لا يعرفُ المهتمون بالتراث العربي الكثير عن ادب السيرة الذاتية لدى الطبقة العالمة في العصور العربية الوسيطة. وأقصى ما يمكن مثقفاً عربياً متوسطاً ان يذكره في هذا المجال: الاعتبار لأسامة بن منقذ الشيزري نسبة لقلعة شيزر بشمال سورية، والمنقذ من الضلال للغزالي الطوسي من طوس بخراسان، ايران. وفي حين يبدو اعتبار ابن منقذ قصاً سردياً مستلذاً لتجربة حياتية طويلة، من جانب شيخ كبير راض عما انجز طوال عمره، تبدو محاولة الغزالي تربوية واعظة اكثر مما هي اعتراف على طريقة اوغسطين، وإن يكن الهدف التعليمي والتثقيفي واضحاً في الحالين. لكن الاقتصار على "السيرة الذاتية" التي عرفها العصر الحديث بدءاً من سيرة دكتور جونسون لبوزول، وانتهاء بجان جينيه وأشباهه، يوشك ان يحرمنا من التعرف على التجارب الأوسع والأغنى في مجال الآداب العربية المكتوبة. فإضافة الى وجود سير ذاتية غير معروفة، هناك هذا الموشور الواسع من ادب التراجم، وبخاصة تراجم الأدباء وكتّاب ادب السمر، وكتّاب الرحلات، والكتب الأسطورية، وتقارير الاستكشاف والتحدي. ولو تأملنا كتاب الأغاني للأصفهاني بالذات، لوجدنا فيه مئات التراجم لأدباء وشعراء ومغنين، يتضمن اكثرها تقارير شخصية لهم عن حياتهم وأحوالهم، وثقافتهم، وأصدقائهم، وأعدائهم، وطبائع علاقاتهم بالسلطات، وما يشف عنه ذلك كله من نظرات قيمية واجتماعية وفردية. ويتركز الاهتمام لدينا على النظر في ادبيات الشرق العربي والإسلامي. بيد ان ادبيات المغرب والأندلس تتضمن موروثاً غنياً من السير الذاتية، والنظر الذاتي، والاعتزاز الشخصي الكبير. وشخصيتا ابن خلدون ولسان الدين ابن الخطيب مثلان بارزان على ذلك: ابن خلدون في رحلته شرقاً وغرباً، وابن الخطيب في كل كتبه تقريباً، حتى ما كان منها تاريخياً موضوعياً مثل الإحاطة في اخبار غرناطة. وفي حين استولت على "ادب الرسائل" بالمشرق صنعة وتقاليد ضاءلت من شخصية الكاتب الى حد كبير، نجد ذلك المزاج الشخصي القوي في رسائل المغاربة والأندلسيين، وبالذات ما دخل منها في باب الإخوانيات والعلاقات الشخصية، وتجارب الحياة. فكيف يمكن النظر الى رسالة ابن حزم في الحب المسماة: "طوق الحمامة في الألفة والأٌُلاّف" إن لم يكن بمنظار السيرة الذاتية. ثم ان لكل حرفة آدابها، وآداب الكتابة تسود وتغلبُ حتى في السيرة الشخصية، وإلا فلماذا يكتب هذا الكاتب او ذاك في الأدب الشخصي والفردي إن لم يكن يعتقد انه متفرد وأنه يريد ان يعرض ذلك التفرد على قرائه ومعاصريه؟ هناك اليوم أدب عالمي ضخم في المذكرات والسيرة الشخصية، وفي حين لا يزال السياسيون ورجال الدولة يكتبون دفاعاً عن انفسهم او إظهاراً لإنجازاتهم، فإن الأدباء والقصصيين يكتبون احياناً خضوعاً للذة السرد، او مضياً مع تقليد العقود الأخيرة: حكاية البطل الخائب او الذي يكمن تميزه في خيبته او فشله! وهذا ما نجده لدى العرب في سيرة "غربة الراعي" لإحسان عباس مثلاً، في حين يمتلئ كاتبو المذكرات والسيَر الشخصية من السياسيين والمثقفين العرب إعجاباً بذواتهم وإنجازاتهم.