بالطبع ليس السجال حول الديموقراطية في العالم العربي جديداً، إلا أن أجواء ما بعد 11 أيلول سبتمبر واستخدام موضوعة الديموقراطية حيال العراق، أعادت تحريكه مصبوغاً بعواطف حادة. وجاء الحكم العشوائي على سعد الدين ابراهيم، والتحديد الذي لا يقل عشوائية لسجن حسن الترابي، يرشان مزيداً من الزيت على نار متأججة. والظن بأن جورج بوش مولع بالديموقراطية في العالم العربي ليس، بطبيعة الحال، غير ضرب من سذاجة. فالرئيس الأميركي قد لا يكون مولعاً بها في بلده نفسه، هو الذي فاز بطريقة قابلة للطعن بعدما دخل السياسة، أصلاً، من باب سلالي. وإذا وضعنا جانباً طاقته الذهنية التي لا ترشحه لإدراك فضائل الديموقراطية وتعقيداتها، بقي ان المال لم يتدخل في السياسة - وهذا من تشوهات الديموقراطية المتزايدة - كما فعل معه ولمصلحته. لا بل يبدو أحياناً، وبما تنضح به طبقات النفس الخفية إذ لا تشذّبها الثقافة، كما لو أن بوش يريد معاقبة العرب بالديموقراطية مسيئاً اليهم واليها معاً. وهذا ليس مبالغة محضة أو صورة يرسمها خيال إستعاري. فهذا الذي تربى في عهدة أفكار تختلط فيها استقلالية الجنوب الأميركي وحريته حتى في ممارسة العبودية، باستقلالية الرأسمالية وحريتها في السعي والحركة وتنقيب الأرض وتلويث السماء، يمكن أن يرى الديموقراطية - وهي أيضاً قيود والتزامات - عقاباً. ذاك ان في بوش شيئاً من فوضوية يمينية، وكل فوضوية تناهض الدولة والديموقراطية، يجعلها طبعه الشخصي الذاهل عصية على كل موضعة أو تعيين. فكأنما الاضطراب والضجر اللذان يرشح شخصه بهما لا يستقران إلا في اضمحلال الروابط واندثار الأمكنة وتحديدها والأفكار وتركيزها. والديموقراطية، مثلها مثل باقي القيم الاجتماعية والسياسية الحديثة، مرسومة بأضلاع الروابط والأفكار والأمكنة. وحتى لو افترضنا ان الرئيس الأميركي مولع بها، وأنه صادقاً يريدها للعرب، فما هكذا تورد الإبل. فالأمر، كما تعرف أكثرية الديموقراطيين الساحقة، ليس انقلاباً يحدث بين ليلة وضحاها من فوق، ومن خارج، وقد يجيء محمولاً بالحرب على متن طائرات ودبابات. وكثيرون من قدموا قبلاً اقتراحات وجيهة تؤول الى تسريع التحول الديموقراطي في العالم العربي، مما يصعب وروده في ذهن الإدارة الأميركية. من ذلك ما يتعلق بسياسات اقتصادية واستثمارية تعرّض طبقاتنا الوسطى وتوسّعها، ومنه تجديد العمل وصولاً الى حل متوازن في المنطقة يهدئ الأعصاب المتوترة، ومنه الضغط على الحكام كي لا يتطاولوا على المجتمعات المدنية ورموزها، ناهيك عن اقتراح خطط تدريجية وتصاعدية للتمثيل الشعبي وأخرى، تدريجية أيضاً، لاصلاح التعليم وتحديثه. لكن هذه مشكلة العرض. أما مشكلة الطلب فمن نوع آخر. ذاك أن الردود العربية على دعوات واشنطنالجلفة، والتي يكتمها حكامنا ليعلنها كتّابنا، تتوزع على آراء يحكمها عقل النكاية القَبَلي. فثمة من قال ان الديموقراطية بذاتها خطأ واجداً برهانه في "انحطاط" الغرب و"تفسخه"، ومن قال متفاخراً بخصوصية ما ان الديموقراطية بذاتها لا تصلح لنا، ومن قال بدرجة أعلى من الاعتداد اننا لسنا بحاجة اليها جملة وتفصيلاً. وهذه حجج، فضلاً عن عتقها، سخيفة يرطن بها أصوليون وقوميون من صنف أحفوري. بيد أن الحجة التي تقول ان أميركا والغرب هما من يقمع الديموقراطية عندنا لتعارُضها مع مصالحهما فتبقى الأوجَه لكونها الأكثر التباساً. فهي، ومن غير أن تكون جديدة، تظهر على شيء من الحداثية التي تدرك أهمية الديموقراطية