السعودية تدين توسيع عمليات الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية    ضبط مواطن لترويجه 25 ألف قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    180 مليار دولار حجم التجارة بين الخليج وأمريكا بعام    الاتحاد الأوروبي يدين سياسة الاستيطان الإسرائيلية    رياض محرز يتعرض لحادث مروري    "السياحة" تتيح التأشيرة الإلكترونية لحاملي تذاكر كأس الرياضات الإلكترونية    شواطئ حقل.. وجهة عُشّاق السياحة البحرية    رياح مثيرة للأتربة بمكة والمدينة    طلبة المملكة يحققون 5 جوائز عالمية في أولمبياد البلقان للرياضيات للناشئين    "الحُداء".. لغة التواصُل بين الإبل وأهلها    فريق مبادرون التطوعي ينفذ مبادرة "على خطى النبي صلى الله عليه وسلم نفوز بسنة المشي"    "الثوم" يخفض نسبة الكوليسترول بالدم    "كبدك" تشارك في معرض توعوي للوقاية من أمراض الكبد    هل يهيمن اليمين المتطرف على البرلمان الفرنسي ؟    في السعودية.. 454 مليار ريال إجمالي الصادرات غير النفطية عام 2023    أمين الطائف يطلق مبادرة الطائف أمانة    معرض سيئول الدولي للكتاب.. فنون أدائية تثري ليلة العشاء السعودي    "الأحساء" نائباً لرئيس شبكة المدن المبدعة بمجال الحرف والفنون    رئيس بلدية محافظة المذنب يكرم عضو لجنة الاهالي بالمحافظة صالح الزعير    مدرب كاريو يُدافع عن دوري روشن السعودي    «الداخلية»: ضبط 13,445 مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود في أسبوع    السيسي: تنسيق دائم بين مصر وأوروبا للتصدي للتحديات الإقليمية والدولية    المالديف: اعتقال وزيرة عملت «سحرا أسود» لرئيس البلاد !    انخفاض سعر الروبل مقابل العملات الرئيسية    «النيابة»: حماية «المُبلِّغين والشهود» يدخل حيز التنفيذ    "الجوازات" تعلن الجاهزية لاستقبال المعتمرين    "المسكنات" تسبب اضطرابات سلوكية خطيرة    رفض اصطحابها للتسوق.. عراقية ترمي زوجها من سطح المنزل    الموارد البشرية بالقصيم تشارك في اليوم العالمي لمكافحة المخدرات    مناسك الحج في ظل الاعتراف السيسيولوجي    غوتيريش: العالم يفشل في تحقيق أهداف التنمية    سفارة المملكة في لندن تستضيف جلسة نقاشية لتكريم المرأة السعودية    افتتاح أكثر من خمس مناطق ترفيهية ضمن موسم جدة 2024م    إطلاق موسم صيف عسير 2024    "ميشيل سلغادو" مدرباً للأخضر تحت 15 عاماً    "العمري" مديراً للإعلام والإتصال ومتحدثاً رسمياً لنادي الخلود    ختام الجولة الثانية لبطولة الديار العربية لمنتخبات غرب آسيا    خبير دولي: حجب إثيوبيا المياه عن مصر يرقى لجرائم ضد الإنسانية    بايدن يخاطر بحرب نووية مع روسيا    ختام بطولة المناطق الأولى للشطرنج فئة الشباب تحت 18 سنة و فئة السيدات كبار    سباليتي يتوقع أن تتحلى إيطاليا بالهدوء أمام سويسرا في دور 16    فقدان الجنسية السعودية من امرأة    ضبط مواطنين بمنطقة حائل لترويجهما مواد مخدرة    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الأميرة هدى بنت عبدالله الفيصل آل فرحان آل سعود    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الأميرة هدى بنت عبدالله الفيصل آل فرحان آل سعود    أمير عسير يُعلن إطلاق موسم الصيف 2024 بشعار "صيّف في عسير.. تراها تهول"    يسر وطمأنينة    صنع التوازن.. بين الاستثمار الناجح وحماية التنوّع البيولوجي    شوكولاتة أكثر صحية واستدامة    القوامة تعني أن على الرجال خدمة النساء    كيف نطوّر منظومة فكرية جديدة؟    