حسين الشيخ نائبا للرئيس الفلسطيني    قلصت الكويت وقت الإقامة والصلاة في المساجد ؟ توفيرا للكهرباء    أعربت عن تعازيها لإيران جراء انفجار الميناء.. السعودية ترحب بالإجراءات الإصلاحية الفلسطينية    رؤية السعودية 2030 في عامها التاسع.. إنجازات تفوق المستهدفات ومؤشرات توثق الريادة    أمير القصيم: خارطة طريق طموحة لرسم المستقبل    381 ألف وظيفة في قطاع التقنية.. 495 مليار دولار حجم الاقتصاد الرقمي السعودي    أمير جازان: آفاق واسعة من التقدم والازدهار    أمة من الروبوتات    الأردن.. مصير نواب "العمل الإسلامي" معلق بالقضاء بعد حظر الإخوان    تفاهمات أمريكية سورية ومساعٍ كردية لتعزيز الشراكة الوطنية    ينتظر الفائز من السد وكاواساكي.. النصر يقسو على يوكوهاما ويتأهل لنصف النهائي    القيادة تهنئ رئيسة تنزانيا بذكرى يوم الاتحاد    أمير الشرقية: إنجازات نوعية لمستقبل تنموي واعد    الآبار اليدوية القديمة في الحدود الشمالية.. شواهد على عبقرية الإنسان وصموده في مواجهة الطبيعة    ضبط أكثر من 19.3 ألف مخالف لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود    "المنافذ الجمركية" تسجل 1314 حالة ضبط خلال أسبوع    المملكة تفتح أبواب جناحها في معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2025    برعاية سمو وزير الثقافة.. هيئة الموسيقى تنظم حفل روائع الأوركسترا السعودية في سيدني    خادم الحرمين: نعتز بما قدمه أبناء الوطن وما تحقق جعل المملكة نموذجاً عالمياً    خطى ثابتة نحو مستقبل مُشرق    برشلونة يكسب "كلاسيكو الأرض" ويتوج بكأس ملك إسبانيا    مدرب كاواساكي: قادرون على التأهل    قدامى الشباب ينتقدون نتائج توثيق البطولات    تقرير يُبرهن على عمق التحوّل    المملكة تقفز عالمياً من المرتبة 41 إلى 16 في المسؤولية الاجتماعية    الجبير يترأس وفد المملكة في مراسم تشييع بابا الفاتيكان    إطلاق مبادرة "حماية ومعالجة الشواطئ" في جدة    ترامب يحض على عبور "مجاني" للسفن الأميركية في قناتي باناما والسويس    دفع عجلة الإنجاز وتوسيع الجهود التحولية    اللواء عطية: المواطنة الواعية ركيزة الأمن الوطني    1500 متخصص من 30 دولة يبحثون تطورات طب طوارئ الأطفال    الأميرة عادلة بنت عبدالله: جائزة الشيخ محمد بن صالح بن سلطان عززت المنافسة بين المعاهد والبرامج    فخر واعتزاز بالوطن والقيادة    تدشين الحملة الوطنيه للمشي في محافظة محايل والمراكز التابعه    رئيس مركز الغايل المكلف يدشن "امش30"    الحكومة اليمنية تحذر موظفي ميناء رأس عيسى من الانخراط في عمليات تفريغ وقود غير قانونية بضغط من الحوثيين    اكتشاف لأقدم نملة في التاريخ    قدراتنا البشرية في رؤية 2030    الذهب ينخفض 2 % مع انحسار التوترات التجارية.. والأسهم تنتعش    101.5 مليار ريال حجم سوق التقنية    تصاعد التوترات التجارية يهدد النمو والاستقرار المالي    800 إصابة بالحصبة بأمريكا    فواتير الدفع مضرة صحيا    الذكور الأكثر إقبالا على بالونة المعدة    الأهلي يكسب بوريرام بثلاثية ويواجه الهلال في نصف نهائي النخبة الآسيوية    السعودية تعزي إيران في ضحايا انفجار ميناء بمدينة بندر عباس    القيادة تهنئ تنزانيا بذكرى يوم الاتحاد    حين يعجز البصر ولا تعجز البصيرة!    