أذكر أنّ المرة الأولى التي قرأتُ فيها مفرد "الأزمة" مقروناً بالفكر السياسي الإسلامي، كانت في العام 1970. والكتاب للدكتور عبدالحميد متولي، الاستاذ غير المتفرغ يومها بكلية الحقوق، بجامعة الاسكندرية 1. لكنْ عندما عدتُ لتصفُّح الكتاب قبل أشهر، وجدتُ انه أدنى الى ان يكون حديثاً عن الأزمة في الثقافة الاسلامية أو الفكر الاسلامي الحديث. فقد تحدث عن غياب الاجتهاد، وعن الجمود على النصوصية والتقليد، ثم اعتبر اصلاحية الإمام محمد عبده نموذجاً للبدائل التي ينبغي ان يتبعها المسلمون فيتخلصون من الجمود الذي حاق بهم. وكان الايجابي في تلك النظرة انّ الاستاذ متولي ما رأى في الاعتبار بتجارب الغرب في تطوير التشريعات، وفي المداخل للحياة السياسية، بل وللوحدة القومية، أمراً إداً. لذلك اعتبر التجربة الاتحادية أو الفيدرالية الأميركية، نموذجاً يمكن النظر فيه لتحقيق الوحدة السياسية بين العرب. لكنه سرعان ما انعطف، وهو الناعي على المفكرين الاسلاميين جمودهم وتقليدهم بعد قراءةٍ سريعةٍ بعض الشيء للقرآن وسنّة الرسول وسلوك الراشدين، الى أنّ مبدأ "سيادة الأمة" وسلطتها ليس اسلامياً كما يقول الاصلاحيون، ودُعاةُ المطابقة بين الشورى والديمقراطية، بل الأحرى - من وجهة نظره - الذهاب الى أنّ مبدأ "سيادة الأمة" لا يضمن الحريات ولا يؤدي الى قيام الدولة الواحدة. وحجته أنّ التجارب الفاشية والنازية والديكتاتورية انما كانت تجارب "شعبية"، أي انها حظيت - في بدايتها على الأقل - بتأييد كثرةٍ كاثرةٍ من الناس. وقد أخذت الثورة الفرنسية بمبدأ "سيادة الأمة" لأنها ارادت ان تسقط الحق الإلهيّ للملوك، أما اليوم فلم تعد لذلك حاجة، وانما السيادة للقانون الذي يشترعه البرلمان، وفي الاسلام فإنَّ السيادة للشريعة. وما وافقه على ذلك فقيهان ومفكران آخران هما الدكتور محمد فتحي عثمان، والدكتور محمد رضا محرم، اللذان تجادلا في الثمانينات في كيفيات "تحديث" العقل السياسي الاسلامي: فاختلفا في ماهية ذلك التحديث الضروري وحدوده، لكنهما لم يريا بديلاً من أجل الخروج من الأزمة التي تعصف بذلك الفكر، من الأخذ بمبدأ "سيادة الأمة" باعتباره المرتكز للمنجزات الأخرى التي حققتها التجربة أو التجارب السياسية الغربية: مبدأ الفصل بين السلطات، ومبدأ الأكثرية المؤهِّل لتولّي السلطة، ومبدأ التداول السلمي للسلطة عن طريق صناديق الاقتراع. وقد اختلف الرجلان مع زميلٍ ثالثٍ لهما هو الدكتور مصطفى كمال وصفي، الذي ما صارحهما بانكار مبدأ سيادة الأمة، لكنه كان شديد الشكّ في التعددية الثقافية والسياسية، التي يكمُنُ في جذرها - من وجهة نظره - مبدأ السيادة في الفكر السياسي الغربي2. وفي الثمانينات والتسعينات خطا الدكتور طارق البشري خطواتٍ الى الامام في تثبيت المنزع الدستوري هذا، أو اعتبار الدستور الغربي الأصل والفكرة ركيزة النظام السياسي، والمقنّن للحريات ومبادئ المواطنية فيه. على أنّ الاستاذ البشري - شأنه في ذلك شأن زملائه من القانونيين منذ السنهوري - ظلّت تُناوشُهُ مسألةُ المرجعية العليا التي يستند اليها الدستور، والتي تميّز الفكر السياسي الاسلامي عما عداه، أي اساس "المشروعية" في الاجتماع الاسلامي! وعلى ذلك يجيب البشري الفقيه الدستوري الكبير: أساس مشروعية اجتماعنا قيامه على الشريعة الاسلامية. وهو الأمر نفسه الذي يتخذه المستشار علي جريشه باعتباره مسلَّمةً، لكنها