ثمة من يقول إن الانشقاق اللبناني حول تعديل الدستور والتمديد نقاش زائف، إذ الموضوع الفعلي مداره قرار مجلس الأمن، ومن ثم التدخل الأميركي والغربي. وهذا الكلام الخاطىء لا يغدو "صحيحاً" إلا في حالة واحدة: لو كان اللبنانيون، أو أكثرهم، مُجمعين، بحرية، على أن مشكلتهم الأم، التي لا مشكلة سواها، هي مقاتلة النفوذ الأميركي والإسرائيلي. وهذا ما لم يكن، ولن يكون، إجماع حوله لسبب بسيط هو أن غالبية اللبنانيين، مثل غالبيات شعوب الأرض قاطبة، بشر أسوياء وليسوا بشراً إيديولوجيين. وحتى لو آلت بهم ظروف الحرب ورضّتها الى ارتضاء ما يتناقض مع الحياة المستقلة والسوية، كبقاء قوات أجنبية وبقاء ميليشيا مسلحة، فان انقضاء عقد ونصف العقد كافٍ للتغلب على تلك الظروف والرضّة. فإما أن تلك المرحلة الفاصلة أسست لحياة مدنية طبيعية، وهذا يجيز تعديل ما فرضته الحرب وظروفها، وإما أنها لم تؤسس تلك الحياة المدنية، وهذا يعني فشل نظام الرعاية الاقليمية في إنشاء نصاب طبيعي. لكن الذين يقولون إن المشكلة تدور حول تعديل الدستور، ومن ثم الخضوع لإرادة خارجية، هم أسرى ذاك الابتزاز القومي والايديولوجي الذي ينجح أصحابه في ممارسته، لا بسبب أفكار صاعدة يحملونها، ولا نتيجة نجاحات باهرة حققوها، بل تبعاً لقوة خرافية تتمتع بها الرواية القومية والايديولوجية التي لا تُمتحن على واقع حي. وقوة خرافية كهذه، وهي ما لا يُقاوَم الا بالانشقاق الراديكالي عنها، هي ما تجعل خصومها الكثيرين يُصابون بالبلبلة والارتباك عند المنعطفات الحاسمة. مثل هذا عرفته في بداياتهما حركتا الانشقاق السوفياتي والبولندي، حيث وُجد قلة من المنشقين أنفسهم مُحيّرين بين الماركسية-اللينينية، إيديولوجيا السلطة التي شبّوا عليها، وبين وعي وطني ديموقراطي جديد يقطع معها. وحينما غزا صدام حسين الكويت، كانت أضعف الحجج حجة بعض الكويتيين الذين أصرّوا على أنهم هم، وليس صدام، من يمثل "العروبة الحقة" و"صحيح الإسلام"، ومن يريد فعلاً "تحرير فلسطين"، رافضين طرح المشكلة كما هي فعلاً: مشكلة حق تقرير مصير لوطن يتعرض لاجتياح وغزو. ذاك أن هذا التشارُك في أصل ايديولوجي واحد، مفروض جزئياً وجزئياً متوارث من دون أي تعريض للنقد أو للواقع، هو من قبيل لعب الضعيف على ملعب القوي الأقدر دائماً على الاستفادة من أيديولوجيا هي، تعريفاً، أداة من أدوات سلطته. فإذا كان فعلاً الانتصار لسورية، أو بالأحرى لنظامها الحاكم، ولما تبقى من صراع عربي-اسرائيلي، هو مهمة المهمات التي ينبغي لأجلها أن يُضحى بالديموقراطية والاقتصاد والرفاه والتعليم والصحة، وبالكرامة الشخصي منها والوطني، كما ينبغي لأجلها تحمّل الاستبداد والفساد والهجرة وغير ذلك من آفات يعانيها اللبنانيون اليوم، إذا كان هذا صحيحاً، صحّت حجة القائلين ان الانشقاق الفعلي هو حول قرار مجلس الأمن، وبات على الآخرين الانضباط، والانضباط وحده، في المواقع التي تُحدد لهم. ولنقل بصراحة جلفة جلافة الوضع الراهن إن كل كلام حول الجمع بين تلك المهمة القومية العصماء وبين الديموقراطية والتقدم هو وهم، عند الصادقين من دعاة الجمع، وهو خداع عند غير الصادقين منهم، وهم الكثرة الكاثرة و... الكاسرة. فليست ثمة قرينة واحدة، لا في الحاضر ولا في الماضي القريب، على نجاح ذاك الجمع، لا سيما عندنا، وخصوصاً في ظل إمساك العسكر وأجهزة الأمن بالمقدّرات. لهذا، وأخذاً بعين الاعتبار مأزق الوعي والسلوك الحريريين نموذجاً، يُستحسن رفع الكلام، إن بوصفه إنشاء أو بوصفه مفاهيم، الى صعيد أرقى وأوضح وأقل قابلية للابتزاز المذكور، من دون أن تصل الى سوية الوعي والسلوك العونيين كنموذج مقابل. فليس في خطة أحد أن ينصر الولاياتالمتحدة، ناهيك باسرائيل. الا أن موضوع اللبنانيين