زيارة الغذامي أصابتنا بعين    سيدات مكَّة يسجلن أروع القصص في خدمة ضيوف الرحمن    النجمي يلتقي مدير عام فرع الإفتاء في جازان    د. الحصيص: التبرع بالكبد يعيد بناء الحياة من جديد    محافظ الطائف يزف 9321 خريجاً في حفل جامعة الطائف للعام 1445ه    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان حاكم الشارقة في وفاة الشيخة نورة بنت سعيد بن حمد القاسمي    وفاة والدة الأمير منصور بن سعود    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماذا يبقى من فلسطين ... ماذا يبقى من القضية الفلسطينية ؟
نشر في الحياة يوم 01 - 11 - 2004

ماذا يبقى من فلسطين... ماذا يبقى من القضية الفلسطينية؟ هذا الكلام ليس سؤالاً حاسماً ينتظر جواباً حاسماً من نوعه. ولا هو، بالتأكيد، تقرير يستبق الإعلان عن نهاية قادمة لحلم قديم. إنه، ببساطة، يختصر حالة من القلق الحقيقي عند المواطن العربي، ويلخص المشاعر الإنسانية المملوءة بالمرارات عنده. وكل من هذين، القلق والمشاعر، إنما يقربان صاحبهما من اليأس، من دون أن يدخلاه فيه، بالضرورة. بل ان هذا المواطن المقهور الحائر القلق يظل يتمرد على اليأس ليبقى على مسافة، ولو بعيدة، من أمل مشوب بالحذر، أمل حصنه في الوعي تراكم التجارب ضد الوهم القديم، الذي كنا نشارك حكوماتنا بواسطته في تغطية هزائمنا المتكررة بالحديث عن انتصارات كلامية، كنا نزيّنها، بعفوية ومن دون وعي، بالشعارات الرنانة وبالهتافات بحياة أبطالنا العظام الخالدين!
هذا الكلام هو جزء من الحقيقة المرة، وليس كلها. أما بقية الحقيقة فموزَّع في أماكن ومواقع شتى. وهذا الجزء من الحقيقة الذي يشير إليه الكلام الآنف الذكر، إنما يوحي به إلى المواطن العربي مشهد المأساة، الصارخ في قطاع غزة، والهادئ، أحياناً، والصاخب بحدود، أحياناً أخرى، في الضفة الغربية. وما الهدف من سوق هذا الكلام، كجزء من الحقيقة، إلاَّ للاعتراف، من دون مكابرة، بأن ما كنا نحلم بتحقيقه، قبل أربع سنوات - وهو كان حلماً بقيام دولة فلسطينية، أو شبه دولة على جزء من أرض فلسطين العربية - قد تأجَّل إلى زمن لاحق. إذ لم يعد ممكناً تحقيقه اليوم. ألا تشير إلى ذلك حرب الإبادة الجماعية والتدمير الشامل اللذان تمارسهما إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وضد أراضيه وممتلكاته؟ ألا يشير إلى ذلك الجدار العازل الذي لم تأبه إسرائيل بقرار محكمة العدل الدولية المدين له؟ ألا يشير إلى ذلك التراجع المثير للقلق في موقع القضية الفلسطينية على الصعيدين العربي والدولي؟ والاعتراف بالحقيقة المرة، أو بجزء منها، هو اليوم، واقعياً، المدخل الصحيح للبحث عن أسباب ما حصل، وعن نتائجه، وعن الآفاق المتبقية المحتملة والمتخيلة من القضية الفلسطينية.
