طوال تسعة أيام، بنهاراتها ولياليها، تعيش مدينة سيت الفرنسية ما بات يسمى «عيد» الشعر المتوسطي الذي كرسه مهرجان «أصوات حية». بدءاً من العاشرة صباحاً حتى ما بعد منتصف الليل تختلط الصباحيات الشعرية والأمسيات، وبينهما قيلولة الشعر والغروب. ويتوزع الشعراء بين الحدائق والساحات وعلى شواطئ هذه المدينة البحرية وعلى متن المراكب الشراعية الصغيرة التي تتمايل مع الموج. لا تبقى زاوية في المدينة هادئة، حتى الأزقة الصغيرة تنصب فيها الخيام ليلتقي الشعراء تحتها بجمهور يأتي من الجنوب الفرنسي ليستمع إلى شعراء يعرف بعضاً منهم ويجهل الآخرين الآتين من البلدان التي تحيط بالبحر المتوسط «العظيم» الذي صنع حقبات مهمة من تاريخ العالم، سياسياً وحضارياً وعسكرياً... لا تهدأ المدينة طول ساعات النهار والليل. حتى في أحايين القيلولة، يحلو التمدد على الأراجيح المنصوبة بين الأشجار وعلى العشب، في ظل الغصون الوارفة. يغمض هواة الشعر عيونهم قليلاً مستمعين إلى شعراء يلقون قصائدهم بهدوء، مقاومين نعاس ما بعد الظهيرة. حتى في لحظات القيلولة لا يغيب الشعر، وإن بدا الاستماع إليه في حال من الإغفاء الخفيف والسرنمة الحلمية. أكثر من مئة شاعر وفي رفقتهم فنانون وموسيقيون ومغنون وممثلون يُحيون ما يقارب 600 لقاء بين قراءات شعرية، تصاحبها الموسيقى في أحيان، ليمتزج الشعر بإيقاعات تذوب في قلبه أو يذوب هو في ثناياها، وحفلات غناء شعري ومسرحيات يختلط الشعر فيها مع الأداء على اختلاف ألوانه، مع الإيماء والارتجال... عطفاً على الرواة أو «الحكواتية» الذين يسردون القصائد والقصص الشعرية بطريقة مبتدعة، تجمع بين الفنون الحكائية كافة. أكثر من 600 لقاء يتابعها بحرية جمهور يبلغ عدده طوال الأيام التسعة حوالى 50 ألفاً، مراهقين وشباباً ومتقدمين في السن، فتياناً وفتيات، بعضهم من الهواة الحقيقيين للشعر، يستمعون جيداً ويطرحون الأسئلة في ختام الأمسيات على الشعراء ويناقشونهم في قضايا شعرية مهمة. وبعضهم يعيش حالاً من الفضول الشعري والفني، هم يأتون ليشاركوا في هذا «العيد» الذي لا يمكن إلا أن يوصف بالشعبي على رغم مزاجه النخبوي. ولا يخفي مهرجان «أصوات حية» نزعته «السياحية» الثقافية، وهذا ربما أجمل ما يمكن أن يحققه مهرجان شعري. أن يصبح الشعر حافزاً على إحياء «السياحة» الثقافية، فهذا كسب للشعر والشعراء في زمن يعاني الشعر حالاً من الأزمة غالباً ما تُفسر بانحسار القراء وتراجع الإقبال على شراء الدواوين وعزلة الشعر عن الحياة العامة التي باتت تسيطر عليها ثقافة الاستهلاك. في إحدى ساحات المدينة يقيم المهرجان سوقاً للشعر تعرض فيه دور نشر فرنسية وفرنكوفونية كتباً ودواوين جديدة وقديمة، من ضمنها كتب ومختارات مترجمة إلى الفرنسية من شتى اللغات. وفي هذه السوق يوقع شعراء فرنسيون وأجانب كتبهم للجمهور. والجميل أن المستمعين إذا أحبوا شاعراً أصغوا إلى قصائده، يؤمون السوق بحثاً عن أعمال له كي يقرأوه لاحقاً. ومثلما يسأل زائر المهرجان عن الشعراء ومن أين أتوا يسأل أيضاً عن الجمهور ومن أين يأتي. شعراء حاضرون منذ الساعة العاشرة صباحاً حتى ما بعد منتصف الليل وجمهور أيضاً حاضر طوال هذه الساعات. لا يمل الشعراء الإلقاء ولا يمل الجمهور الاستماع أو الإصغاء. وما يدعو إلى الاستغراب أن الجمهور قادر على الاستماع إلى كل أنواع الشعر وكل ضروب القصائد. هو لا ينحاز إلى شعر