ضمن اطار الاستنكاف العربي والإسلامي المعروف عن الاهتمام بالفرد والعناية بالذات، نعرف ان التراث الفكري والكتابي عندنا لم يخلف الكثير من الأعمال التي تنتمي الى السيرة الذاتية، أو حتى الى السيرة في شكل عام. وفي التراث العربي، حين يجرى الحديث عن النوع الكتابي المعروف بالسيرة فإن المعني بذلك يكون الكتب والنصوص التي تتحدث، بالتحديد، عن سيرة الرسول ص. أما السيرة والسيرة الذاتية فإنهما شبه غائبتين، اللهم إلا إذا اعتبرنا "سير" الأدباء وغيرهم من العلماء التي ترد مقتطفات في أعمال موسوعية مثل "وفيات الأعيان" أو "طبقات الشافعية" أو "شذرات الذهب" أو حتى "معجم الأدباء" و"الأغاني" من ذلك النوع، علماً أن هذه النصوص القصيرة، تتحدث عن كتابات الأدباء والمعنيين بالأمر ونادراً ما تهتم بالربط بين حياتهم وكتابتهم. الذات والفرد غائبان الى حد كبير، إذاً، ومع هذا لم يخل الأمر من كتب وضعها، أو أملاها بعض من كبار المفكرين والأدباء العرب، عاشت حتى اليوم تحمل سيرهم، أو ما شاؤوا أن يرووه للخلف من تلك السير. وحتى هنا قد يغلب الطابع التبريري كما في "المنقذ من الضلال" لأبي حامد الغزالي، أو طابع التسجيل المسهب للترقي العلمي كما في سيرة ابن سينا التي أملاها على الجوزجاني. وحتى خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث ازداد عدد كتب السيرة، في شكل ملحوظ، وصار لكل مفكر أو كاتب أو عالم سيرة كتبها بنفسه أو أملاها أو أوصى بها، ظل الطابع التبريري غالباً، حيث ظللنا نفتقر الى ذلك النوع البوحي القريب من أدب الاعترافات، في حديثه الصريح عن الذات، في صعود أحوالها وهبوطها. ومن هنا يقف كتاب "التعريف بابن خلدون ورحلته شرقاً وغرباً" فريداً من نوعه في هذا المجال. والكتاب على رغم عنوانه، كتبه ابن خلدون عن نفسه... وباستفاضة وصراحة جعلت الدكتور علي عبدالواحد وافي، أحد أفضل محققي "المقدمة" في النصف الثاني من القرن العشرين، يتحدث عن الكتاب قائلاً: "صحيح انه قد سبق ابن خلدون في هذا الفن كثير من مؤرخي العرب وأدبائهم... ولكن هؤلاء وغيرهم ممن تصدوا قبل ابن خلدون للترجمة عن انفسهم، قنعوا بتراجم موجزة. أما ابن خلدون فهو أول باحث عربي يكتب عن نفسه ترجمة رائعة مستفيضة يتحدث فيها عن تفاصيل ما جرى له، وما أحاط به من حوادث، من يوم نشأته الى قبيل مماته"، ويضيف وافي ان ابن خلدون يتحدث هنا بدقة المؤرخ الأمين الحريص على الاستيعاب والشمول. وبذلك تدخل هذه الترجمة، بحسب وافي "من بعض نواحيها في الفن التاريخي الذي اشتهر باسم الاعترافات". مع هذا لا يفوت الدكتور وافي أن يلفتنا الى ان ابن خلدون لا يقتصر في كتاب "التعريف" هذا على تاريخ حياته، بل "يذكر كذلك كثيراً مما يتصل بهذا التاريخ من حوادث ووثائق وخطب ورسائل وقصائد، ويصف أحوال كثير من المجتمعات والنظم التي كانت له بها علاقة، ويصور أحوال العصور التي اجتازها أحسن تصوير، ويترجم لمعظم من عرض لذكرهم في كتابه". كتاب "التعريف" الذي ألحقه ابن خلدون بكتاب "العبر"، واقفاً عليه نحو مائة صفحة في آخر المجلد السابع من سفره التاريخي الكبير، انتهى من كتابته، كما يبدو أول العام الهجري 797، حيث يختم النص قائلاً: "ولزمن كسر البيت، ممتعاً بالعافية، لابساً برد العزلة، عاكفاً على قراءة العلم وتدريسه، لهذا