المسلَّمةُ التي تُفضي به مباشرةً الى مبدأ الحاكمية الذي اشتهرت نسبته منذ مطلع الستينات الى أبي الأعلى المودودي وسيّد قطب. آثار إلغاء الخلافة والواقع أنني أردتُ من وراء استعراض آراء الفقهاء الدستوريين هؤلاء في العقود الثلاثة الأخيرة، وهم في الأكثر ليسوا من الحزبيين الاسلاميين، لفت النظر الى أنّ المتغيّر الرئيسي في المجال الفكري الاسلامي كان وما يزال تزعزُع مفهوم "الأمة" في الفكر الاسلامي الحديث، وبالتالي تغير مفهوم "الشريعة" ووظائفها، وأنا أحسبُ أنّ هذين الأمرين يقعان في أساس التأزم الحاصل في الفكر السياسي الاسلامي. لقد بدا لأول وهلةٍ أنّ التأزُّم مستجدٌّ وناجمٌ عن وعي النخبة الاسلامية بالفقدان نتيجةً لإلغاء الخلافة 3. وقد أنفق الفكر الاسلامي أكثر من عقدين في محاولات استعادة الخلافة بصيغتها القديمة أو بصيغٍ معدَّلة. بل ان الشيخ تقي الدين النبهاني، وحزبه "حزب التحرير الاسلامي" لم يتجاوزا هذه المسألة حتى اليوم. وكنتُ قد حسبتُ من قبل ان أطروحة عبدالرزاق السنهوري عام 1927 عن الخلافة، ومؤتمر القدس عام 1931، مهدا لتجاوز مسألة تأسيس المشروعية على الخلافة، باتجاه فكرة "المؤتمر". وتأيَّدَ ذلك الاستظهار في خلدي بظهور المجامع الفقهية بعد المجامع اللغوية. لكن يبدو أن "المجمع الفقهي" قضية نخبة، وقضية دولة، بمعنى انه يُعطي مشروعيةً لاجتهادات الفقهاء من حول الدولة. فهو بيئةٌ لتحقيق شبه اجماع أو فتاوى جماعية، تجيب على التحديات التي تواجهها الدولة الوطنية في عالم اليوم تجاه الجمهور. وتجاه العالم. وهو أمرٌ مختلفٌ تماماً عن المشروعية التأسيسية أو المبدئية التي يبدو أنّ مؤسسة الخلافة كانت تؤديها أو تبلورها في وعي النخبة العالمة والجمهور. وهذه المسألة تعلّل تلك الفجيعة التي بدت لدى الشيوخ والمفكرين الاسلاميين عندما ألغيت الخلافة، والتي تحولت سخطاً على علي عبدالرزاق عندما اعتبر أن الخلافة مؤسسة اصطلاحية أو وضعية، وليست من مقتضيات الاسلام. وزاد الطين بلة ترجمة عبدالغني سني الى العربية عن التركية الرسالة المعروفة باسم: "الخلافة وسلطة الأمة"، والتي كتبها بعض العلمانيين الاتراك عام 1922 لتسويغ فصل السلطنة عن الخلافة، والدين عن الدولة، والقول بضرورة اعادة السلطة الى الأمة التي هي صاحبتها الحقيقية. فبدا للإسلاميين العرب ان هناك تماهياً بين الخلافة والاسلام، وأنّ "الأمة" القومية توضعُ في مواجهتهما، لذا كان من الطبيعي ان تتجه الأنظار لوضع الشريعة = الاسلام في الواجهة، وليس "الأمة" التي اتجهت في وعيهم للتماهي مع الدولة الوطنية العلمانية الجديدة. ومع ذلك فإنّ الأمر لم يكن محسوماً في ما يبدو في وعي النخب الاسلامية عشية إلغاء الخلافة. فلا ينبغي ان ننسى انّ قرناً كاملاً انقضى بين اندفاع الطهطاوي لشرح الدستور الفرنسي، ومبدأ سيادة الأمة، ومحاولته مماثلة ذلك بالاجماع في الفقه الاسلامي من جهة - وإلغاء الخلافة من جهةٍ ثانية. وخلال ذلك القرن سادت لدى النخب الاسلامية الاصلاحية فكرة الدستور، بل وأفكار البرلمانية والديموقراطية، ومماثلتهما بالشورى. على أنّ الاصلاحيين على رغم ذلك ما انفتحت افكارهم وكتاباتهم على الوعي بالجمهور. فالدستور - كما يظهر من كتابات محمد عبده وقاسم امين - عنى بالنسبة لهم حاجزاً امام استبداد رأس السلطة وعدم اشراك النخب فيها. صحيحٌ أننا نرى بذوراً لوعيٍ آخر لدى حسين المرصفي