ظاهرة العنف الدموي التي تجتاح العالم العربي، بأشكالها وبمصادرها الداخلية والخارجية وباستهدافاتها، تثير لدى المواطن العربي الكثير من التساؤلات ممزوجة بالغضب وبالقلق. اذ صار القتل، بأدواته المختلفة، شكل الموت اليومي في بلداننا، بديلاً من الحياة اليومية الطبيعية، وبديلاً من السعي لازدهارها. واختلط الحابل بالنابل. اختلط الصحيح - اذا كان ثمة ما هو صحيح بالمطلق في القتل وبوسائطه - بغير الصحيح. اختلط النضال ضد الاحتلال والعدوان الخارجيين - وكل مناهضة للاحتلال هي مقاومة لها شرعيتها المبدئية - وضد القهر والاستبداد الداخليين - وكل نضال ضد الاستبداد هو نضال له شرعيته المبدئية - اختلط هذان النضالان بالصيغ التي يمارس بها كل من الخارج والداخل عدوانه على شعوبنا وقهره لها. وصار المحتل والمستبد - وكلاهما خصمان لشعوبنا ولأوطاننا ولو بفارق في الدرجة - يبرران، لكن حتماً بغير حق، ممارساتهما الوحشية كرد فعل على وحشية من النوع ذاته يمارسه من يدعون احتراف المقاومة، تطاول المواطنين بالقتل، من دون تمييز، وتطاول مصادر الحياة المدنية في المؤسسات العامة، اكثر بكثير مما تطاول كلاً من الاحتلال الاجنبي وسلطات الاستبداد. والنتيجة المباشرة لاختلاط الحابل بالنابل هو ان الاحتلال يستمر في احتلاله للعراق، وفي ممارساته العدوانية ضد الشعب العراقي، ويستمر، في الوقت عينه، الاستبداد في استبداده وفي سلطته حيث لا تزال تتوافر له مقومات الحياة. فمن يا ترى يقتل من؟ ولماذا يمارس القتل في هذه الصيغ والاشكال والأدوات بالذات؟ وما هو الهدف من هذا القتل؟ والى أين يراد الذهاب ببلداننا في مثل دوامة العنف هذه؟ وما هو المعنى الحقيقي لما يجري في بلداننا، في داخلنا نحن، في وعينا، في فكرنا، في سياساتنا وفي خططنا؟ وما هي دلالات ما يستهدفنا من خارجنا، ومن خارج حدودنا، ومن خارج ارادتنا وغصباً عنا؟ جميع هذه الأسئلة موجهة، في الدرجة الأولى، الى القيادات السياسية التي تنتمي الى تيار الوطنية والديموقراطية والتغيير، وموجهة، في الوقت عينه، الى السلطات الحاكمة على اختلافها واختلاف مواقعها ومواقفها. لكنها موجهة، مباشرة وفي شكل اكثر تحديداً، الى تلك القوى التي تصفق للعنف الدموي باسم العداء للامبريالية الأميركية وباسم مناهضة الاحتلال والعدوان في العراقوفلسطين، تصفق وهي خارج الانخراط في العمل المسلح هنا وهناك، وخارج احتمالات التأثر بالنتائج التي تترتب عنه، وبعيداً جداً عن امكان تحمل الثمن الباهظ الذي يفترض تقديمه. وإذ اطرح تلك الأسئلة في اتجاه تلك القوى جميعها فليس لكي استدرج الجواب من أي منها، بل لأشير الى الكارثة التي تدفع اليها بلداننا دفعاً في حياتها الراهنة وفي مستقبلها. وللكارثة اكثر من وجه. الوجه الأول يتثمل في أن العدو الخارجي الذي رفعنا شعار مقاومته منذ بدايات عهود الاستقلال وناضلنا وقدّمنا التضحيات الجسيمة في ذلك النضال، هذا العدو يدخل اليوم الى بلداننا من الأبواب الواسعة، سواء بالحرب العدوانية ام بالسياسة وبالاقتصاد، ام بوسائل اخرى، يدخلها بسهولة مذهلة مثيرة للغضب وللرعب ولما يشبه اليأس والاحباط. والعراق، بعد فلسطين، العراق الذي هو أقوى دولنا العربية وأكثرها غنى في الطاقات البشرية والمادية، يقدم لنا المثال المريع على ذلك. فبدلاً من ان يتوجه الاهتمام الى تحديد الأسباب عن تلك الهزيمة الجديدة المروعة في العراق خصوصاً، وبدلاً من ان يتعمق البحث في تحديد المسؤولية عن ذلك، ارتفعت - ولا تزال ترتفع - اصوات من هنا ومن هناك تدافع عن نظام الاستبداد في العراق، وتدافع عن سيده كبطل من أبطال مقاومة الامبريالية، وكضحية من ضحاياها. ويتجاهل هؤلاء المدافعون عن الاستبداد المقابر الجماعية التي حفرها سيد ذلك النظام لمئات ألوف المواطنين