يعيدنا هذا المدخل تلقائياً إلى خمسين عاماً ونيف مضت، يوم فرض علينا القبول بتقسيم فلسطين ورفضنا، ودخلت ستة جيوش عربية في حرب لمنع ذلك التقسيم، وهيأت بهزيمتها غير المبررة كل الشروط لقيام دولة إسرائيل، وعطَّلت وحطمت، هي وأنظمتها، بالهزيمة ذاتها وبالمكابرة القومية الجوفاء، وبقدر غير قليل من التآمر والتواطؤ والعجز، الشروط كلها لقيام دولة فلسطينية، بموجب قرار التقسيم الذي رفضناه وعجزنا عن منع تطبيقه، على رغم أنه كان قد أصبح، عملياً، جزءاً من الشرعية الدولية التي كنا في حاجة إليها ولا نزال. ولو أن أنظمة ذلك الزمان وحكوماتها بادرت، بعد الهزيمة التي تتحمل هي المسؤولية عن وقوعها بالكامل، إلى القبول بقرار التقسيم وساعدت الشعب الفلسطيني في إقامة دولته على الأرض المتبقية، لكانت حققت جزءاً من الحلم التاريخي للشعب الفلسطيني، الحلم الذي ما ينفك يتراجع، منذ ذلك التاريخ، ويتأجَّل، ويتعثر مع مرور الزمن ومرور أحداثه وتحولاته ومصادفاته ووقائعه. لكن ذلك لم يحصل. وحلَّ محلّه تحوُّل القضية الفلسطينية إلى قضية قومية لكل الشعوب العربية. وضعف دور الشعب الفلسطيني في حمل قضيته بيده، في ظل ذلك التطور، الذي تمثل بتصاعد وتعاظم الموقف القومي في القضية الفلسطينية، من جهة، وبفداحة المأساة التي وضع فيها الشعب الفلسطيني في الداخل الفلسطيني، وفي بلدان الشتات العربي، من جهة ثانية. إذ صار صاحب القضية ملحقاً في قضيته بأصحابها الكبار الجدد، قادة الدول العربية وأنظمتهم وحكوماتهم ومصالحهم، كما صار ملحقاً بالحركة القومية العربية بمكوناتها السياسية والحزبية المختلفة. ودخل - الشعب الفلسطيني - طوعاً أو كرهاً، أسوة بأشقائه الشعوب العربية، في دوامة الوهم، الثوري وغير الثوري، لتحقيق التحرير، تحرير فلسطين، ولإجراء التغيير، تغيير الأوضاع القائمة في بلداننا في اتجاه الوحدة والحرية والاشتراكية. وصارت القضية الفلسطينية جزءاً من سياسات الأنظمة وسلطاتها ومصالحها. وتحولت إلى حالة انتظار لا تنتهي عند الشعوب العربية وعند حركاتها الوطنية، وإلى معارك خاسرة وإلى حائط مبكى. وتعطلت، بفعل هذه التحولات كلها، في بلداننا العربية جميعها، قضايا التقدم الاقتصادي والاجتماعي. وقمعت الحرية الفردية والعامة، وديست حقوق الإنسان، وغيِّب بالكامل بناء الدولة الحديثة. وبقي الشعب الفلسطيني، داخل أرضه، التي حوّلتها الحروب الخاسرة إلى مناطق احتلال، عرضة للقهر القومي. وبقيت أقسام كبيرة منه في الشتات العربي عرضة للقهر والإذلال كذلك. وتعمقت، بفعل ذلك كله، العاهات والأمراض في بلداننا، وفي مجتمعاتنا، وفي وعينا. ولم تسلم من ذلك فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية، وفصائل الحركة الوطنية العربية. واستمر الشعب الفلسطيني، في كل تلك الظروف، يكافح بشجاعة، بحسب قدراته، ويقدم التضحيات الجسام من دون حساب.