32 مليون مكالمة ل 911    مكافحة المخدرات معركة وطنية شاملة    التحول الرقمي في القضاء السعودي عدالة تواكب المستقبل    قوانين الفيزياء حين تنطق بالحكمة    أمطار رعدية ورياح نشطة على عدة مناطق في المملكة    وزارة التعليم تستعرض منصاتها في معرض تونس الدولي للكتاب 2025    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف يلتقي مديري عموم الفروع    إمام الحرم النبوي: حفظ الحقوق واجب شرعي والإفلاس الحقيقي هو التعدي على الخلق وظلمهم    إمام المسجد الحرام: الإيمان والعبادة أساسا عمارة الأرض والتقدم الحقيقي للأمم    الشيخ صلاح البدير يؤم المصلين في جامع السلطان محمد تكروفان الأعظم بالمالديف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماذا يبقى من فلسطين ... ماذا يبقى من القضية الفلسطينية ؟
نشر في الحياة يوم 01 - 11 - 2004

ماذا يبقى من فلسطين... ماذا يبقى من القضية الفلسطينية؟ هذا الكلام ليس سؤالاً حاسماً ينتظر جواباً حاسماً من نوعه. ولا هو، بالتأكيد، تقرير يستبق الإعلان عن نهاية قادمة لحلم قديم. إنه، ببساطة، يختصر حالة من القلق الحقيقي عند المواطن العربي، ويلخص المشاعر الإنسانية المملوءة بالمرارات عنده. وكل من هذين، القلق والمشاعر، إنما يقربان صاحبهما من اليأس، من دون أن يدخلاه فيه، بالضرورة. بل ان هذا المواطن المقهور الحائر القلق يظل يتمرد على اليأس ليبقى على مسافة، ولو بعيدة، من أمل مشوب بالحذر، أمل حصنه في الوعي تراكم التجارب ضد الوهم القديم، الذي كنا نشارك حكوماتنا بواسطته في تغطية هزائمنا المتكررة بالحديث عن انتصارات كلامية، كنا نزيّنها، بعفوية ومن دون وعي، بالشعارات الرنانة وبالهتافات بحياة أبطالنا العظام الخالدين!
هذا الكلام هو جزء من الحقيقة المرة، وليس كلها. أما بقية الحقيقة فموزَّع في أماكن ومواقع شتى. وهذا الجزء من الحقيقة الذي يشير إليه الكلام الآنف الذكر، إنما يوحي به إلى المواطن العربي مشهد المأساة، الصارخ في قطاع غزة، والهادئ، أحياناً، والصاخب بحدود، أحياناً أخرى، في الضفة الغربية. وما الهدف من سوق هذا الكلام، كجزء من الحقيقة، إلاَّ للاعتراف، من دون مكابرة، بأن ما كنا نحلم بتحقيقه، قبل أربع سنوات - وهو كان حلماً بقيام دولة فلسطينية، أو شبه دولة على جزء من أرض فلسطين العربية - قد تأجَّل إلى زمن لاحق. إذ لم يعد ممكناً تحقيقه اليوم. ألا تشير إلى ذلك حرب الإبادة الجماعية والتدمير الشامل اللذان تمارسهما إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وضد أراضيه وممتلكاته؟ ألا يشير إلى ذلك الجدار العازل الذي لم تأبه إسرائيل بقرار محكمة العدل الدولية المدين له؟ ألا يشير إلى ذلك التراجع المثير للقلق في موقع القضية الفلسطينية على الصعيدين العربي والدولي؟ والاعتراف بالحقيقة المرة، أو بجزء منها، هو اليوم، واقعياً، المدخل الصحيح للبحث عن أسباب ما حصل، وعن نتائجه، وعن الآفاق المتبقية المحتملة والمتخيلة من القضية الفلسطينية.
