عندما باشر الشاعر الألماني ريلكه في ترجمة قصيدة الشاعر الفرنسي بول فاليري "المقبرة البحرية" الى الألمانية في العام 1921 لم يكن يدور في خلده أنّه سيعكف على ترجمة الديوان الذي ضم هذه القصيدة وعنوانه "قصائد ساحرة"، وأن الجهد في الترجمة سيتطلّب منه نحو ثلاث سنوات. أصرّ الشاعر الألماني الكبير على أن يوجد في الألمانية ما يعادل "الصفاء" الذي يتميز به شعر بول فاليري محافظاً على "آثاره" و"لمساته" وموسيقية لغته. وكانت هذه الترجمة في نظره بمثابة "تمرين لغوي" كما عبّر في احدى رسائله. لعلّ ما يذكّر بالترجمة البديعة - كما يقال - لديوان فاليري "قصائد ساحرة" التي أنجزها ريلكه، صدور ترجمة عربية للديوان نفسه وقد أنجزها الكاتب المصري بكر الحلو وتبنّاها "المجلس الأعلى للثقافة" في القاهرة. لكن الفارق شاسع بين الترجمتين، بين ترجمة المانية أبدع فيها أحد كبار شعراء القرن المنصرم و"كتبها" بالألمانية أكثر مما ترجمها، وترجمة عربية أقل ما يقال فيها أنها ركيكة و"خائنة" ومفعمة بالأخطاء الكثيرة. ولم يوضح المترجم في المقدمة الفقيرة جداً التي وضعها، ان كانت الترجمة تطلبت منه وقتاً طويلاً ولا كيف عمل عليها أو أي منهج اعتمد. فهو على ما بدا لم يدرك أسرار اللعبة الشعرية لدى فاليري، ولا طبيعة لغته، وإلا لما تسرّع في مواجهة قصائد تحتاج ترجمتها الى الكثير من الدقة والوعي اللغوي والإلمام بالرموز والمعاني. طبعاً يصعب كشف كل الأخطاء والهفوات اللغوية سواء في الترجمة أم في اللغة العربية نفسها وهذا يتطلّب بحثاً منفرداً، على رغم أن المترجم يلمّ بالفرنسية - كما بدا - والنحو الفرنسي، لكنه لا يجيد الترجمة ولا سيما الترجمة الشعرية التي تعد أم الترجمات وأصعبها. ولا أحد يدري لماذا اختار المترجم بكر الحلو أصعب الشعراء وأكثرهم صفاء و"هرمسية" وانغلاقاً لغوياً ليعرّب أحد أهم دواوينه وهو أي فاليري لم يكتب من بعده سوى قصائد قليلة جداً. وان كانت قراءة بول فاليري، "وارث الرمزية" والابن الجديد للكلاسيكية والكلاسيكية الجديدة، صعبة جداً وتفترض الكثير من التمرس والجهد والصبر فما حال ترجمته وخصوصاً الى لغة بعيدة عن مضارب لغته؟ المترجم بكر الحلو لا نعرف عنه سوى أنه مدرّس حاصل على "ليسانس" في الأدب الفرنسي من جامعة الاسكندرية، وعلى دبلوم من كلية التربية، علاوة على ترجمته أعمالاً قليلة للكتاب الفرنسيين: فيركور وكوكتو وفرانسواز ساغان. ولعلّها المرة الأولى التي يتصدّى فيها للشعر، وكم كان حظّ فاليري سيئاً لوقوعه بين يدي مترجم متعجل لا علاقة له بالصنيع الشعري ولا بعالم فاليري. وان كانت ترجمة الشعر أصلاً تفترض شاعراً يترجم وينقح ويصوغ مستوحياً "روح" اللغة الأولى ومناخها الشعري، فإن ترجمة بول فاليري تفترض مترجماً شاعراً يلم أولاً بأسرار اللغتين الفرنسية والعربية وثانياً بأسرار الصنيع الشعري والابداع اللغوي والنسج الايقاعي - ولو من دون وزن أو قافية. فلغة فاليري ليست سهلة أبداً والشعر في نظره هو فسحة اللقاء بين العقل والروح من خلال اللغة نفسها، والقصيدة هي أشبه بالتمرين اللغوي الذي لا ينتهي والمفتوح دوماً على التأويل. وسعى فاليري الى الإفادة من معطيات اللغة وخصائصها، أصواتاً وحركات ايقاعية ودلالات، ورسّخ أيضاً "النظام الشكلي" كمعيار للقصيدة التي لا تتخلّى لحظة عن التماسك والوحدة العضوية والصنعة الصعبة. ويرى فاليري ان الوحي يأتي بالبيت الأول للقصيدة