وأهمية المصالح، فتخلط بعضاً من القومية ببعض من اليسارية وتعقدهما بمسحوق السياسة الواقعية. والأمر ما كان ينبغي أن يكون ملتبساً إذ لا تاريخ القومية يفيض ديموقراطيةً ولا تاريخ اليسار. غير أن الالتباس هنا لا يعني سوى إكثار العناصر ضداً على العنصر الواحد الفقير الذي تقتصر عليه الحجتان القومية والأصولية الصافيتان. ومثل هذا الإكثار ما يجعل المنطق القومي - اليساري - "الريال بولتيكي" قابلاً للنقاش. فهل فعلاً تتعارض مصلحة أميركا إن لم يكن الغرب كله مع قيام ديموقراطية عندنا؟ الذين يقولون نعم لا يعدمون الشروح. ذاك ان الديموقراطية، ومن خلال الانتخابات، ستأتي بقوى أشد راديكالية، وهذه ستصطدم باسرائيل وبالسياسات النفطية المعمول بها التي يفيد منها الغرب وشركاته. وهذا، بادئ ذي بدء، ينطوي على تفريغ تاريخي للنقاش وتجويف ثقافي. فهو يرهن قضية الديموقراطية ب"العلاقات" بين العالم الثالث والولايات المحدة، أي "بيننا" و"بينهم"، ولا يقرأها، أولاً، بقواها وأفكارها وتاريخها. فعلى رغم الأهمية الكبرى لتلك العلاقات - وموقع جورج بوش في هذه الحدود ليس عاملاً مساعداً - يبقى الانطلاق منها والرجوع اليها قابلاً للوقوع في الجوهرية واللاتاريخية. فما دامت الضدية المتبادلة مما لا بد منه، أحيل التاريخ الذاتي واحتمالاته، الى صفر أو يقاربه. وهذا ما قد يسمح لبيئة نضالية تتلقى الأفكار فتحيلها شعارات، بأن تردد ان ديموقراطيتنا كانت لتتجلى في أنصع مظاهرها لو أن الغرب كف عن دعم حفنة من أعداء الديموقراطية عندنا. والحال ان سجال الديموقراطية لا يستقيم إلا بتحريره من الارتهان للنزاع مع الغرب، على صعوبة ذاك الآن: بسببنا كما بسبب بوش. ذاك ان الارتهان هذا يدمج مستويين - متقاطعين بالضرورة غير أنهما مختلفان - في مستوى واحد، كيما يعيد تدوير موضوعة الديموقراطية كموضوعة قومية. وأبعد من هذا ان المنطق قيد التناول ينطوي على شيء من بوشية مقلوبة. فهو يفترض ان الديموقراطية إما ان تموت عندنا بسكين الغرب، على ما هي الحال الآن، أو ان تنهض وتهبّ هبة الرجل الواحد ضد الغرب. وهذا الافتراض الرؤيوي، حيث تغيب الظروف والتحولات والقوى والأفكار، يتجاهل الإعداد الاجتماعي والمجتمعي الذي يسبق الديموقراطية. ففي حال كهذه لا بد من التوصل الى اتفاق بين القوى المعنية على إزالة الاحتقانات وترسيم حدود اللعبة وكيفياتها ومراعاة المصالح الاقتصادية للمجتمع، ناهيك عن توفير بداهة الديموقراطية الأولى وهي تساوي المواطنين جميعاً كائنة ما كانت آراؤهم ومعتقداتهم. وغني عن القول ان ظروف التعبئة القومية تجعل تلبية شرط أولي كهذا مستحيلاً، فالشعب لا يتألف في ظلها من "مواطنين" بل يغدو "وطنيين" و"عملاء"، و"أخوة" و"رفاقا" و"أعداء"، وهي أوصاف لا تصف أفراداً معزولين عن اجماع عريض، بل تطال جماعات دينية واثنية وايديولوجية في العالم العربي. ولم يكن لينين أقل من عبقري حين افتتح نشاطاً غير آيل الى الديموقراطية بتعريف "من هم أصدقاء الشعب ومن هم أعداؤه". هكذا يتبدى أن السيناريو المذكور يرى الديموقراطية ثمرة أزمة عامة، بحيث ما أن يُعلن عنها حتى يُنتخب دعاة التصدي للواقع. والديموقراطية، بالعكس، ثمرة استقرار إلا في حالات استثنائية انتجت كوارث كالنازية الألمانية في 1933، والاحتراب الجزائري بعد انتخابات 1990 - 91 البلدية والنيابية. والأهم ان المنطق ذاك لا يعنيه قياس الديموقراطية بدولة بعينها ولا بالاستجابة الى