على رغم محاولات الطمس والتزيين، فالأوضاع الأمنية في العراق المستمرة بالانحدار تشكل حالة حرب. والمغامرة الأميركية هناك تبدو كأنها باءت بالفشل. ذلك لا يعني بطبيعة الحال أن المسألة حُسمت باتجاه الانهيار، لكن لا بد من تشخيص طبيعة الأزمة قبل الشروع باستشفاف الحلول الممكنة. والسؤال البديهي: أي حرب هي؟ هل هي خط المواجهة الأول في الحرب على الإرهاب، كما تؤكد الأوساط الأميركية؟ هل هي حرب توطيد للهيمنة الأميركية على منابع النفط وضمان المصالح الإسرائيلية، كما يرى البعض عربياً؟ أم هي حرب تراجع أميركي عن المشروع الديموقراطي ومحاولة إعادة العراق إلى المنظومة الأمنية العربية الخاضعة للقوة الأميركية، كما يرى البعض عراقياً؟ وهل هي حرب أهلية عراقية يستفيد أطرافها من تورط الجهات الخارجية؟ أم مواجهة بين الولاياتالمتحدةوإيران على الأرض العراقية وبدماء عراقية؟ أي: هل هي حرب عراقية إيرانية ثانية؟ على رغم أن أصحاب الأدوار الفاعلة على الساحة العراقية كثيرون، فالأطراف الرئيسية للصراع الحالي هي بالفعل أربعة: الاحتلال الأميركي والنظام الإيراني، والمعسكران العراقيان المتحالفان معهما. وبعدما كان المشروع الأميركي سابقاً على قدر من الطموح، فإن ثمة تغييرا جذريا طرأ على موقف واشنطن. فبعدما كان البيت الأبيض متفقاً مع التوجه القائل بأن بغداد سوف تشكل مدخلاً لإعادة ترتيب الشرق الأوسط بما يتناسب مع المصالح الأميركية وما ينسجم، في آن، مع الثوابت المبدئية للولايات المتحدة، وذلك من خلال تحول ديموقراطي يجعل العراق المعقل النموذجي للديموقراطية في المنطقة، فإنه وبعد اتضاح إفراطه في التفاؤل، تحول طاقم عمل الرئيس الأميركي جورج بوش إلى احتواء "الخطأ" فحسب، والسعي إلى تثبيت الأوضاع بالقدر الذي يمنع تأثيرها السلبي على الانتخابات الرئاسية وتبديدها فرصة التجديد للرئيس. فالتركيز انتقل من الأمد الطويل إلى الأمد القصير، بحيث تقدمت الاعتبارات الدعائية الآنية على المصلحة الأميركية والعراقية الطويلة الأمد. والمواجهة في النجف تندرج في هذا الإطار. فبعد الإهمال السياسي والأخطاء العسكرية التي أدت إلى تحول ظاهرة مقتدى الصدر من حالة يمكن استيعابها، إلى تيار يهدد الدولة الناشئة في العراق، يبدو أن ثمة إصراراً لدى الجانب الأميركي على عدم تكرار تجربة الفلوجة، والتي أدت فعلياً إلى هزيمة أميركية من خلال استتباب بؤرة أمنية دائمة. فما يغلب على القرار الأميركي اليوم هو همّ تحقيق "النصر" العسكري في النجف، مع اعتبار أقل للتداعيات المستقبلية، شرط التمكن من احتوائها في الأشهر القليلة المقبلة، أي إلى حين موعد الانتخابات في تشرين الثاني نوفمبر المقبل. وهذا ليس تخلياً عن الاستثمار البعيد للتدخل في العراق، لكنه إعادة ترتيب للأولويات، على أن يعاد تقويم التجربة بعد الفوز في الانتخابات، إن تحقق. فالطرف الأميركي اليوم منشغل بأوضاع يكاد أن يقتصر فيها البعد العراقي على التوظيف الداعم، لا التخطيط الهادف. أما الطرف الموالي لواشنطن في العراق، والذي يتجسد في الأجهزة والمؤسسات المتبانية للدولة الناشئة، فقد واجه بسبب التراجع الأميركي النسبي عقبة كما حظي بفرصة في آن: العقبة هي أن