمبدأ، ولا ترمي الى التقليل من الدور الذي تمارسه هذه القوى المشار اليها في مقاومة الاحتلال. المسألة تتعلق بمنطق كل من هذه القوى - الوطنية من دون شك - في مواجهة مهمات وأهداف لا يحق لأي منها ان تفرضها كأمر واقع على شعبيهما في لبنانوفلسطين، بالنيابة عنهما، وتتجاهل آراء القوى الاخرى - الوطنية من دون شك - ولا تأخذ في الاعتبار الشروط الموضوعية للنضال في هذا الشكل او ذاك. وفي تقديرنا فإن القوى الوطنية، هنا وهناك، على اختلاف مواقعها، على معرفة واسعة بما حصل في التاريخ القديم والحديث لشعوب العالم التي ناضلت من اجل تحررها. وهي على معرفة بشروط العصر الراهن، التي تختلف عن شروط الحقبات السابقة، والتي ستظل تختلف من حقبة الى حقبة اخرى ومن عصر الى عصر، ومن بلد الى بلد في سياق حركة التاريخ التي لا تهدأ ولا تنتهي. الا ان لمنطق حركة التاريخ قوانين عامة، لا يغير من جوهرها اختلاف البلدان واختلاف شروط تكونها وتطورها. وتؤكد الوقائع التاريخية ان للنضال اشكالاً لا حصر لها، وان هذه الاشكال تخلي المكان لبعضها بعضاً، او هي تتعايش، وذلك وفق الشروط الموضوعية، ووفق ما تشير اليه تلك الشروط من جدوى بهذا الشكل او ذاك من النضال، يفترض لها ان تمهد الطريق للاقتراب من النصر. اردنا من التوقف عند هاتين المسألتين الادلاء برأي حول القضايا المترتبة على الانتخابات الرئاسية الفلسطينية، وعلى نتائجها ودلالاتها والاحتمالات المتعلقة بها، فلسطينياً واسرائيلياً وعربياً ودولياً. ولن نضيف جديداً الى ما ورد في التعليقات حول اهمية تلك الانتخابات في ما تشير اليه من وعي عميق عند الشعب الفلسطيني ومن مسؤولية ندر مثيلها في ممارسة الديموقراطية، حتى في ظل احتلال هو ابشع انواع الاحتلالات في التاريخين القديم والحديث. لكن نشير الى ظاهرتين برزتا بوضوح في نتائج التصويت، اولاهما تمثل في ان عصبوية حركة فتح مارست دورها بوضوح، على رغم ما برز من اختلافات بين مكوناتها خلال الاعوام الاخيرة، لا سيما بعد غياب زعيمها وزعيم الشعب الفلسطيني ياسر عرفات. وتمثل ذلك بنسبة الاصوات التي نالها محمود عباس، الذي لا يتمتع بكاريزما من ذلك النوع الذي تميز به عرفات. والظاهرة الثانية تمثلت بالأصوات التي نالها مصطفى البرغوتي، القيادي الشيوعي السابق والناشط الاجتماعي المعروف وسكرتير لجنة المبادرة الوطنية التي يترأسها حيدر عبدالشافي الشخصية التاريخية المرموقة. وهي نسبة عالية، اذا قيست بتوزيع النسب السابقة بين اصوات الناخبين على اساس المواقف السياسية وأصحابها ومرجعياتهم. ويعود السبب في ارتفاع هذه النسبة الى ان رأياً عاماً ديموقراطياً من نوع جديد بدأ يتكون في صفوف الشعب الفلسطيني، يفتش عن المكان الذي يعبّر فيه عن نفسه. واذا كان للبرغوثي دور ما، وهو - في ما اعتقد - اقل اهمية من الاصوات التي نالها، فإن وقوفه في هذا المكان بالذات الذي يفتش عنه الشعب الفلسطيني هو الذي اعطاه هذه النسبة الكبيرة من الاصوات. ولو ان حيدر عبدالشافي كان المرشح بدلاً من مصطفى البرغوثي، ولو ان حزب الشعب والجبهة الشعبية والجبهة الديموقراطية ويسار حركة فتح وسائر قوى اليسار والديموقراطية وقفت الى جانبه، لكان التنافس بين مرشح فتح محمود عباس ومرشح هذه القوى حيدر عبدالشافي تنافساً حقيقياً. غير ان هذا التحليل الآتي من