يعيدنا هذا المدخل تلقائياً إلى خمسين عاماً ونيف مضت، يوم فرض علينا القبول بتقسيم فلسطين ورفضنا، ودخلت ستة جيوش عربية في حرب لمنع ذلك التقسيم، وهيأت بهزيمتها غير المبررة كل الشروط لقيام دولة إسرائيل، وعطَّلت وحطمت، هي وأنظمتها، بالهزيمة ذاتها وبالمكابرة القومية الجوفاء، وبقدر غير قليل من التآمر والتواطؤ والعجز، الشروط كلها لقيام دولة فلسطينية، بموجب قرار التقسيم الذي رفضناه وعجزنا عن منع تطبيقه، على رغم أنه كان قد أصبح، عملياً، جزءاً من الشرعية الدولية التي كنا في حاجة إليها ولا نزال. ولو أن أنظمة ذلك الزمان وحكوماتها بادرت، بعد الهزيمة التي تتحمل هي المسؤولية عن وقوعها بالكامل، إلى القبول بقرار التقسيم وساعدت الشعب الفلسطيني في إقامة دولته على الأرض المتبقية، لكانت حققت جزءاً من الحلم التاريخي للشعب الفلسطيني، الحلم الذي ما ينفك يتراجع، منذ ذلك التاريخ، ويتأجَّل، ويتعثر مع مرور الزمن ومرور أحداثه وتحولاته ومصادفاته ووقائعه. لكن ذلك لم يحصل. وحلَّ محلّه تحوُّل القضية الفلسطينية إلى قضية قومية لكل الشعوب العربية. وضعف دور الشعب الفلسطيني في حمل قضيته بيده، في ظل ذلك التطور، الذي تمثل بتصاعد وتعاظم الموقف القومي في القضية الفلسطينية، من جهة، وبفداحة المأساة التي وضع فيها الشعب الفلسطيني في الداخل الفلسطيني، وفي بلدان الشتات العربي، من جهة ثانية. إذ صار صاحب القضية ملحقاً في قضيته بأصحابها الكبار الجدد، قادة الدول العربية وأنظمتهم وحكوماتهم ومصالحهم، كما صار ملحقاً بالحركة القومية العربية بمكوناتها السياسية والحزبية المختلفة. ودخل - الشعب الفلسطيني - طوعاً أو كرهاً، أسوة بأشقائه الشعوب العربية، في دوامة الوهم، الثوري وغير الثوري، لتحقيق التحرير، تحرير فلسطين، ولإجراء التغيير، تغيير الأوضاع القائمة في بلداننا في اتجاه الوحدة والحرية والاشتراكية. وصارت القضية الفلسطينية جزءاً من سياسات الأنظمة وسلطاتها ومصالحها. وتحولت إلى حالة انتظار لا تنتهي عند الشعوب العربية وعند حركاتها الوطنية، وإلى معارك خاسرة وإلى حائط مبكى. وتعطلت، بفعل هذه التحولات كلها، في بلداننا العربية جميعها، قضايا التقدم الاقتصادي والاجتماعي. وقمعت الحرية الفردية والعامة، وديست حقوق الإنسان، وغيِّب بالكامل بناء الدولة الحديثة. وبقي الشعب الفلسطيني، داخل أرضه، التي حوّلتها الحروب الخاسرة إلى مناطق احتلال، عرضة للقهر القومي. وبقيت أقسام كبيرة منه في الشتات العربي عرضة للقهر والإذلال كذلك. وتعمقت، بفعل ذلك كله، العاهات والأمراض في بلداننا، وفي مجتمعاتنا، وفي وعينا. ولم تسلم من ذلك فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية، وفصائل الحركة الوطنية العربية. واستمر الشعب الفلسطيني، في كل تلك الظروف، يكافح بشجاعة، بحسب قدراته، ويقدم التضحيات الجسام من دون حساب.