وما على الشاعر إلا أن "يصنع" البقية. اختار بكر الحلو ترجمة تفسيرية لعنوان الديوان Charmes وهي "قصائد ساحرة" لكن فاليري أشار الى أنه استوحى هذا العنوان من الكلمة اللاتينية Carmina التي تعني "قصائد". ولكن يستحيل عربياً الاكتفاء بما قصد اليه فاليري أي "قصائد" ولا بد من اضفاء صفة "السحر" ولو بدت تفسيرية. على ان الترجمة نفسها ينبغي لها أن تمنح القصائد سحرها الخاص وجوها الغامض وتطبعها بنفس غنائي خافت... وهذا ما لم يفعله بكر الحلو راجع الملاحظات المرفقة بالمقال بل هو عمد الى الترجمة الحرفية حيناً والى الترجمة التفسيرية حيناً آخر، مضيفاً من عنده بعض المفردات ومتناسياً مفردات من القصائد الأصلية. إضافة الى أخطاء فاضحة في تفسير الكلمات والى هناتٍ بيّنة في تركيب الجمل أو الأسطر الشعرية والمقاطع. ولعلّ ديوان فاليري هذا، يضم اثنتين وعشرين قصيدة هي من آخر ما كتب فاليري بين 1918 و1922، بعدما اجتاز أزمة صمته الطويل الذي دام نحو عشرين سنة بقصيدته الشهيرة "بارك الشابة" التي سبقت هذا الديوان، وهو يعدّ "الصنيع" الذي تتمثل فيه "شعرية" فاليري و"بيانه" الشعري، علاوة على الأسرار التي تضمرها قصائده أكثر مما تبوح بها. هذا الديوان يقابل "ديوان القصائد القديمة" الذي يضمّ أولى قصائد فاليري، وهي على رغم افصاحها عن أثر مالارميه فيه، كانت كرّسته شاعراً للحين. وما يجمع بين الديوانين بوضوح "الصفة النرجسية" المستوحاة من أسطورة "نرسيس" الاغريقية. في الديوان الأول قصيدة عنوانها "نرسيس يتكلم" وفي الثاني "مقطوعات من نرسيس" وفي هذه القصيدة ذات الأجزاء الثلاثة يلغي الشاعر "وجود" الآخرين لينصرف الى التأمل في وجوده الخاص حيث يكون فكر الشاعر هو نفسه "المادة" الشعرية. إلا أنّ القصيدة الأشهر في الديوان وفي نتاج فاليري كلّه هي "المقبرة البحرية" المؤلفة من أربعة وعشرين مقطعاً، وهي عبارة عن تأمل ميتافيزيقي إزاء مقبرة على شاطئ البحر. هذا التأمل يوحّد بين "فكرة" البحر و"لحظة" الموت. وفي هذه "المقبرة" الواقعة في بلدة فاليري سيت دُفن الشاعر الكبير. "المقبرة البحرية" تمثل قصيدة "المقبرة البحرية" ذروة شعرية فاليري، فهي تجعل من الطبيعة التي ارتقى الشاعر بها روحياً وميتافيزيقياً، ما يشبه الإطار الفني والجمالي. ويتجلّى فيها أثر الفلاسفة الماقبل سقراطيين في "فلسفة" فاليري وشعريته. إلا أنّ الديوان يحوي أيضاً قصائد أخرى مهمة مثل "رسم أول لثعبان"، "نشيد الأعمدة" و"سعفة نخل" وسواها... ولكن تبقى "المقبرة البحرية" أجمل قصائد فاليري ومن أجمل القصائد الفرنسية والعالمية. كان فاليري في الخمسين عندما انكبّ على كتابة هذه القصيدة التي ظلّ يعتبرها حتى بعد صدورها في ديوان، غير مكتملة. وعدم الاكتمال هو أحد الهواجس التي كثيراً ما ألحّت على فاليري. فالشعر في نظره لا يكفّ عن التجدّد ويظل مشدوداً الى مثال جمالي هو غاية الشعر التي لا تتحقق. الشعر مثال الرغبة التي تكتمل في عدم اكتمالها. يقول فاليري عن "المقبرة البحرية" أنها "لم تكن في البدء سوى صورة ايقاعية خاوية أو مفعمة بمقاطع لفظية عقيمة، وقد تملكتني بعض الوقت... والقصيدة الممكنة كانت مونولوغاً ل"الأنا" وفيه استعيدت، محبوكة ومتقابلة، الموضوعات السهلة والدائمة في حياتي العاطفية والفكرية، مثلما طُرِحت عليّ في مراهقتي، متماشية مع البحر والضوء في مكان متوسّطيّ ما". ولعل القصيدة هذه هي الأكثر "انفتاحاً" بين