اسئلتها المحددة. فطرح العلاقات النفطية على المحك يكون ديموقراطياً حين يصدر عن بلد نفطي تشعر حكومته المنتخبة بالغبن في سياسات التسعير، على ما كانت حال ايران في 1953. لكنه لا تجمعه مطلق صلة بالديموقراطية حين يكون مطلب دولة أخرى غير نفطية في ما خص دولة نفطية غيرها. وتعلمنا التجارب، ولو أن جميع المعنيين غير منتخبين، ان هذا المطلب كانت ترفعه دائماً الحكومات التي لا تملك دولها الثروة من أجل تطبيقه على دول تملك الثروة ولا تتذمر شعوبها من وضعها الاقتصادي. فهذا ما رأيناه في حرب اليمن الستينية التي وضعت مصر على مقربة من آبار النفط الخليجي، كما رأيناه في غزو الكويت أوائل التسعينات وكان العراق يعاني، على رغم ثرائه النفطي، افلاس حرب الخليج الأولى. أما سورية، وقبل أن تعثر على بئر واحدة في أرضها، فكانت من أطلق شعار "بترول العرب للعرب". والمعروف ان السلوك هذا له اسم أخلاقي أكثر منه سياسياً أو اقتصادياً، لكن المعروف أكثر أن أسعار النفط ارتفعت أربعة أضعاف خلال 1973 - 74 مؤدية الى ركود غربي ضخم ومديد من دون أن تأتي البوارج والطائرات فتحتل آبار النفط. وهذا ما يعني أن مفهوم المصالح، وهي دائماً مشتركة ولو اختلفت النسب، قابل للتعديل والتكيف قابليته للتأثر بعناصر أخرى منها طبيعة الرأسمالية وفي عدادها الأدوار المتضاربة للثقافة والإعلام والرأي العام وغير ذلك. وذلك ما لا يدركه التصوير الآحادي للمصالح والذي نتساءل بموجبه لماذا تتحرّق جمهوريات آسيا الوسطى بحثاً عن شركات تنقّب عن نفطها وتنقله الى الخارج، أكثر مما تتحرق الولاياتالمتحدة التي تتوق شركاتها، هي الأخرى، الى ذاك النفط والى أرباحه؟ أو لماذا ناضلت الصين لدخول "منظمة التجارة الدولية" فيما العلاقات الناشئة عن عولمتها لا تعود بالنفع إلا على طرف واحد هو، حكماً، غير الصين؟ وهذا لئن لم يلغ، ولن يلغي، الضغط الذي من أجله نشأت منظمات ك"أوبيك"، غير أنه يدرجه في سياسات دول ومنظمات، فلا يبقى ديربانياً، أي مشاعاً للبعيد والقريب. والشيء نفسه يقال عن محاكمة الديموقراطية انطلاقاً من النزاع مع اسرائيل. فالموضوع يثير بالتأكيد أوسع الغضب العربي إلا أن تحويل النزاع المذكور الى أهم محاور الحياة السياسية في الأردنولبنان كلّف البلدين حربين أهليتين وكلّفهما معظم ما كان قائماً فيهما من سياسة واجتماع متمدن. فلم يكن ممكناً مثل هذا التحويل إلا عنوة وقسراً على حساب الهموم الفعلية للمجتمعين مما وجدت الديموقراطية للتعامل معه. فالأخيرة ليست "الشارع" ولا "الشارع" ركيزتها، على ما يُظن، بل هي بالضبط نزع الشارع وادراجه في مؤسسة أو مؤسسات. ولربما جاز اختصار المعضلة العربية التي قد تؤول الى انسداد الباب كلياً بيننا وبين الحداثة، في ان الديموقراطية تستدعي تسريح "الشارع" فيما القومية تستدعي استنهاضه وتكتيله. لذا يتبدى أن استيلاد الديموقراطية من قضايا عاصفة غير قضاياها الأساس هو، فضلاً عن كونه وهماً، انحياز لتلك القضايا العاصفة على حساب الديموقراطية والبلد المعني. وهو ما يذكّر بحالات يسارية أوروبية شاءت، في الستينات والسبعينات، الحاق بلدانها بمسائل عالمثالثية تجاوزاً لهامشيتها في تلك البلدان. وفي الحالتين ينم إكثار العناصر التي تقوم عليها الحجة الراديكالية عن فقر التمثيل، لا بل عن التضارب مع استقرار تمثيلي وديموقراطي ممكن. وبالعودة اليها، فالولاياتالمتحدة قد تتعارض فعلاً مع الديموقراطية في ذاك البلد وهذه