حصل كل ذلك، ولا يزال يحصل، والتاريخ، تاريخ فلسطين وتاريخ شعبها، لا ينتهي ولا يتوقف عن الحركة. وكان ذلك، ولا يزال، أمراً طبيعياً. لكن المسألة هنا لم تعد مسألة تخص الفلسطينيين وأشقاءهم العرب وحدهم. ولم تعد تتعلق بإقرار من جانب المجتمع الدولي بأن حركة التاريخ مستمرة، متواصلة، ولا نهاية لها. المسألة تتعلق أساساً، بالجملة وبالتفاصيل، في جعل قضية تقرير المصير - كحق طبيعي لجميع الشعوب - تطاول الشعب الفلسطيني ولا تتجاوزه في صورة استثنائية ظالمة، غير مسبوقة، في تاريخ العالم الحديث. ولن ندخل في جدال هنا حول القضية الكردية التي لها خصوصيات وتعقيدات من نوع آخر. ويتمثل هذا الحق في السماح للشعب الفلسطيني بإقامة دولة له على أرضه، أسوة بكل شعوب العالم، وتنفيذاً لواحد من أقدم قرارات الشرعية الدولية الرقم 181. وهي مسألة، في القانون الدولي، في مستوى البديهيات. فلماذا يحرم هذا الشعب، إذاً، من هذا الحق البديهي؟ ولماذا لا تنفذ قرارات الشرعية الدولية التي تعبر عن هذا الحق وتجسده بوضوح لا التباس فيه؟ ولماذا يعجز المجتمع الدولي عن منع إسرائيل من الاستمرار في سياسة الإبادة لهذا الشعب، والاستيلاء على أجزاء كبيرة من أراضيه، والتدمير المنظم لممتلكاته ولسائر مقومات حياته؟
ثمة مسؤوليات عما جرى، وعما يجرى، وعن الواقع المأسوي الذي يعيش فيه الشعب الفلسطيني وتعيش فيه قضيته. وقد حان الوقت، حان منذ زمن طويل، لكي تحدد هذه المسؤوليات بوضوح، ويحدد المسؤولون عنها بأسمائهم، من دون تمويه. ولا حاجة بنا إلى الوقوف طويلاً عند التاريخ القديم، تاريخ نصف قرن ونيف. فهو تاريخ سابق، غطى عليه التاريخ الحديث وفاض. فلنتحدث، إذاً، عن هذا التاريخ الحديث. وهو تاريخ الحقبة التي حمل فيها الشعب الفلسطيني قضيته بيده، أو هكذا تصور هو ذلك، وصدقناه، وقبل به بعضنا، ورفضه بعض آخر، وبقي فريق ثالث منا إزاءه على الحياد، وما يزال.
ولأنني أنتمي إلى الجيل القديم، جيل الحقبة الأولى، ولأنني مرافق للقضية الفلسطينية ومهموم بها، منذ البدايات ولا أزال، فإن بمقدوري أن أساهم، اليوم، ربما من دون تعسف كما أزعم، في تحديد هذه المسؤوليات والمسؤولين، من دون أن أستثني الجهة السياسية التي أنتمي إليها - وهي الأقل مسؤولية من سواها بكثير - ومن دون أن استثني نفسي، كأحد المسؤولين عن القرارات التي صدرت والمواقف التي اتخذت في حزبي، الحزب الشيوعي اللبناني، في الصواب والخطأ، ثم كمواطن فرد.
المسؤولية الأولى تقع، في نظري، على الحركة الوطنية الفلسطينية، قديماً، وعليها في الحقبة التي تمتد من عام 1967، العام الذي تشكلت فيه المقاومة الفلسطينية في أشكالها السياسية والعسكرية والثقافية وحتى الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن المقاومة النفسية، أي المقاومة التي جعلت الفلسطيني يشعر بأنه صاحب القضية، والمسؤول المباشر عن الالتزام بها والنضال من أجل انتصارها. وتتحدد مسؤولية الحركة الوطنية الفلسطينية في الأمور الآتية: أولاً، في أنها لم تستطع أن توضح الأهداف التي تناضل من أجلها، لا سيما ما يتعلق منها تحديداً بالدولة الفلسطينية. واختلفت