قصائد فاليري، فهي تحوي الكثير من سيرته الذاتية ومن فلسفته الشخصية. ويظهر في هذه القصيدة "هاجسُ" البحر بل البحر المتوسط تحديداً هاجسَ فتنة وحب وجمال. فالشاعر يتماهى في البحر، هذا البحر الذي "يبدأ دوماً" كما يقول في مستهل القصيدة، مثلما يتماهى في تأمل الموت الذي يثيره مشهد المقبرة المتاخمة للبحر، وكذلك حركة الموج المستمرة. و"الظهيرة" التي يتحدث الشاعر عنها هي السكون والأزل. البحر هو الرعشة والرعدة وهو الوعي أيضاً، الوعي الدفين بالوجود. انطلاقاً من هذه "التيمات" والأحوال والأفكار بنى فاليري قصيدته بناء تراجيدياً في أربع حركات. وقد اختار الوزن "العشاري" المؤلف من عشرة مقاطع الذي نادراً ما يستخدم منذ القرن السابع عشر، مركزاً على التجانس الايقاعي بين الأحرف والكلمات. فالأنا كما يقول فاليري هي "الصوت". وعبر الموسيقى والايقاع والتجانس اللفظي، ومن خلال "المقاربات الفيزيقية للكلمات" راح فاليري يبحث عن "الشعر الصافي" بحسب مفهومه الخاص له. انه الشعر الذي يختزن مثاله في نفسه، الشعر الذي يفكر في الشعر فيما هو يُكتب أو ينكتب. واللغة الشعرية في نظره لا يمكنها أن تكون فقط نوعاً من أنواع اللغة، بل وسيلة تنقل "الحال الشعرية التي تطوّع الكائن بحواسه". تتمثل قصيدة "المقبرة البحرية" المعنى العميق ل"النظام الشعري، الحيّ والمعبّر وليس فقط "المنطقي". فالشاعر يصف هنا العلاقة بين التجربة الإنسانية والطبيعية. كأن يقارن مثلاً حركة الحياة والموت بحركة شروق الشمس ومغيبها. ويبدو صوت الراوي أو المتكلم صوتاً متخيلاً هو "مفتاح الشعر" في صفته صوتاً. "المقبرة البحرية" هي إذاً قصيدة التأمل في شرط الموت الإنساني. "الإنسان" في القصيدة "يتنزه" بين المدافن ويرمق البحر في الحين عينه. انه البحر يجذبه صوب الحياة، البحر المتحرّك قبالة الموت الثابت المدافن. على أن السماء التي تظهر هي "السكون النسبي" والشمس هي "المطلق"، والصوت الذي يتكلم هو "الأنا". بين هذه الرموز تتنامى القصيدة تنامياً شكلياً و"موضوعاتياً" و"تأملياً". انه تنامي الصوت - الأنا المرتبط بالتحوّل التدريجي. لعلّ جمال شعر بول فاليري يكمن في صعوبته وانغلاقه. هذا الشعر يتناهبه التقشف والنزعة الحسية، الابداع والتأمل، العزلة "المثابرة" والرافضة للعالم القائم والارتياد اليوميّ للحياة. ويبدو كأنه موسوم بحال من التمزّق الكامن وراء نزعته الذهنية الواضحة. وقد يؤكد وصف فاليري القصيدة ك"عيد للفكر" انتماءه الرمزي ولكن المتجدّد، فهو يقول: "انني أفضل تماماً أن أكتب بكل وعيّ وفي حال من الصفاء التام نصّاً ضعيفاً، على أن أضع عبر حالٍ من الجنون عملاً من الأعمال الرائعة". لعل الإرادة في تأسيس "شعرية" تجعل من الشعر "صنعة" وفعل خلق وابداع، وتردّ الاعتبار الى علم البيان والى المراس اللغوي، جعلت من بول فاليري شاعراً فريداً تبوأ مرتبة عالية في عالم الشعر الحديث، وما قبله وما بعده. فالشاعر الذي ورث الرمزية والكلاسيكية أورث الأجيال التي تلته أشكالاً شعرية جديدة، مثلما كان له أيضاً أثر كبير في النقد الحديث، هو الذي كتب في النثر أعمالاً بديعة، فكرية ونقدية وجمالية. وعودة الى ترجمة بكر الحلو لديوان "قصائد ساحرة" نقول: ليت هذا المترجم تروّى كثيراً وبذل جهداً حقيقياً في تعريبه قصائد فاليري، وليته استعان بأحد الشعراء ليصوغ القصائد في لغة تشبه لغة فاليري في رقّتها وإيقاعيّتها ومرسها الصعب.