في "الكلم الثمان"، ولدى الكواكبي في "طبائع الاستبداد"، لكنّ ذلك لم يكن الشأن لدى التيار الرئيسي ضمن الاصلاحيين. فالشيخ محمد عبده كان يريد تربية النخب عن طريق المجالس المعنية بضغطٍ من اللورد كرومر مثل "مجلس شورى القوانين"، وكان يرى أن الوقت مبكر على مبدأ الاقتراع العام. وعلى كل حالٍ: فإن فكرة الاقتراع العام ما كانت ضمن الدستور العثماني الصادر عام 1876، وان جرى الاعتراف بمبدأ التمثيل. أمّا تعقيدات الوعي بالجمهور فتوضحها العبارات المتداولة، والمنسوبة الى جمال الدين الافغاني أو محمد عبده: من مثل مقولة "المستبد العادل"، ومقولة ان هناك اسلاماً، ولكن ليس ثمة مسلمين. لقد كانت الأولوية لدى النخب الاسلامية والوطنية لمكافحة الاستبداد، ثم لمكافحة الاستعمار، ثم للحفاظ على الهوية في وجه تيارات التغريب والاستلاب والغزو. ولهذا فإن التحوير الثقافي والفكري الذي اقتضاه زوال الخلافة ما اتجه الى اعتبار مبدأ "سيادة الأمة" بديلاً لمؤسسة الخلافة أو لاهوتها، بل استبدل بلاهوت الخلافة تدريجياً لاهوتٌ آخر ينتصر لفكرة المقدس - وهذا معنى قول الإمام حسن البنّا: القرآن دستورنا. والقرآن المتحول الى دستور هنا ما كان المقصود به الحلول محل دستور العام 1923 وحسب، بل الحلول أيضاً محل الخلافة استعادةً للمشروعية، واعادةً للأمور الى نصابها بعد ظهور الدولة الوطنية التي اعتمدت مبدأ سيادة الأمة، أخذاً عن الدستور الفرنسي "الوضعي" غير الإلهي، وبالتالي غير الشرعي. الأمة والشريعة لقب قيل إنّ المودوديَّ ما وصل الى اعتبار مبدأ سيادة الأمة وسلطتها استمراراً من نوعٍ ما لمقدّس الجماعة السُنّي التقليدي، لظروف المسلمين الخاصة بالهند إذ هم هناك أقلية. لكن ما يرد على الهند لا يرد على مصر، فالمسلمون هم الكثرة الكاثرة فيها. وهكذا فإن المسألة تكمن في موطنٍ آخر. فالاسلاميُّ مفكّر الهوية ومناضلها في الثلاثينات والأربعينات، كان يخشى على الجمهور من التغريب، لكنه كان يخشى أيضاً ذلك الجمهور على الاسلام. ولا ينبغي ان نتجاهل ظروف الثلاثينات والأربعينات وتأثيراتها في الوعي الاسلامي وعليه. فقد بدا خلالها أن الجمهور ينأى بأصواته عن الاسلاميين باتجاه احزاب الاستقلال الوفد في مصر مثلاً، وفي ما بعد باتجاه القادة القوميين عبدالناصر مثلاً. لكنْ في الوقت الذي كان فيه الاسلاميون يعرضون عن ائتمان الأمة على الاسلام، كانت الشريعة فيه بحسبانها لُبَّهُ وجوهره، تتخذ في وعي الاسلاميين ما يشبه ايديولوجيا النخبة التي تتحشد لاستعادة الاسلام ليس الى السلطة وحسب، بل والى الجمهور ايضاً. وهذا معنى الجاهلية السائدة، والحاكمية المنطلقة لاستعادة زمام الأمور من المتسلِّطين ومن الغرب ومن الضياع، عن طريق الوصول الى السلطة، لتطبيق الشريعة. هكذا بدا ان الصراع صراعٌ بين الله جلّ وعلا والفتية الذين آمنوا به، وبين الطغاة الذين سلبوه وسلبوا المسلمين الألوهية والعبودية معاً، إذ صاروا أرباباً بالتحكم وبالتشريع الوضعي. ومن هنا خصومة الاسلاميين العبثية في الستينات والسبعينات، ليس مع الرأسمالية والماركسية وحسب، بل ومع الديموقراطية باعتبارها تضع حكم الشعب وسلطته، في مواجهة حكم الله وشريعته. وقد هدأت الأمور الآن على هذه الجبهة. لكنّ الافتراق ما يزال قائماً بين الأمة والشريعة، بحيث تبدو الدولة الاسلامية، دولة النظام الاسلامي، في أحسن الأحوال، دولةً نوموقراطية، أو