فصائل هذه الحركة حول هذا الهدف. ففي حين ارتفعت شعارات تدعو إلى استعادة الأرض الفلسطينية كاملة، وإزالة إسرائيل من الوجود، طرحت أفكار تدعو إلى إقامة دولة فلسطينية ديموقراطية للعرب واليهود على كامل أرض فلسطين. تلتها، في ما بعد، أفكار تحولت إلى برنامج مقر من جانب منظمة التحرير الفلسطينية يتبنى النضال من أجل إقامة الدولة الفلسطينية على الأرض التي احتلتها إسرائيل في عام 1967. وتعايشت، ولا تزال، هذه الأفكار والمشاريع المرتبطة بها، في ظل التغيرات الكبرى التي طرأت على الوضع العالمي، وعلى الوضع في منطقتنا، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ثانياً، في أن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تستطع أن تعبئ الشعب الفلسطيني، على قاعدة هذا البرنامج، من أجل تحقيق الأهداف القابلة للتحقيق منه، وبالتدريج، وبالوسائل الكفاحية المؤدية إلى تحقيقها، هدفاً إثر هدف، ومرحلة إثر مرحلة، لكي يشعر الشعب بأن كفاحه الصعب المليء بالتضحيات ليس كفاحاً من دون نهاية، بل هو كفاح قادر على إيصاله إلى آفاق ملموسة محددة. ولم تستطع منظمة التحرير الفلسطينية في الشتات، ولا السلطة الوطنية التي قامت داخل أرض فلسطين، بعد مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو، أن توحدا الموقف الفلسطيني، في السياسة، وفي أدوات النضال، وفي التحالفات، وفي كل ما يتصل بالقضايا اليومية والمستقبلية للشعب الفلسطيني. ثالثاً، في أن الأوهام التي نشأت، منذ البدايات، حول دور السلاح في النضال، سرعان ما تحولت، في السنوات الأربع الماضية، إلى كارثة حقيقية، بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني وإلى تحالفاته العالمية. وكانت العمليات الانتحارية العشوائية أحد أكثر تلك السياسات ضرراً بالقضية الفلسطينية، على رغم كل ما كانت تشير إليه من قدرة هائلة عند هذا الشعب، وعند شبابه بالذات، لبذل التضحيات من دون حساب. رابعاً، في أن الحركة الوطنية الفلسطينية، مجتمعة، ومن خلال تنظيماتها المختلفة، لم تستطع أن تحدد، بوضوح، وبواقعية، أين ومتى وكيف يكون قرارها مستقلاً عن الأشقاء العرب، أنظمة وحركات وطنية، وأين ومتى وكيف يكون هذا القرار جزءاً مكملاً من قرار عربي عام. ثم إنها لم تستطع، بالجمع وبالمفرد، أن تقيم علاقة صحيحة مع الحركات الوطنية في البلدان العربية، لا سيما في الأردن ولبنان. إذ هي حلَّت جزئياً، في مرحلة أولى، ثم كلياً، في مراحل لاحقة، محل تلك الحركات، وعطلت دورها، وألحقتها بها، وقبلت تلك الحركات بذلك، ودفعت القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني وحركته الوطنية الثمن الباهظ لتلك السياسات. كما دفعت الحركات الوطنية في تلك البلدان الثمن الباهظ ذاته لتلك السياسات. خامساً، في أنها لم تستطع أن تقيم علاقات صحيحة مع المجتمع الإسرائيلي، لكي تستند إلى القوى الديموقراطية فيه في مقاومتها لسياسات القمع من جانب السلطات الإسرائيلية. كما لم تستطع أن تصوغ سياسة مرنة تجاه المجتمع الدولي، لكي تكسب عطفاً غير مشروط، بدلاً من العطف المشروط، والذي لا يزال مشروطاً.