العراقيين، ويتجاهلون التدمير المنظم للعراق ولحياة العراقيين خلال ما يقرب من أربعة عقود في الحروب وفي سائر وسائل القهر والقمع والتشريد والتهجير. ويتمثل الوجه الثاني للكارثة في ان الشعب الفلسطيني، الذي اعتبرنا قضيته هي قضيتنا الأولى منذ قديم الزمان، اصبح اليوم، بعد تلك العقود من النضال ومن الشعارات الرنانة فيه ومن التضحيات الجسيمة، تضحياته وتضحياتنا، اسير عملية إبادة حقيقية لا مثيل لها في التاريخ المعاصر للبشرية. وهي عملية تجرى امام أعيننا وأمام أعين العالم. ونقف نحن، ويقف العالم معنا، في حالة عجز مطلق عن الدفاع عن هذا الشعب البطل الجريح، المكافح من دون هوادة ومن دون يأس من اجل الحياة، على رغم السواد المخيم والعتمة الشديدة الظلام. ويتمثل الوجه الثالث للكارثة في ان أنظمة الاستبداد والتخلف تستمر في استبدادها وفي قهرها لشعوبها، حيث لا تزال موجودة، وتستمر في خضوعها المذل، بصيغ شتى وبدرجات متفاوتة، لذلك العدو إياه، العدو السالب حقوقنا والطامع بثرواتنا، والساعي للتحكم بمصائرنا وفق اهوائه ومصالحه وأهدافه في السيطرة على العالم. ويتمثل الوجه الرابع للكارثة في ان القوى التي تدعي الانتماء الى حركة التغيير الديموقراطي تعيش في حالة غيبوبة شبه تامة عما يجري، او في حالة يقظة زائفة، مجردة او شبه مجردة من الوعي بموجبات النضال من اجل التغيير الذي طالما حملت هي رايته، التغيير في شروطه الواقعية في الزمن الراهن وليس وفق أزمنة اخرى متخيلة. ويتمثل الوجه الخامس للكارثة في ان اقساماً اساسية من القوى التي تتصدى لمقاومة الاحتلال والقهر والعدوان، او التي تدعي ذلك، انما تنتمي الى كهوف التاريخ، وتستمد من تلك الكهوف افكارها وسياساتها ومواقفها وأشكال ممارساتها واستهدافاتها التي تزهق ارواح المدنيين من دون تمييز. اذ هي تطرح افكاراً ومواقف وسياسات ومشاريع للحاضر وللمستقبل تعيد، اذا ما أتيح لها ان تنتصر، بلداننا الى مجاهل العصور الوسطى، وتغرقها في صراعات تمزقها وتزيدها تخلفاً وانحطاطاً، وتعزلها عن تحولات العصر وعن انجازاته الكبرى وعن التفاعل معها. وتتخذ العنف الدموي العبثي العدمي طريقاً لتحقيق تلك المشاريع والأفكار الرجعية. فما العمل إزاء هذه المظاهر والوجوه المختلفة للكارثة الجاثمة على صدور بلداننا وشعوبنا؟ ما العمل اذا كانت القوى المعنية بمواجهتها تعيش كل تلك الالتباسات التي أشرت اليها؟ ثمة حاجة الى نهضة تعيد الوعي الى القوى الحية في مجتمعاتنا من اجل مواجهة هذه الكارثة في وجوهها المختلفة وهي حاجة موضوعية ملحّة. تقودني الى هذا الحديث قوافل الموت التي يذهب فيها المئات من مواطنينا في شكل متواصل شبه يومي في العراق خصوصاً، وكذلك في السعودية وفي المغرب وفي اليمن، والحبل على الجرار. اذ هم يساقون بالمئات الى الموت باسم محاربة الاحتلال في العراق، ويساقون الى الموت في البلدان العربية الاخرى بأسماء مختلفة غير واضحة وغير محددة الهدف. فهل اخراج الاحتلال الأميركي والبريطاني من العراق يقضي بقتل المئات في النجف وكربلاء والبصرة والناصرية وبغداد والموصل والفلوجة، ومن بينهم أطفال ونساء وشيوخ ومواطنون مدنيون، وهم يمارسون حياتهم اليومية؟ هل قتل أفراد الشرطة العراقية التي تتكون، في ظل الاحتلال، لتكون بديلاً ذات يوم من عسكر هذا الاحتلال في تنظيم الأمن، هو جزء من النضال لإزالة الاحتلال؟ هل تدمير المنشآت الوطنية، مستشفيات وفنادق ومحطات كهرباء وماء، ومنشآت نفطية، هو جزء من معركة التحرير؟ هل الاعتداء على مؤسسات الأممالمتحدة المؤهلة وحدها من دون سواها في الظروف الراهنة لتسهيل نقل السيادة الى العراقيين، هو عمل وطني يخدم قضية التحرير؟ هل التحرير هو مهمة يقرر قواها وأشكال النضال لتحقيقها شخص بعينه، أو جهة مجهولة بعينها، بالنيابة عن الشعب وعن قواه الحية، ووفق أفكار وآراء لا يشير أي منها الى أنها تمت بصلة الى مستقبل ديموقراطي حر وسعيد ومتقدم للعراق؟ ثم من قال بأن للنضال شكلاً واحداً ومحدداً في أي من مراحله وفي خدمة أي من أهدافه، في بلداننا وفي أي بلد من بلدان العالم؟ ألم تشر تجارب شعوب الأرض وحركاتها الوطنية التحررية ان للنضال اشكالاً لا تحصى، وأن السلاح هو واحد منها وليس الوحيد، وأن لكل شكل من أشكال النضال شروط استخدامه وظروفه الزمنية والسياسية؟ كلا. ليس ما نشهده في العراق وفي البلدان التي تتم فيها عمليات التفجير ضد المدنيين إلا نوعاً من أعمال عبثية وعدمية تستهدف قطع الطريق أمام احتمالات تتوافر بعض شروطها، على رغم الصعوبات، لتطور ديموقراطي هو في العراق أقرب منالاً من أي بلد عربي آخر. أقول ذلك وأنا واثق مما أقول، حتى ولو طال الزمن، وهو لن يطول. وغني عن التأكيد، في هذا السياق، بأن للشعب العراقي تجارب نضالية عريقة في مقاومة القوى الأجنبية وفي مناهضة الأحلاف العسكرية وفي الدفاع عن استقلال العراق، وفي الطموح الى تحقيق الحرية والتقدم والعدالة في هذا البلد العريق. وهي تجارب عطّل مفاعيلها نظام الاستبداد الذي صادر الحياة بكل مكوناتها ومقوماتها. ولكي يستعيد الشعب العراقي تراثه النضالي العريق هذا، من أجل تحرير بلاده من الاحتلال واستعادة السيادة اليها وإزالة اثار الاستبداد واقتلاعه من جذوره، وترسيخ وتعميق وحدة الشعب العراقي بأطيافه القومية والدينية والسياسية كلها، والسير في إعادة بناء العراق، دولة ومجتمعاً، على أساس الديموقراطية والتقدم، من الضروري لتحقيق ذلك أن يقف الأشقاء العرب الى جانبه وأن يدعوه يقرر مصيره بنفسه، ويحدد وسائل نضاله وحده. ومن الضروري في الوقت ذاته، أن يكف أصحاب الشعارات الرنانة في العداء للامبريالية عن التصفيق لصدام حسين ولنظامه الاستبدادي، ويكفوا عن التصفيق لتلك الأشكال العبثية والعدمية التي يعرقل أصحابها بها طريق العراق الى السيادة الوطنية والى الحرية والديموقراطية والتقدم. لا بد، في ضوء هذه الوقائع المضطربة، في العراق خصوصاً، من تصحيح مجرى الصراع، وتوضيح الأهداف التي نريد من ممارستنا للصراع تحقيقها، وتحديد دقيق للأشكال التي ينبغي علينا اتباعها في نضالنا من أجل تحقيق هذه الأهداف، وتحديد دقيق للأدوات التي ينبغي استخدامها في هذا النضال. إلا أن ما هو أهم من كل ذلك هو تحديد القوى التي يشكل انخراطها في النضال مساهمة في تحقيق تلك الأهداف وليس تناقضاً معها وتدميراً لها. وطبيعي أن تكون تلك القوى قوى ديموقراطية، قوى تمثل المستقبل، لا قوى عبثية رجعية خارجة من كهوف التاريخ، تستخدم وجودها في قلب الصراع من أجل أن تعيد الى العراق صيغة نظام الاستبداد السابق، أو أن تقيم فيه نظاماً شبيهاً بنظام طالبان البائد السيئ الصيت، أو أن تستبدل أنظمة استبداد قائمة في بعض بلداننا بأنظمة استبداد أكثر همجية وأكثر رجعية. لقد أثبتت تجاربنا وتجارب سوانا في بلدان عدة، بما فيها تجارب حملت اسم الاشتراكية وقيمها، ان المسألة الأساس في النضال الوطني التحرري وفي النضال من أجل التغيير الديموقراطي والنضال لمقاومة الاحتلال الأجنبي، المسألة الأساس انما تتمثل في تحديد القوى التي ستضطلع بهذه المهمة. إذ كثيراً ما كانت الممارسة، خلال ذلك النضال وفي نهايته، تتم وتأتي في الاتجاه النقيض للأهداف وللشعارات المعلنة. هل نسينا اسم بول بوت في كمبوديا وأسماء أخرى شبيهة له في الجرائم التي ارتكبت باسم الاشتراكية؟ علينا أن نستفيد من تجاربنا وتجارب سوانا من شعوب العالم، من أجل ضمان سير نضالنا، اليوم وغداً، في شكله وفي أداته وفي مجراه وفي استهدافاته، في الاتجاه الصحيح الموصل الى الحرية والتقدم، وليس في أي اتجاه آخر نقيض. * كاتب لبناني.