مكان بعيد لا يرمي، قط، الى تجاهل دور حركتي"حماس"و"الجهاد"الاسلاميتي الطابع، الحاملتين راية المقاومة المسلحة، بالنيابة عن الشعب كله، ومن دون استشارته ديموقراطياً. فتجاهل هذه القوى هو تعسف على الواقع. وليت ان هاتين الحركتين بادرتا الى ترشيح ممثل عنهما ليعرف حجم التأييد الذي تحظيان به في وسط الشعب الفلسطيني. فالانتخابات الرئاسية هي دائماً، وفي هذه المرحلة من حياة الشعب الفلسطيني ضغوطات سياسية في الدرجة الاولى، بخلاف الانتخابات البلدية، التي تلعب فيها امور عدة غير سياسية دوراً اكبر من السياسة. وفي اعتقادنا فإن عدم مشاركة حماس والجهاد في الانتخابات، وعدم دعوتهما الشعب لمقاطعتها، هو وقوف في منتصف الطريق بين الماضي والمستقبل، بين موقف سابق معروف، وموقف قادم لا يزال قيد البحث. نقول ذلك لأن المرحلة المقبلة من تاريخ النضال الفلسطيني من أجل الحرية هي مرحلة بحث حقيقي، محفوف بالمخاطر وبالعقبات وبالصعوبات التي لا جدال في أن أكثرها تعقيداً هو ما يتمثل في الموقف الاسرائيلي العنصري الأحمق المدعوم أميركياً حتى اشعار آخر. وجوهر الجديد في هذه المرحلة هو ان الانتخابات قدمت الشعب الفلسطيني الى العالم في صورة شعب بالغ الرقي، جامح في طموحه الى الحرية، مسالم حتى النخاع، لكنه مصمم على الوصول الى حقوقه حتى بأغلى الأثمان وأبهظها. وهذه المرحلة ذاتها انما تقتضي من القيادة الفلسطينية الجديدة سياسة واقعية مرفقة بالحزم، خالية من أي محاولة للهرولة وراء أوهام الحلول. لكنها، أي هذه المرحلة، تتطلب من أطراف الحركة الوطنية جميعها، لا سيما من حركتي"حماس"و"الجهاد"وسائر مكونات حركة المقاومة المسلحة، اتباع الواقعية في السياسية، وعدم المغامرة في وضع العربة أمام الحصان، تمسكاً بالمقاومة كهدف، بدلاً من جعلها هي ذاتها في خدمة الهدف الحقيقي المتمثل بالحرية والاستقلال والسيادة التي تجسدها الدولة الفلسطينية في حدود الرابع من حزيران يونيو من عام 1967، وعاصمتها القدسالشرقية. لن تكون الطريق معبدة أمام الرئيس الجديد للسلطة الوطنية أبو مازن. لكنها ستكون مفتوحة على احتمالات شتى. وفي غياب دور عربي حقيقي تصبح المهمة الأساسية ملقاة بالكامل على عاتق الشعب الفلسطيني، سلطة وطنية ديموقراطية، متحررة من كل أشكال الاستئثار والفساد وما شابههما، ومقاومة وطنية، سياسية في الأساس، ومسلحة عند الضرورة، تكمل وتعزز دور هذه السلطة في مهمتها الصعبة في التفاوض، من دون تنازلات مسبقة، وفي استخدام كل ما في حوزتها من حقوق، ومن تحالفات، ومن مظهر للوعي وللمسؤولية وللرقي عبَّرت عنه الانتخابات الرئاسية الأخيرة. ويقتضي هذا الجهد، في ظل الظروف الجديدة، أن تتحمل القوى المقاومة مسؤوليتها، كجزء من المعادلة، لا أن تمارس أياً مما تعتبره حقها في مقاومة الاحتلال، أعمالاً تؤدي الى مزيد من التضحيات البشرية والمادية، وتعقّد مهمة التفاوض من أجل الحل العادل المنشود قبل الشروع فيه من أجل اقراره، وخلاله عندما يتحقق بضمانات دولية فإن عدم مراعاة المسؤولية في مثل هذه الحالة ستقود الى ابعاد احتمالات الوصول الى ذلك الحل العادل المنشود. كما ستؤدي الى ارباك القوى العالمية التي تقف الى جانب الشعب الفلسطيني في كفاحه الوطني التحرري المشروع لإقامة دولته المستقلة على أرض وطنه فلسطين. كاتب لبناني.