الفترة وتلك الإدارة، وقد لا تتعارض، أو تتعارض على نحو مختلف، في حال تغيّر أي من العناصر المذكورة. والموضوع، في النهاية، اننا لم نصل بعد الى امتحان رغبة اميركا في الديموقراطية وليس في النفط والصراع العربي - الاسرائيلي. إذ في مقابل ايران 1953 وحالات كثيرة عالمثالثية وليست عربية غواتيمالا 1954 وصولاً الى تشيلي 1973، تحضر حالات عربية كثيرة محمّلةً بدلالات مغايرة. فلا تُحصى الأنظمة و/أو القوى البرلمانية ونصف البرلمانية أو حتى ربعها مما أطيح لبنان، محمد نجيب، نوري السعيد، البرلمانية السورية... على يد قوى راديكالية على اختلاف النوع لكنها أقل ديموقراطية وقرباً من الغرب. وكان في وسع الحركات المناهضة للسياسة الغربية الناصرية، البعث، المقاومة الفلسطينية، جبهة التحرير الجزائرية ان تدقرط نفسها ومجتمعاتها وتوفر دليلاً صالحاً على أن الديموقراطية تترادف ومناهضة تلك السياسة. إلا أنها فعلت العكس ف"حدّثت" القمع الذي تعرفه الأنظمة العشائرية العربية، بل لم تجرّب أصلاً ما تجربه الآن دول كقطر والبحرين، أو ما يحاوله، كلما هدأت الرياح الاقليمية، بلد كالأردن. فحين حصلت الثورة الشعبية الوحيدة في الشرق الأوسط، أي الثورة الخمينية، جاءت ترفع لواء الدين لا الديموقراطية، وتعادي الغرب والمرأة والاصلاح الزراعي، فضلاً عن الشاه. وهذه ليست مجرد صدف إلا لمن يريد تجاهل التناقض العميق بين إيلاء الأولوية للمسألة الديموقراطية وامتداداتها امتصاص النزاعات الداخلية الكثيرة، تنمية واستثمارات، تحرير للمرأة، وحريات للإعلام والأحزاب، ومجتمع مدني، وبالأساس دولة - أمة ومن يريد اعطاء الأولوية للصراع مع عدو ما وامتداداته انفاق على السلاح واستنزاف للموارد ثم فقر "جماهيري"، اقتتال أهلي في ظل ولاء لأقانيم ايديولوجية، كبت للإعلام والأحزاب والآراء، حجب لقضية المرأة، منع لتشكل المجتمع المدني. وتاريخ العقود الأخيرة لا يزخر بشيء زخره بالأمثلة على استحالة التوفيق، خصوصاً أن ثمة قطاعات جماهيرية واسعة جداً لبنان، السودان، وهي في بعض البلدان العربية قطاعات أكثرية العراق...، تخالف جملة وتفصيلاً هذا التعريف السائد ل"المسألة القومية". والآن يقدم السودان امتحاناً صعباً لدعاة التوفيق: فهل تمنح الرؤية الديموقراطية أولويتها لحل النزاع الأهلي المديد والمدمر، أم تمنحها لاستجابة الرغبة "القومية" أي المصرية كما أن "القومية" في لبنان تعني السورية ولا يُترك للبنانية إلا أن تتكنّى ب"القطرية" التي لها "الساحة" و... الله. ومنذ قرن وربع قرن أخذ فرح انطون على جمال الدين الأفغاني تهافت الجمع بين رغبته في الحرية والتقدم ودعوته الى جامعة اسلامية. وانتهى جمال الدين، فعلاً، لا من هذا ولا من ذاك. لكن يُخشى أن يحملنا النقاش، إذ يفرضه علينا جورج بوش، الى مكان كريه لا يشبه المكان الكريم الذي انتهى اليه جمال الدين. والكراهة من شقين: أولاً، أن نبالغ، مأخوذين بالخلاف السياسي في فصل الديموقراطية عن تربتها ومهدها التاريخيين، أي الغرب، بدل الميل العميق الى تضييق الخلاف كي لا يصير نهباً للشارع وتخرج من قمقمها مواضٍ تجمع القداسة الى العفن، بينما يصير كلامنا عن الديموقراطية مقطوعاً عن مرجعيات الديموقراطية ومراجعها. والثاني، أن ينشأ، وهو ناشىء، تماهٍ مع أنظمتنا وحكامنا وملاّتنا وضباطنا دعماً لصمودهم. والأخيرون حقاً صامدون في وجه أميركا، إلا أنهم أيضاً صامدون في وجوهنا. * كاتب ومعلّق لبناني.