المسؤولية الثانية، تتحملها البلدان العربية، أنظمة حكم وشعوباً وحركات وطنية، بمكوناتها المختلفة، وبمشاريعها المختلفة، يميناً ويساراً. وإذا كانت الأنظمة قد جعلت من القضية الفلسطينية غطاء خادعاً لاستمرار هيمنتها والاستبداد بشعوبها وإغراق بلدانها في التخلف، فإن الحركات الوطنية في هذه البلدان لم تكن في مستوى المسؤولية التي تمكنها من الربط الصحيح بين قضايا بلدانها وبين القضية الفلسطينية. فوقعت هي، وأوقعت الحركة الوطنية الفلسطينية، في متاهات النضال من دون آفاق حقيقية تحقق الهدف الأساس، سواء في إيصال الشعب الفلسطيني إلى إقامة دولته الوطنية المستقلة، أم في إيصال بلدانها إلى الحرية والتقدم، أي إلى بناء دول ديموقراطية تحترم فيها حقوق الإنسان وحرياته، وتتم فيها عملية تقدم تلحق شعوبنا بركب الحضارة العالمية، وتمكنها من الإسهام في جعل هذه الحضارة حضارة إنسانية، بدلاً من أن تكون هذه الحضارة مرتعاً للرأسمال المعولم ولأهدافه وغاياته المتوحشة. وإذا كان الفكر القومي الغيبي هو الذي ساهم، وساهم أصحابه ومفكروه، عن وعي أو عن غير وعي، في تعطيل مسار حركة التاريخ في الاتجاه الصحيح، فإن الفكر الاشتراكي، بتنويعاته المختلفة، بما في ذلك ما يتصل منه بالحركة الشيوعية أحزاباً ومفكرين، لم ينتج، على رغم مرجعيته الأكثر علمية، الماركسية، برنامجاً أكثر وضوحاً وأكثر عقلانية من الفكر القومي، ولم يقدم طرائق نضال أفضل وأكثر جدوى. بل إن معظم الأحزاب القومية والشيوعية اندمجت، في لحظات تاريخية معينة، في الحركة الفلسطينية، والتحقت بها، بدل أن تقدم لها المساعدة في تسديد فكرها وفي جعل برنامجها السياسي والنضالي والعملي أكثر عقلانية وأكثر واقعية، اي أكثر ارتباطاً بالوقائع المحلية والعربية والدولية.
المسؤولية الثالثة، يتحملها المجتمع الدولي. ذلك أن للقضية الفلسطينية خصوصية تجعلها، على رغم شرعيتها كقضية قومية لشعب حقيقي، أكثر تعقيداً من القضايا المعاصرة، مثل قضيتي فيتنام وجنوب أفريقيا. ومصدر التعقيد في القضية الفلسطينية هو أن قيام الدولة الفلسطينية يتطلب إقراراً من دولة إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في الوجود، وحقه في إقامة دولته على جزء من أرض فلسطين، الأرض المشتركة، منذ التاريخ القديم، بين الشعبين العربي واليهودي.
وبمعزل عن الأخطاء التي ارتكبت خلال النضال الفلسطيني الطويل، وآخرها العمليات الانتحارية ضد المدنيين في إسرائيل، فإن المجتمع الدولي ظل يتسامح مع جرائم إسرائيل أكثر من تعاطفه مع حقوق الشعب الفلسطيني، وإلاَّ لكان الوضع اختلف في شكل التضامن مع الشعب الفلسطيني، ولكان هذا الشعب اقترب من تحقيق أهدافه، ولكانت حكومة إسرائيل شعرت بالحاجة إلى تغيير سياساتها، ولكانت الولايات المتحدة الأميركية مارست ضغطاً أكبر ضد الحكومة الإسرائيلية بوقف عمليات الإبادة المنظمة ضد الشعب الفلسطيني.
أقدم تحديدي لهذه المسؤوليات باختصار - ومنها مسؤوليتي الشخصية عندما كنت في موقع قيادة حزبي الشيوعي اللبناني - من أجل الوصول إلى الاستنتاج الذي أريد أن أخرج به حول الوضع الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية اليوم. فالسؤال الذي بدأت به مقالي هذا يرمي إلى فتح باب الاجتهاد والتفكير حول ما ينبغي عمله لمواجهة مفاعيل الوضع المأسوي الراهن. ذلك أن خطة شارون للانسحاب من قطاع غزة - بعد إفراغ هذا القطاع من قوى المقاومة بالقمع والقتل والاغتيال والتدمير، وإضعاف السلطة الوطنية - لن يشكِّل حلاً للقضية الفلسطينية، ولن يضع حداً للصراع القائم في فلسطين وحول قضيتها، والصراع العام في المنطقة برمتها، بين العرب وحلفائهم الملتبسين وبين إسرائيل وكثرة حلفائها. بل إن هذا الانسحاب، إذا ما تمَّ - وقد لا يتمكن شارون من إتمامه بسبب مقاومة المستوطنين - سيخلق، ولو بعد حين - هذا إذا توقفت المقاومة فعلاً - شروطاً جديدة لقيام حركة من نوع جديد، لن تجعل عنصريي إسرائيل يرتاحون، ولن تتيح للأنظمة العربية فرصة المساومة مع سادة العالم الجدد، في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير، أو خارجه. بل هي ستجعل الفوضى سائدة في المنطقة، الأمر الذي سيقدم للقوى السلفية المتطرفة كل الشروط لتوسيع حركتها العبثية التدميرية.