حصل كل ذلك، ولا يزال يحصل، والتاريخ، تاريخ فلسطين وتاريخ شعبها، لا ينتهي ولا يتوقف عن الحركة. وكان ذلك، ولا يزال، أمراً طبيعياً. لكن المسألة هنا لم تعد مسألة تخص الفلسطينيين وأشقاءهم العرب وحدهم. ولم تعد تتعلق بإقرار من جانب المجتمع الدولي بأن حركة التاريخ مستمرة، متواصلة، ولا نهاية لها. المسألة تتعلق أساساً، بالجملة وبالتفاصيل، في جعل قضية تقرير المصير - كحق طبيعي لجميع الشعوب - تطاول الشعب الفلسطيني ولا تتجاوزه في صورة استثنائية ظالمة، غير مسبوقة، في تاريخ العالم الحديث. ولن ندخل في جدال هنا حول القضية الكردية التي لها خصوصيات وتعقيدات من نوع آخر. ويتمثل هذا الحق في السماح للشعب الفلسطيني بإقامة دولة له على أرضه، أسوة بكل شعوب العالم، وتنفيذاً لواحد من أقدم قرارات الشرعية الدولية الرقم 181. وهي مسألة، في القانون الدولي، في مستوى البديهيات. فلماذا يحرم هذا الشعب، إذاً، من هذا الحق البديهي؟ ولماذا لا تنفذ قرارات الشرعية الدولية التي تعبر عن هذا الحق وتجسده بوضوح لا التباس فيه؟ ولماذا يعجز المجتمع الدولي عن منع إسرائيل من الاستمرار في سياسة الإبادة لهذا الشعب، والاستيلاء على أجزاء كبيرة من أراضيه، والتدمير المنظم لممتلكاته ولسائر مقومات حياته؟
ثمة مسؤوليات عما جرى، وعما يجرى، وعن الواقع المأسوي الذي يعيش فيه الشعب الفلسطيني وتعيش فيه قضيته. وقد حان الوقت، حان منذ زمن طويل، لكي تحدد هذه المسؤوليات بوضوح، ويحدد المسؤولون عنها بأسمائهم، من دون تمويه. ولا حاجة بنا إلى الوقوف طويلاً عند التاريخ القديم، تاريخ نصف قرن ونيف. فهو تاريخ سابق، غطى عليه التاريخ الحديث وفاض. فلنتحدث، إذاً، عن هذا التاريخ الحديث. وهو تاريخ الحقبة التي حمل فيها الشعب الفلسطيني قضيته بيده، أو هكذا تصور هو ذلك، وصدقناه، وقبل به بعضنا، ورفضه بعض آخر، وبقي فريق ثالث منا إزاءه على الحياد، وما يزال.
ولأنني أنتمي إلى الجيل القديم، جيل الحقبة الأولى، ولأنني مرافق للقضية الفلسطينية ومهموم بها، منذ البدايات ولا أزال، فإن بمقدوري أن أساهم، اليوم، ربما من دون تعسف كما أزعم، في تحديد هذه المسؤوليات والمسؤولين، من دون أن أستثني الجهة السياسية التي أنتمي إليها - وهي الأقل مسؤولية من سواها بكثير - ومن دون أن استثني نفسي، كأحد المسؤولين عن القرارات التي صدرت والمواقف التي اتخذت في حزبي، الحزب الشيوعي اللبناني، في الصواب والخطأ، ثم كمواطن فرد.
المسؤولية الأولى تقع، في نظري، على الحركة الوطنية الفلسطينية، قديماً، وعليها في الحقبة التي تمتد من عام 1967، العام الذي تشكلت فيه المقاومة الفلسطينية في أشكالها السياسية والعسكرية والثقافية وحتى الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن المقاومة النفسية، أي المقاومة التي جعلت الفلسطيني يشعر بأنه صاحب القضية، والمسؤول المباشر عن الالتزام بها والنضال من أجل انتصارها. وتتحدد مسؤولية الحركة الوطنية الفلسطينية في الأمور الآتية: أولاً، في أنها لم تستطع أن توضح الأهداف التي تناضل من أجلها، لا سيما ما يتعلق منها تحديداً بالدولة الفلسطينية. واختلفت