دون آخر ولا إلى نوع شعري دون آخر. ليس يعنيه أن يقرأ الشاعر قصيدة نثر أو قصيدة موزونة، حرة أو كلاسيكية. المهم هو الشعر نفسه. إنها ثقافة الشعر في العالم اليوم. ما زلنا نحن العرب نشهد بقايا صراع بين ثقافة شعرية تقليدية ومحافظة، وثقافة أخرى حديثة ومنفتحة على ثورة قصيدة النثر والشعر التجريبي. هنا في مدينة الشعر المتوسطي تتآلف القصائد والأنواع الشعرية كل التآلف، تماماً مثلما تتآلف الأصوات واللغات واللهجات الآتية من بلدان المتوسط. وقد تكمن هنا إحدى ميزات هذا المهرجان. يستمع الزائر إلى قصائد تلقى في لغات المتوسط كافة، لكنه لا يشعر بأنه غريب عنها، ليس فقط لأنها تُقرأ في الوقت نفسه بترجمتها الفرنسية التي تؤدي هنا دور الوسيط، بل لأن إلقاء القصائد بلغاتها الأم يخلق حالاً من التناغم الصوتي والإيقاعي الجميل. ولغات المتوسط عادة هي غنية بإيقاعاتها ونبراتها ومقاطعها الصوتية. «أصوات حية»، فرنسية وإيطالية وتركية ويونانية وبرتغالية وبلقانية ومالطية وإسبانية وإيرانية وعربية... إنها أصوات آتية من 38 بلداً متوسطياً، من المتوسط الأوروبي والشرقي والأفريقي والبلقاني، ناهيك بما يسمى المتوسط «المنتشر» في العالم، مثل أميركا اللاتينية وأفريقيا الغربية والخليج والبلدان الفرنكوفونية. 16 دولة عربية الحضور العربي يكاد يكون طاغياً هذه السنة. أكثر من خمسة وعشرين شاعراً من 16 دولة عربية هي: فلسطين، مصر، العراق، لبنان، سورية، السعودية، الإمارات، الأردن، ليبيا، تونس، المغرب، الجزائر، قطر، عمان، الكويت والبحرين. إلا أن شعراء كثراً جاؤوا من المنافي العربية في العالم ومنهم على سبيل المثل: العراقي صلاح فائق المقيم في الفيليبين، السوري نوري الجراح المقيم في لندن والليبي فرج العربي المقيم خارج ليبيا... ولم يغب أيضا الشعر الكردي العربي فقد مثله الشاعر لقمان ديركي. هذا الحضور العربي لم يقابله حجماً سوى الحضور الفرنسي فقط. وبدا أنّ الشعراء العرب، كان في إمكانهم لو شاؤوا، أن يقيموا مهرجاناً عربياً داخل المهرجان المتوسطي، لا لكثرتهم فقط وتمثيلهم معظم الدول العربية، وإنما لتنوع أجيالهم ومشاربهم وشعرياتهم والمدارس التي ينتمون إليها، وإن كانوا بغالبيتهم يكتبون قصيدة النثر. وقد احتلت قصائد هؤلاء الشعراء حيزاً لا بأس به في «ديوان» المهرجان الصادر عن دار برونو دوسي، وهو يضم قصائد لكل الشعراء المشاركين بلغاتها الأصلية وترجماتها الفرنسية. وهذه القصائد مجموعةً، تساعد القارئ على تكوين فكرة شاملة عن الشعراء المتوسطيين. ولعل القصائد العربية وهي تشكل في قلب هذا الديوان ديواناً صغيراً، تمكّن القارئ من التعرف إلى ناحية مهمة من الشعر الذي يكتب الآن في العالم العربي. فالأسماء المشاركة تشغل مساحة من المشهد الشعري العربي وتمثل نماذج من المختبر الراهن. ومن هذه الأسماء: صلاح فائق، ميسون صقر، نوري الجراح، طالب المعمري، فرج العربي، صلاح بو سريف، عبدالرحيم الخصار، أنطوان الدويهي، ميلود حكيم، نشمي مهنا، محمد أبو زيد، أحمد الملا، محمد بدوي، لقمان ديركي، محمد الحرز، وليد الشيخ، زاهر السالمي، تحسين الخطيب، جهاد هديب، معز ماجد، عبده وازن... إضافة إلى صلاح ستيتية وفينوس خوري غاتا وهما من الشعراء الفرنكونيين اللبنانيين البارزين. ويعمل في إدارة المهرجان الذي ترأسه مايتي فاليس بليد الكاتب اللبناني أنطوان جوكي كمترجم للقصائد العربية