لا بد، في ضوء كل هذه الوقائع، من مراجعة عميقة وشاملة من جانب الحركة الوطنية الفلسطينية بكامل فصائلها، ومن دون استثناء، مراجعة لكل سياساتها في الحقبة الماضية كلها، لا سيما في السنوات الأربع المنصرمة. ووظيفة هذه المراجعة النقدية، وظيفتها الأساسية، هي خلق الشروط لوضع خطة عمل جديدة، مختلفة بالكامل عن السابق، محددة الأهداف بوضوح. وأهم ما أعتبره أساسياً بين هذه الأهداف هو الاتفاق الصريح والواضح بين مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية على التمسك بإقامة الدولة الفلسطينية على الأرض التي احتلتها إسرائيل في عام 1967، كمهمة استراتيجية، والوصول إلى هذا الهدف بالتدريج، مرحلة بعد مرحلة، واختيار أشكال النضال بواقعية، بهدف توسيع قاعدة الحلفاء، بدءاً بالداخل الإسرائيلي وصولاً إلى آخر نقطة في الكرة الأرضية. ففي اعتقادي أن العمل لعزل عنصريي إسرائيل، في السلطة وخارجها، هو مهمة بالغة الأهمية والجدوى، ولها أولوية قصوى. أضيف إلى ما سبق أن المراهنة على الأنظمة العربية قد صارت من الماضي. فكل نظام من أنظمتنا الاستبدادية القائمة مهموم بترتيب أوضاعه، بما في ذلك، إذا اقتضى الأمر، بالتخلي، سراً أو علانية، عن دعم الشعب الفلسطيني، من أجل الحفاظ على سلطته، والمساومة على كل شيء في سبيل هذا الهدف. ولا يستثنى من هذه الأنظمة أي نظام، بما في ذلك النظام اللبناني الذي يبالغ أركانه وحلفاؤهم في الحديث عن خطر التوطين إلى حد المساهمة في بيع اللاجئين الفلسطينيين إلى الشيطان عند الضرورة! أما الحركات الوطنية الديموقراطية في البلدان العربية فهي أحوج من الحركة الوطنية الفلسطينية للقيام بتلك المراجعة العميقة والشاملة لسياساتها وأفكارها ومشاريعها ووسائط وأدوات نضالها، ليس في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وحسب، وإنما في ما يتعلق ببلدانها الذاهبة إلى الكارثة بسرعة فائقة.
وفي يقيني فإن مثل تلك المراجعة العميقة والشاملة من قبل الجميع، لا سيما من جانب الحركة الوطنية الفلسطينية، المراجعة التي أدعو إليها، والخلاصات التي ينبغي أن يخرج منها الفلسطينيون، خصوصاً، حول النضال لتحقيق الدولة الفلسطينية في الظروف الدقيقة والصعبة الراهنة، إنَّ ذلك يشكل أساساً جديداً، أكثر ارتقاءً وأكثر جدوى وفاعلية، لتضامن الأشقاء العرب مع الشعب الفلسطيني، وإعادة إحياء القضية الفلسطينية في شكل أكثر وضوحاً، أي أكثر تحرراً من أوهام الأفكار السلفية والغيبية السابقة. وعندئذٍ لا يعود السؤال عن فلسطين، وعن القضية الفلسطينية، أقرب إلى اليأس. بل سيصبح أكثر ارتباطاً بالمستقبل، وأكثر تفاؤلاً بحل عادل، ولو بالتدريج، وعلى مراحل، وفي زمن أقل، وفي تضحيات أقل جسامة وأكثر جدوى، للوصول إلى الدولة الفلسطينية.
* مفكر لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.