العهد، فاتح سنة سبع وتسعين... والله يعرفنا عوارف لطفه، ويمد علينا ظل ستره، ويختم لنا بصالح الأعمال، وهذا آخر ما انتهيت اليه". والحال ان ابن خلدون بعدما وصل الى هنا، عاد خلال السنوات التالية وأضفى على "التعريف" تعديلات وزيادات، أوصلت أحداثه - الخاصة والعامة - التي يرويها الى نهاية العام الهجري 808، أي الى ما قبل وفاته بشهور قليلة. والحال ان عرض كتاب "التعريف" لن يكون أكثر من استعادة لسيرة ابن خلدون نفسه، منظوراً اليها من وجهة نظره. ولعل التوقف عند بعض الفقرات الأساسية في الكتاب، يكون كافياً للاطلاع على ابعاده. ففي فصل مبكر يتحدث فيه ابن خلدون عن نسبه، يقول: "وأصل هذا البيت من اشبيلية، انتقل سلفنا - عند الجلاء وغلب ملك الجلالقة ابن ادفونش عليها - الى تونس في أواسط المئة السابعة. ونسبنا هو: عبدالرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن ابراهيم بن عبدالرحمن بن خلدون. ولا أذكر من نسبي الى خلدون غير هؤلاء العشرة، ويغلب على الظن انهم أكثر، وأنه سقط مثلهم عدداً، لأن خلدون هذا هو الداخل الى الأندلس، فإن كان أول الفتح فالمدة لهذا العهد سبعمئة سنة، فيكونون زهاء العشرين. ثلاثة لكل مئة. ونسبنا الأصلي حضرموت، من عرب اليمن، الى وائل بن حجر، من اقيال العرب معروف وله صحبة. ولما دخل خلدون بن عثمان، جدنا، الى الأندلس، نزل بقرمونة، في رهط من قومه حضرموت ونشأ بين بنيه بها، ثم انتقلوا الى اشبيلية". وفي فصل تال يتحدث كاتبنا عن حياته في غرناطة واشبيلية فيقول: "ثم خرجت الى غرناطة، وكتبت الى السلطان ابن الأحمر ووزيره ابن الخطيب بشأني. وليلة بت بقرب اشبيلية على بريد منها، لقيني كتاب ابن الخطيب يهنئني بالقدوم. ثم أصبحت من الغد قادماً على البلد، وذلك ثامن ربيع الأول عام أربعة وستين. وقد اهتز السلطان لقدومي، وهي لي المنزل من قصوره ... وأركب خاصته للقائي ... ثم دخلت عليه فقابلني بما يناسب ذلك وخلع علي وانصرفت.... وسفرت عنه سنة خمس وستين الى الطاغية، ملك قشتالة يومئذ، تبره بن الهنشة بن أذفونش، لاتمام عقد الصلح ما بينه وبين ملوك العدوه... فلقيت الطاغية باشبيلية، وعاينت آثار سلفي بها، وعاملني من الكرامة بما لا مزيد عليه وأظهر الاغتباط بمكاني، وعلم أوليّة سلفنا باشبيلية فطلب الطاغية مني حينئذ المقام عنده وأن يرد علي تراث سلفي باشبيلية، وكان بيد زعماء دولته، فتفاديت من ذلك بما قبله...". وفي فصل ثالث يتحدث ابن خلدون عن لقائه تيمورلنك فيقول: "قلت أيدك الله، لي اليوم ثلاثون أو أربعون سنة أتمنى لقاءك! فقال لي الترجمان عبدالجبار: وما سبب ذلك؟ قلت أمران، الأول انك سلطان العالم، وملك الدنيا، وما أعتقد انه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد ملك مثلك، ولست ممن يقول في الأمور بالجزاف، فإني من أهل العلم وأبين ذلك فأقول: انما الملك يكون بالعصبية، وعلى كثرتها يكون قدر الملك. واتفق أهل العلم من قبل ومن بعد، ان أكثر أمم البشر فرقتان: العرب والترك. وأنتم تعلمون ملك العرب كيف لما اجتمعوا في دينهم على نبيهم. وأما الترك ففي مزاحمتهم لملوك الفرس، وانتزاع ملكهم أفراسياب خراسان من ايديهم شاهد بنصابهم على الملك. ولا يساويهم في عصبيتهم أحد من ملوك الأرض... وأين الفرس من الترك؟.... ابراهيم العريس