دولة قانون، هو الشريعة، ودور الأمة في الوصول لذلك مفهومٌ في هذا النطاق. ما تطورت فكرة "الشورى" القديمة لدى المسلمين - استناداً الى القرآن - حتى عندما كانت جوانبها السياسية بارزةً، لتعني سلطة أو حكم "الجمهور". فقد تحددت في عصر الراشدين بكبار الصحابة من المهاجرين وأهل السابقة. وظهرت في ما بعد فكرة "أهل الحل والعقد". التي تضم ايضاً قلةً مختارةً غير واضحة المعالم. أما "شورى" الخوراج فكانت "شورى" قلةٍ أيضاً هم المنتسبون الى الفرقة نفسها. وأقصى ما بلغه الأمر حديث بعض الكوفيين في القرن الثاني الهجري عن "السواد الأعظم". صحيح أنّ "الامامة" = السلطة السياسية، الخلافة ظلّت في كتب اهل السنة قائمةً على "الاختيار" من الأمة، لكنّ الاختيار وقع من جديدٍ في يد "أهل الحلّ والعقد"، وهؤلاء انحصروا في الخليفة نفسه الذي ظل يحدد خلفه حتى صار يحدده الذين ينصبون السلطان: وهم كبار رجالات الجيش من الديلم فالترك. فعندما انقسم المجتمع الدولتي في عصور سيطرة الترك الى أرباب السيوف وأرباب الأقلام، صار كبارُ أهل السيف وهم دائماً من التُرك يتولون الشأن السياسي كله بما في ذلك تنصيب السلطان. واذا كان الاختيار الشوروي في المسألة السياسية قد انحصر بكبار الضباط: فإن الاجماع الفقهي كان دائماً هو "إجماع المجتهدين"، وكان على أيّ حالٍ، في حال حصوله، رأي مختصين لا مدخل للعامة فيه. وما اعتبر الفقهاء السنيون ربما باستثناء الماوردي والجويني الفقه الدستوري فقه الدولة من صُلب أبحاث الفقه. لكنهم عندما ألفوا فيه بحسبانه "سياسةً شرعية"، قاسوا اختياراته واجماعاته على اختياراتهم واجماعاتهم فصارت صناعة قلةٍ لا مدخل للعامة والغوغاء فيها أيضاً. لذلك ظلًّ تمايُزُ الفقهاء عن الفلاسفة في فقه السياسة أو في علاقة الجمهور بالسلطة، تمايُزاً نظرياً. لقد ظلُّوا يعتبرون العقل ومن ضمنه العقل التدبيري السياسي غزيرةً شائعةً في سائر الناس كلّ المكلَّفين، بينما اعتبر الفلاسفة الاسلاميون تبعاً لمصادرهم الاغريقية العقل جوهراً فرداً من خارج الانسان، تتميز به القلة أو فردٌ فيكون مسوِّغ رئاستها الضابطة والقامعة للجمهور غير "العاقل" 4. الحواشي 1- الدكتور عبدالحميد متولي: أزمة الفكر السياسي الاسلامي في العصر الحديث. مظاهرها، اسبابها، علاجها. تقديم الامام الأكبر الدكتور عبدالحليم محمود شيخ الأزهر. منشأة المعارف بالاسكندرية، الطبعة الثانية، 1970. 2- محمد رضا محرم: تحديث العقل السياسي الاسلامي. دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع. القاهرة 1986. 3- عثرت على نصٍ مطبوع للدكتور عبدالرشيد عبدالعزيز سالم، فيه الكثير مما يدلُّ على عمق: "الخلافة" في وعي المسلمين في العصر الحديث: دولة الخلافة وشعر الوطنية من سنة 1882الى سنة 1936. وكالة المطبوعات بالكويت، 1983. كما ان هناك أطروحة لنضال داود المومني عن الظروف والنصوص والنقاشات التي أعلنت في ظلها خلافة الشريف حسين: الشريف الحسين بن علي والخلافة. منشورات لجنة تاريخ الأردن، عمّان 1996. وانظر دراسة حازم عبدالمتعال الصعيدي: الاسلام والخلافة في العصر الحديث. مصر 1984- ودراسة وجيه كوثراني: الدولة والخلافة في الخطاب العربي ابان الثورة الكمالية. دار الطليعة ببيروت، 1996. 4- قارن عن ذلك كتابي: الأمة والجماعة والسلطة 1985، والآخر: الجماعة والمجتمع والدولة 1997. * كاتب لبناني.