التوجيهات الأميركية له والعلاقة بين الطرفين تبقى علاقة تبعية لا شراكة قد تتعارض مع المصلحة العراقية بل مع المنطق أحياناً لانشغالها بإحراز الكسب الإعلامي الفوري. لكن الفرصة هي أن الغياب المؤقت للخطة الأميركية الواضحة يسمح ببروز توجه عراقي على قدر من هامش الحرية. فالحكم العراقي اليوم، وبعد انحسار الحماسة في واشنطن، هو وريث الاندفاع الأميركي تحت شعار إنهاض عراق جديد على أساس الاستقرار وإعادة الإعمار والتمثيل الصادق واللامركزية. وقد يكون هذا الوريث قد تخلى عن بعض مقومات إرثه وأعاد ترتيب أولويات ما تبقى منها، فأصبح التركيز على الأمن والاستقرار والإعمار، غير أنه ما زال باستطاعته التأكيد بأنه صاحب مشروع بناء وطني. أما الطرف العراقي المعارض، لا سيما منه المجموعات المدعومة إيرانياً أو المتعاطفة مع طهران، وهي تشكيلات غير متجانسة لا شكلاً ولا مضموناً تتراوح بين تيار الصدر ومحاولات استجماع "البيت الشيعي"، فإنه غير قادر على طرح الخطة الوطنية الواحدة الواضحة نتيجة لتناقضاته الداخلية، كما لطابعه الطائفي. بل تكاد تقف قدرته الخطابية على إسقاط المشروعية عن نشاط خصمه المتجسد بالحكم العراقي الناشئ، وذلك بتهمة التبعية والخضوع للمشيئة الأميركية، أو بتهمة تحريكه عواطف معاداة البعثية ومعاداة الانضواء في منظومة الأمن العربي. وإذ يتسم الطرف المعارض بالتباين بين مقوّماته، فإن المصلحة الوطنية الإيرانية تبقى واضحة لدى أهل الحكم في طهران، وهي أن استقرار النفوذ الأميركي في العراق يشكل تهديداً. بل أن استقرار العراق وفق الصورة الوردية الطامحة والديموقراطية التي رُسمت له قبيل الحرب وبعيد سقوط النظام، حتى لو رحل الأميركان، يشكل خطراً مبدئياً على نظام الولاية والوصاية القائم في طهران، لا سيما أن التواصل بين البلدين حاصل لا محالة نتيجة التوافد المستمر للزوار الإيرانيين إلى العتبات المقدسة. أما افتراض أن العراق المستقر يشكل جسراً لإيران باتجاه الغرب والولاياتالمتحدة تحديداً، وهو الافتراض الذي يضعه البعض إزاء المقولة السابقة، فيقوم على منطلق تغليب الحكم الإيراني اعتبارات مرحلية بشأن التهدئة مع واشنطن عبر أوروبا مثلاً على الاعتبارات الجوهرية التي تطال طبيعة الحكم والمجتمع في إيران. بل إن المنطق الايراني الراجح هو المفاضلة بين الاستقرار في العراق والاستقرار في إيران، فإما هذا أو ذاك. ثم ان الدعم الإيراني لمختلف فصائل المعارضة العراقية، سواء منها تلك التي دخلت في صدام مسلح مع الحكومة الناشئة، أو التي تخوض مواجهة سياسية معها، أو حتى تلك التي تشارك في الحكم بأقدار متفاوتة من القناعة، ليس دعماً يمكن الركون إليه من باب موازنة النفوذ الأميركي. والصيغة القصوى التي يمكن طرحها هنا أن هذا الدعم بأشكاله المختلفة يشكل حرباً إيرانية جديدة على العراق منعاً لاستقراره. وهي الصيغة التي يسعى البعض في الحكومة العراقية إلى التأكيد على صحتها. غير أن الشرط هنا يبقى في أن لا تستعمل هذه الصيغة لفرض حالة طوارئ معلنة أو غير معلنة تمكّن بعض الأطراف من إلغاء الأطراف الأخرى أو حصرها. ولهذا جميعاً يغدو من المنطقي أن نتساءل: أهي الحرب العراقيةالإيرانية... الثانية؟