هو الانتصار للبنان، أي لوطنية دستورية ولعدد من القيم يفضّل الجميع أن تتلاقى مع سورية ومصالحها والقيم السائدة فيها. أما إذا لم تتلاقَ، وكان السبب مرده الى نظام عسكري وعقائدي تشكّل الأزمة جزءاً تكوينياً منه، كانت الأولوية لتلك القيم، وجاز التساؤل، بالتالي، عن سر ذاك الزواج الحتمي بين المشروع القومي وبين قيم وعلاقات هي دائماً ذات طبيعة كابوسية!. والحال أن النقاش اللبناني يستأنف نقاشاً عرفه تاريخ الصراع بين الوعيين، الديموقراطي الذي يمنح الأولوية للعناصر الداخلية ويجعلها الحكَم في تقدير السياسة وتقريرها، والاستبدادي الذي تتجه أولويته الى العنصر الخارجي من تصدّ لعدو أو إحباط لمشاريع الى آخر المعزوفة. لكنْ حتى بهذا المعنى، غدت الحجة الاستبدادية في لبنان أضعف وأوهن بعد الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب، وبعد امتحان نظام "الرعاية الاقليمية" طوال عقد ونصف العقد، فيما الراعي الاقليمي يتبع منهجاً مواظباً في الامتناع عن خوض المعركة القومية التي يُفترض أن يمضي المَرعيّون في خوضها. وعلى النحو هذا، يُسبَغ على مزارع شبعا، التي أُكسبت قامة أسطورية، أن تحرر هضبة الجولان. وكم يبدو هذا الانشطار الداخلي/الخارجي ساطعاً حين نربطه برموزه وتعابيره: ذاك أن دعاة الأولوية الخارجية يريدون إبقاء الحدود الدولية مفتوحة وسائبة، كما يريدون إبقاء السلاح في أيدي أطراف غير شرعية لأنها "مقاومة" لاحتلالٍ جلا عن الوطن. وغني عن القول ان هذا "البرنامج" لا يمكن الا أن ينعكس انعكاساً مدمراً على استقرار الحياة السياسية، كما على أي ازدهار لا يتحقق الا بفضل الاستقرار واجتذاب الرساميل. ومن ثم، فهو النقيض الجذري لتحسين أوضاع اللبنانيين العامة اقتصاداً وتعليماً وطبابة وغير ذلك. فكأنما الطرف الأول متلهّف لتثبيت الحرب بعدما انتهت، لخدمة أغراض لا يمكن أن تمتّ بصلة لتقدم شعبٍ، أي شعبٍ، خارج من الحرب وغير راغب في تأبيدها، ولا في تحويلها نظاماً حاكماً لحياته. ولا يستطيع المراقب أن يطرد من ذهنه المقارنة مع الحالة الصدّامية في العراق، حيث طالب دعاة الأولوية للاعتبار الخارجي بالوقوف مع الحاكم المستبد لمجرد انه "يقاوم" أميركا، علماً بوجود إجماع، يطالهم هم أيضاً، على أن صاحب المقابر الجماعية سوف يُهزم حكماً في مقاومته. لقد تم ارتكاب الخطأ اللبناني المولّد للأخطاء التالية في 1975، حين غلّب البعض مقاتلة أميركا وإسرائيل على تطوير وطنية ديموقراطية لبنانية، وتعزيز الرفاه الذي كان متحققاً عهدذاك. يومها ظن الأفضل بين هؤلاء أن في الامكان الجمع بين المهمتين، فلم تبرهن السنوات الآتية الا سخف الافتراض هذا وعبثيته. فما تم، في المقابل، أن مصالح عدد من الميليشيات الطائفية وعدد من الدول والقوى الخارجية طغت على مصالح دولة ومجتمع لبنانيين لم يُقيّض لهما، حتى اليوم، التعافي. وأبعد من هذا، أن المسافة قد وُسّعت بين لبنان وبين الحداثة بعدما كان يقف، في 1975، في مكان وسط بينها وبين التخلف، قابلاً للدفع في أي من الاتجاهين. لكن إذا جاز التوهّم عهدذاك، وثمة ثورة فلسطينية صاعدة، واتحاد سوفياتي "حليف"، وآمال عريضة تضرب جذرها في شبابية الستينات والسبعينات، فالتكرار اليوم مدعاة لتجديد الشك بالبعض الأكبر ممن يكررون، وللقلق على بعضهم الأصغر. وفي مقابل هذا الخيار الذي لا يعبأ بحياة البشر واقتصادهم وتعليمهم وصحتهم وكرامتهم وطموحاتهم، يبدو اليوم أن الخيار الآخر، الذي يبحث بصعوبة عن لغته المكافئة، هو التالي: إما هذه الرابطة القومية وإما الحياة والحرية والتقدم. ذاك أن السلطنة وهي تحتضر لا تفعل الا إطالة ربع الساعة الأخير بتكثير الضحايا "الأخوة"، ممن كانوا ضحايا مجدها قبل أن يغدوا ضحايا انحطاطها.