احتاج "الاخوان المسلمون" المصريون - وهم الحركة الإسلامية الرئيسية في الوطن العربي منذ الثلاثينات من القرن الماضي - الى حوالى الخمسين عاماً حتى قالوا أخيراً ب"سلطة الشعب"، من دون أن يتخلَّوا بوضوح عن رؤية "الحاكمية" التي بلورها في أوساطهم سيد قطب والقرضاوي وآخرون. ففي وثيقتيهم عام 1994 و2004 فرَّقوا بين "المرجعية العليا" التي بقيت إلهيةً وللشريعة، والسلطة التي تدبّر شؤون الناس، وقد أوكلوها أخيراً اليهم. بيد أنَّ هدف الحركات الإسلامية، أو حركات الإسلام السياسي، النهائي يبقى إقامة الدولة الإسلامية التي تطبّق الشريعة. لكن، حتى عندما كان سائر الإسلاميين العرب يقولون بالخلافة أو بالحاكمية، كانوا يكرهون اتهام خصومهم لهم بأنهم يريدون اقامة الدولة الثيوقراطية أو الدينية. ويرجع ذلك الى أمرين اثنين" الأول ارتباط الدولة الدينية في الأذهان بالسلطة البابوية في العصور الوسطى الأوروبية، والثاني المواريث الباقية للإصلاحية الإسلامية مدرسة محمد عبده، التي كانت تصر على مدنية السلطة في الإسلام. وقد استطاع الإحيائيون المسلمون التملص من كل أطروحات الإصلاحيين باستثناء هذه المسألة بالذات، والتي ظل المفكرون الدستوريون المصريون ينظِّرون لها حتى الثمانينات من القرن الماضي. أما أبو الأعلى المودودي، زعيم الجماعة الإسلامية في الهند وباكستان أنشأها عام 1941، وكذلك حزب التحرير الذي أسَّسه تقي الدين النبهاني ولا يزال فاعلاً فما كانا يريان حرجاً في اطلاق تعبير الدولة الدينية أو دولة العقيدة على نظامهم المنشود، وإن لم يكونوا يرون عصمة الخليفة أو رأس الدولة الموعودة. بيد أن "الدولة الإسلامية" كما تطورت رؤيتها لدى الإسلاميين العرب منذ حسن البنا وعبدالقادر عودة وحتى سيد قطب والغزالي والقرضاوي، هي دولة دينية، بمعنى انها تكليف إلهي، ولها مهمة رئيسة هي تطبيق الشريعة. وهم يستندون في ذلك الى آياتٍ من القرآن: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، و"إن الحكم إلاّ لله"، وأحاديث نبوية، والى سيرة النبي والسلف الصالح حيث تلازم لديهم قيام الدين والأمة مع قيام الدولة. ولذلك فهم يعتبرون أن "الشرعية" سقطت بسقوط الخلافة، ويتفرع على ذلك "التكليف" الذي لا يجوز التخلف عنه باستعادة المشروعية الى المجتمع ونظامه السياسي بإقامة الخلافة أو ما يُناظرها من جديد. على أن هذا الإيجاز لا يفي المسألة حقها. فقد تطور لدى سائر الإسلاميين - حتى الذين لا يميلون الى العنف من بينهم وقد صاروا الآن التيار الرئيسي - منظور للشريعة يحوِّلُها الى ما يشبه القانون. ولأنها أي الشريعة وضع إلهي" فإن تخلفها عن السواد والسيطرة في المجتمع يكاد يسلبه إسلامه المتطرفون يكفّرون المجتمع، والمعتدلون يعتبرونه غافلاً" ومن هنا فإن السيطرة السياسية ضرورية لاستعادة الإسلام نفسه الى المجتمع والدولة، وهذا وجه آخر من وجوه ضرورة الدولة الإسلامية أو الدولة التي تحكم باسم الإسلام. وهكذا فهناك اندماج شبه كامل بين الدين والدولة لدى سائر الإسلاميين، بحيث لا يمكن تصور المجتمع الإسلامي من دون الدولة الإسلامية. وغني عن البيان أن هذه الرؤية التأصيلية جديدة تماماً في