فصائل هذه الحركة حول هذا الهدف. ففي حين ارتفعت شعارات تدعو إلى استعادة الأرض الفلسطينية كاملة، وإزالة إسرائيل من الوجود، طرحت أفكار تدعو إلى إقامة دولة فلسطينية ديموقراطية للعرب واليهود على كامل أرض فلسطين. تلتها، في ما بعد، أفكار تحولت إلى برنامج مقر من جانب منظمة التحرير الفلسطينية يتبنى النضال من أجل إقامة الدولة الفلسطينية على الأرض التي احتلتها إسرائيل في عام 1967. وتعايشت، ولا تزال، هذه الأفكار والمشاريع المرتبطة بها، في ظل التغيرات الكبرى التي طرأت على الوضع العالمي، وعلى الوضع في منطقتنا، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ثانياً، في أن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تستطع أن تعبئ الشعب الفلسطيني، على قاعدة هذا البرنامج، من أجل تحقيق الأهداف القابلة للتحقيق منه، وبالتدريج، وبالوسائل الكفاحية المؤدية إلى تحقيقها، هدفاً إثر هدف، ومرحلة إثر مرحلة، لكي يشعر الشعب بأن كفاحه الصعب المليء بالتضحيات ليس كفاحاً من دون نهاية، بل هو كفاح قادر على إيصاله إلى آفاق ملموسة محددة. ولم تستطع منظمة التحرير الفلسطينية في الشتات، ولا السلطة الوطنية التي قامت داخل أرض فلسطين، بعد مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو، أن توحدا الموقف الفلسطيني، في السياسة، وفي أدوات النضال، وفي التحالفات، وفي كل ما يتصل بالقضايا اليومية والمستقبلية للشعب الفلسطيني. ثالثاً، في أن الأوهام التي نشأت، منذ البدايات، حول دور السلاح في النضال، سرعان ما تحولت، في السنوات الأربع الماضية، إلى كارثة حقيقية، بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني وإلى تحالفاته العالمية. وكانت العمليات الانتحارية العشوائية أحد أكثر تلك السياسات ضرراً بالقضية الفلسطينية، على رغم كل ما كانت تشير إليه من قدرة هائلة عند هذا الشعب، وعند شبابه بالذات، لبذل التضحيات من دون حساب. رابعاً، في أن الحركة الوطنية الفلسطينية، مجتمعة، ومن خلال تنظيماتها المختلفة، لم تستطع أن تحدد، بوضوح، وبواقعية، أين ومتى وكيف يكون قرارها مستقلاً عن الأشقاء العرب، أنظمة وحركات وطنية، وأين ومتى وكيف يكون هذا القرار جزءاً مكملاً من قرار عربي عام. ثم إنها لم تستطع، بالجمع وبالمفرد، أن تقيم علاقة صحيحة مع الحركات الوطنية في البلدان العربية، لا سيما في الأردن ولبنان. إذ هي حلَّت جزئياً، في مرحلة أولى، ثم كلياً، في مراحل لاحقة، محل تلك الحركات، وعطلت دورها، وألحقتها بها، وقبلت تلك الحركات بذلك، ودفعت القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني وحركته الوطنية الثمن الباهظ لتلك السياسات. كما دفعت الحركات الوطنية في تلك البلدان الثمن الباهظ ذاته لتلك السياسات. خامساً، في أنها لم تستطع أن تقيم علاقات صحيحة مع المجتمع الإسرائيلي، لكي تستند إلى القوى الديموقراطية فيه في مقاومتها لسياسات القمع من جانب السلطات الإسرائيلية. كما لم تستطع أن تصوغ سياسة مرنة تجاه المجتمع الدولي، لكي تكسب عطفاً غير مشروط، بدلاً من العطف المشروط، والذي لا يزال مشروطاً.