والشاعر السوري صالح دياب. مدينة بول فاليري لا بد لزائر مدينة سيت من أن يتذكر الشاعر الفرنسي الكبير بول فاليري (1871 - 1945)، فهذه المدينة المتوسطية هي مدينته، فيها ولد وعاش فترة من حياته وفيها يرقد في مقبرة تسمى «المقبرة البحرية» تيمناً بقصيدته الشهيرة «المقبرة البحرية» التي كتبها مستوحياً المشهد من مرتفع المدينة، وهو مشهد يجمع بين المقابر والبحر. وبالقرب من هذه المقبرة يقع متحف بول فاليري الذي يضم آثار الشاعر وصالات تقام فيها معارض دائمة. وهذه القصيدة التي كتبها عام 1920 كان لها صدى وأثر كبيران في فرنسا والعالم، وترجمت إلى لغات عدة منها العربية، وقد نشرها فاليري بعد عامين في ديوانه الشهير «قصائد فاتنة» أو «فواتن» (1922). وفي مطلع القصيدة المصوغة بمتانة وسحر، والتي تتطلب ترجمتها لا سيما إلى العربية جهداً كبيراً يقول الشاعر وفق ترجمتي الخاصة: هذا السقف المتهادي حيثما تتنقل يمائم بين أشجار الصنوبر يخفق، بين المقابر بنيرانٍ تمزجه الظهيرة العادلة إنه البحر، البحر مستعاداً دوماً يا لها من مُجازاة بُعيد خاطرةٍ نظرة تمتدّ وسع هدأة الآلهة. لا يستطيع قارئ بول فاليري إلا أن يستعيد هذه القصيدة المتوسطية تماماً، في قلب مدينة سيت. فهذه القصيدة تمثل إحدى ذرى فاليري الشعرية، وهي تجعل من الطبيعة التي ارتقى الشاعر بها روحياً وميتافيزيقياً، ما يشبه الإطار الفني والجمالي. ويتجلى فيها أثر الفلاسفة ما قبل السقراطيين في فلسفة فاليري وشعريته. كان فاليري في الخمسين عندما انكب على كتابة هذه القصيدة التي ظل يعتبرها حتى بعد صدورها في ديوان، غير مكتملة. وعدم الاكتمال هو أحد الهواجس التي كثيراً ما ألحت على فاليري. فالشعر في نظره لا يكف عن التجدد ويظل مشدوداً إلى مثال جمالي هو غاية الشعر التي لا تتحقق. الشعر مثال الرغبة التي تكتمل في عدم اكتمالها. يقول فاليري عن «المقبرة البحرية» إنها «لم تكن في البدء سوى صورة إيقاعية خاوية أو مفعمة بمقاطع لفظية عقيمة، وقد تملكتني بعض الوقت... والقصيدة الممكنة كانت مونولوغاً ل «الأنا» وفيه استعيدت، محبوكة ومتقابلة، الموضوعات السهلة والدائمة في حياتي العاطفية والفكرية، مثلما طرحت علي في مراهقتي، متماشية مع البحر والضوء في مكان متوسطي ما». ولعل القصيدة هذه هي الأكثر «انفتاحاً» بين قصائد فاليري، فهي تحوي الكثير من سيرته الذاتية ومن فلسفته الشخصية. ويظهر في هذه القصيدة «هاجس» البحر، البحر المتوسط تحديداً، هاجس فتنة وحب وجمال. فالشاعر يتماهى في البحر، هذا البحر الذي «يبدأ دوماً» أو «يستعاد» كما يقول في مستهل القصيدة، مثلما يتماهى في تأمل الموت الذي يثيره مشهد المقبرة المطلة على البحر، وكذلك حركة الموج المستمرة. البحر هو الرعشة والرعدة، وهو الوعي أيضاً، الوعي الدفين بالوجود. أما «الظهيرة» التي يتحدث الشاعر عنها فهي السكون والأزل. هكذا، تبدو «المقبرة البحرية» لا سيما إذا قرئت في مدينة سيت ذات الطبيعة البحرية والحرجية، قصيدة تأمل في شرط الكينونة الإنسانية. الإنسان في القصيدة «يتنزه» بين المدافن ويرمق البحر في الحين عينه. إنه البحر يجذبه صوب الحياة، البحر المتحرك قبالة الموت الثابت (المدافن). على أن السماء التي تظهر هي «السكون النسبي» والشمس هي «المطلق»، والصوت الذي يتكلم هو «الأنا» أي الصوت - الأنا المتنامي والمرتبط بالتحول الداخلي، الصوفي والحلمي.