مجملها وليس في تفاصيلها. فالإسلام التقليدي يتحدث عن الحكام الظَلَمَة وعن الحكام الطغاة، لكنه لا يكفّرهم، ولا ينفي شرعيتهم، ولا يعتبر ان خروج الحاكم على الشريعة مؤثر في اسلامية المجتمع. وقد نجم عن ذلك لدى المتشددين منهم تعميم حكم الجهاد على الداخل والخارج قارن "كتاب الفريضة الغائبة" لمحمد عبدالسلام فرج، والذي جرى على أساس منه قتل الرئيس السادات، كما نجم عن ذلك العودة الى تقسيم العالم الى دار إسلامٍ ودار حربٍ وكفر أنظر مسألة الفسطاطين لدى أسامة بن لادن وحركة الجهاد بعد أن كان الفقهاء الإصلاحيون تجاوزوا المنظومة التقليدية كلها. لماذا كان ذلك كله، وكيف ظهر الإسلام السياسي وتطور؟ الحركات الإسلامية المعاصرة هي المظهر الرئيسي للانبعاث والإحياء الديني في أرجاء العالمين العربي والإسلامي. ولذلك فهي في الأصل حركات هويةٍ عقائدية معنية بصون انتماء المجتمع، وتطهيره من التغريب وضلاليات الحداثة الغربية بحسب تعبير أبو الحسن الندوي. وقد اصطدمت الأجزاء النافرة من الإحيائية بالدولة الوطنية في إندونيسيا والباكستان ومصر في الخمسينات من القرن الماضي، فتبلور تدريجاً توجهها السياسي الذي توجته عقيدة الحاكمية لدى المودودي ولدى سيد قطب ثم لدى سائر الإسلاميين. وفي ما بين الستينات والثمانينات من القرن الماضي، ووسط افتراقات الحرب الباردة واصطفافاتها، توالت تمردات التنظيمات المتشددة المتفرعة عن الاخوان المسلمين أو المنفصلة عنهم، فاكتملت مذهبية الحزبيين الإسلاميين الشاملة من جهة الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة، كما تمايزت عقائديات الحزبيين المتشددين الذين يريدون مصارعة الكفر والجاهلية بالقوة، في حين تبلور في الثمانينات تيار أكثري يقول بالعمل للدولة الإسلامية من ضمن آليات الأنظمة القائمة وحدودها. ويعتبر باحثون غربيون وعرب أن الإسلام السياسي بكل أشكاله العنيفة والمسالمة تجاوز مرحلة الذروة والتألق. بيد أن الإسلاميين لا يزالون يشكلون المعارضة الرئيسية في سائر بلدان الوطن العربي والعالم الإسلامي. وقد اتسع المجال السياسي لهم في بعض البلدان مثل الأردن واليمن ولبنان والمغرب، فكان منهم نواب ووزراء. ودخلوا مواربةً الى البرلمان من طريق التحالف مع أحزابٍ مشروعةٍ في مصر. وحصلوا على جماهيرية كبرى في فلسطينوالأردن بسبب مصارعتهم إسرائيل وإن متأخرين. ومع أن نظام حكمهم في السودان ما نجح نجاحاً باهراً، لكنهم استطاعوا الاحتفاظ بالسلطة، كما لا يزال لهم أنصار كثر في الجزائر على رغم الحرب بينهم وبين الجيش وقوى الأمن، والتي استغرقت أكثر التسعينات، وخلفت مئات آلاف القتلى. فإذا كان المراد من الفشل أنهم ما نجحوا في فرض سيطرتهم السياسية في بلدانٍ عربيةٍ رئيسية، فهذا صحيح. أما الجماهيرية الإسلامية فإنها لا تزال مستمرةً على رغم انكسار جوانبها الحادة. وفي المحصلة النهائية فإنهم نجحوا؟ في أمرين: تغيير وجه الإسلام الذي نعرفه، وتحويل الإسلام الى مشكلةٍ عالميةٍ بقيام المتشددين من بينهم بهجمات 11/9/2001 على الولاياتالمتحدة الأميركية التي أدت الى الحرب الأميركية ثم العالمية على "الارهاب" الذي لا يزال مستمراً حتى اليوم.