المسؤولية الثانية، تتحملها البلدان العربية، أنظمة حكم وشعوباً وحركات وطنية، بمكوناتها المختلفة، وبمشاريعها المختلفة، يميناً ويساراً. وإذا كانت الأنظمة قد جعلت من القضية الفلسطينية غطاء خادعاً لاستمرار هيمنتها والاستبداد بشعوبها وإغراق بلدانها في التخلف، فإن الحركات الوطنية في هذه البلدان لم تكن في مستوى المسؤولية التي تمكنها من الربط الصحيح بين قضايا بلدانها وبين القضية الفلسطينية. فوقعت هي، وأوقعت الحركة الوطنية الفلسطينية، في متاهات النضال من دون آفاق حقيقية تحقق الهدف الأساس، سواء في إيصال الشعب الفلسطيني إلى إقامة دولته الوطنية المستقلة، أم في إيصال بلدانها إلى الحرية والتقدم، أي إلى بناء دول ديموقراطية تحترم فيها حقوق الإنسان وحرياته، وتتم فيها عملية تقدم تلحق شعوبنا بركب الحضارة العالمية، وتمكنها من الإسهام في جعل هذه الحضارة حضارة إنسانية، بدلاً من أن تكون هذه الحضارة مرتعاً للرأسمال المعولم ولأهدافه وغاياته المتوحشة. وإذا كان الفكر القومي الغيبي هو الذي ساهم، وساهم أصحابه ومفكروه، عن وعي أو عن غير وعي، في تعطيل مسار حركة التاريخ في الاتجاه الصحيح، فإن الفكر الاشتراكي، بتنويعاته المختلفة، بما في ذلك ما يتصل منه بالحركة الشيوعية أحزاباً ومفكرين، لم ينتج، على رغم مرجعيته الأكثر علمية، الماركسية، برنامجاً أكثر وضوحاً وأكثر عقلانية من الفكر القومي، ولم يقدم طرائق نضال أفضل وأكثر جدوى. بل إن معظم الأحزاب القومية والشيوعية اندمجت، في لحظات تاريخية معينة، في الحركة الفلسطينية، والتحقت بها، بدل أن تقدم لها المساعدة في تسديد فكرها وفي جعل برنامجها السياسي والنضالي والعملي أكثر عقلانية وأكثر واقعية، اي أكثر ارتباطاً بالوقائع المحلية والعربية والدولية.
المسؤولية الثالثة، يتحملها المجتمع الدولي. ذلك أن للقضية الفلسطينية خصوصية تجعلها، على رغم شرعيتها كقضية قومية لشعب حقيقي، أكثر تعقيداً من القضايا المعاصرة، مثل قضيتي فيتنام وجنوب أفريقيا. ومصدر التعقيد في القضية الفلسطينية هو أن قيام الدولة الفلسطينية يتطلب إقراراً من دولة إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في الوجود، وحقه في إقامة دولته على جزء من أرض فلسطين، الأرض المشتركة، منذ التاريخ القديم، بين الشعبين العربي واليهودي.
وبمعزل عن الأخطاء التي ارتكبت خلال النضال الفلسطيني الطويل، وآخرها العمليات الانتحارية ضد المدنيين في إسرائيل، فإن المجتمع الدولي ظل يتسامح مع جرائم إسرائيل أكثر من تعاطفه مع حقوق الشعب الفلسطيني، وإلاَّ لكان الوضع اختلف في شكل التضامن مع الشعب الفلسطيني، ولكان هذا الشعب اقترب من تحقيق أهدافه، ولكانت حكومة إسرائيل شعرت بالحاجة إلى تغيير سياساتها، ولكانت الولايات المتحدة الأميركية مارست ضغطاً أكبر ضد الحكومة الإسرائيلية بوقف عمليات الإبادة المنظمة ضد الشعب الفلسطيني.
أقدم تحديدي لهذه المسؤوليات باختصار - ومنها مسؤوليتي الشخصية عندما كنت في موقع قيادة حزبي الشيوعي اللبناني - من أجل الوصول إلى الاستنتاج الذي أريد أن أخرج به حول الوضع الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية اليوم. فالسؤال الذي بدأت به مقالي هذا يرمي إلى فتح باب الاجتهاد والتفكير حول ما ينبغي عمله لمواجهة مفاعيل الوضع المأسوي الراهن. ذلك أن خطة شارون للانسحاب من قطاع غزة - بعد إفراغ هذا القطاع من قوى المقاومة بالقمع والقتل والاغتيال والتدمير، وإضعاف السلطة الوطنية - لن يشكِّل حلاً للقضية الفلسطينية، ولن يضع حداً للصراع القائم في فلسطين وحول قضيتها، والصراع العام في المنطقة برمتها، بين العرب وحلفائهم الملتبسين وبين إسرائيل وكثرة حلفائها. بل إن هذا الانسحاب، إذا ما تمَّ - وقد لا يتمكن شارون من إتمامه بسبب مقاومة المستوطنين - سيخلق، ولو بعد حين - هذا إذا توقفت المقاومة فعلاً - شروطاً جديدة لقيام حركة من نوع جديد، لن تجعل عنصريي إسرائيل يرتاحون، ولن تتيح للأنظمة العربية فرصة المساومة مع سادة العالم الجدد، في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير، أو خارجه. بل هي ستجعل الفوضى سائدة في المنطقة، الأمر الذي سيقدم للقوى السلفية المتطرفة كل الشروط لتوسيع حركتها العبثية التدميرية.
لا بد، في ضوء كل هذه الوقائع، من مراجعة عميقة وشاملة من جانب الحركة الوطنية الفلسطينية بكامل فصائلها، ومن دون استثناء، مراجعة لكل سياساتها في الحقبة الماضية كلها، لا سيما في السنوات الأربع المنصرمة. ووظيفة هذه المراجعة النقدية، وظيفتها الأساسية، هي خلق الشروط لوضع خطة عمل جديدة، مختلفة بالكامل عن السابق، محددة الأهداف بوضوح. وأهم ما أعتبره أساسياً بين هذه الأهداف هو الاتفاق الصريح والواضح بين مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية على التمسك بإقامة الدولة الفلسطينية على الأرض التي احتلتها إسرائيل في عام 1967، كمهمة استراتيجية، والوصول إلى هذا الهدف بالتدريج، مرحلة بعد مرحلة، واختيار أشكال النضال بواقعية، بهدف توسيع قاعدة الحلفاء، بدءاً بالداخل الإسرائيلي وصولاً إلى آخر نقطة في الكرة الأرضية. ففي اعتقادي أن العمل لعزل عنصريي إسرائيل، في السلطة وخارجها، هو مهمة بالغة الأهمية والجدوى، ولها أولوية قصوى. أضيف إلى ما سبق أن المراهنة على الأنظمة العربية قد صارت من الماضي. فكل نظام من أنظمتنا الاستبدادية القائمة مهموم بترتيب أوضاعه، بما في ذلك، إذا اقتضى الأمر، بالتخلي، سراً أو علانية، عن دعم الشعب الفلسطيني، من أجل الحفاظ على سلطته، والمساومة على كل شيء في سبيل هذا الهدف. ولا يستثنى من هذه الأنظمة أي نظام، بما في ذلك النظام اللبناني الذي يبالغ أركانه وحلفاؤهم في الحديث عن خطر التوطين إلى حد المساهمة في بيع اللاجئين الفلسطينيين إلى الشيطان عند الضرورة! أما الحركات الوطنية الديموقراطية في البلدان العربية فهي أحوج من الحركة الوطنية الفلسطينية للقيام بتلك المراجعة العميقة والشاملة لسياساتها وأفكارها ومشاريعها ووسائط وأدوات نضالها، ليس في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وحسب، وإنما في ما يتعلق ببلدانها الذاهبة إلى الكارثة بسرعة فائقة.
وفي يقيني فإن مثل تلك المراجعة العميقة والشاملة من قبل الجميع، لا سيما من جانب الحركة الوطنية الفلسطينية، المراجعة التي أدعو إليها، والخلاصات التي ينبغي أن يخرج منها الفلسطينيون، خصوصاً، حول النضال لتحقيق الدولة الفلسطينية في الظروف الدقيقة والصعبة الراهنة، إنَّ ذلك يشكل أساساً جديداً، أكثر ارتقاءً وأكثر جدوى وفاعلية، لتضامن الأشقاء العرب مع الشعب الفلسطيني، وإعادة إحياء القضية الفلسطينية في شكل أكثر وضوحاً، أي أكثر تحرراً من أوهام الأفكار السلفية والغيبية السابقة. وعندئذٍ لا يعود السؤال عن فلسطين، وعن القضية الفلسطينية، أقرب إلى اليأس. بل سيصبح أكثر ارتباطاً بالمستقبل، وأكثر تفاؤلاً بحل عادل، ولو بالتدريج، وعلى مراحل، وفي زمن أقل، وفي تضحيات أقل جسامة وأكثر جدوى، للوصول إلى الدولة الفلسطينية.
* مفكر لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.