أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    ترسية المشروع الاستثماري لتطوير كورنيش الحمراء بالدمام (الشاطئ الغربي)    "نايف الراجحي الاستثمارية" تستحوذ على حصة استراتيجية في شركة "موضوع" وتعزز استثمارها في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي    حسين الصادق يستقبل من منصبه في المنتخب السعودي    السند يكرِّم المشاركين في مشروع التحول إلى الاستحقاق المحاسبي    غربلة في قائمة الاخضر القادمة وانضمام جهاد والسالم والعثمان وابوالشامات    تمديد الدعم الإضافي لمستفيدي «حساب المواطن» حتى نهاية 2025    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي واستعمال أوراق نقدية مقلدة والترويج لها    866 % نمو الامتياز التجاري خلال 3 سنوات.. والسياحة والمطاعم تتصدر الأنشطة    الجامعة العربية بيت العرب ورمز وحدتهم وحريصون على التنسيق الدائم معها    وزير الاستثمار: 1,238 مستثمرًا دوليًا يحصلون على الإقامة المميزة في المملكة    مسرحية كبسة وكمونيه .. مواقف كوميدية تعكس العلاقة الطيبة بين السعودية والسودان    بحضور وزير الثقافة.. روائع الأوركسترا السعودية تتألق في طوكيو    تعطل حركة السفر في بريطانيا مع استمرار تداعيات العاصفة بيرت    NHC تطلق 10 مشاريع عمرانية في وجهة الفرسان شمال شرق الرياض    جبل محجة الاثري في شملي حائل ..أيقونه تاريخية تلفت أنظار سواح العالم .!    وزير الصناعة في رحاب هيئة الصحفيين بمكة المكرمة    القيادة تهنئ رئيس جمهورية سورينام بذكرى استقلال بلاده    مدينة الأمير عبدالله بن جلوي الرياضية تستضيف ختام منافسات الدرفت    أمير الشرقية يفتتح أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية في مركز "إثراء"    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أزمة الفكر السياسي الإسلامي . تسليم بسيادة الشريعة الاسلامية وتحفظ عن التسييس وبعض أساليب الدعوة 2 من 3
نشر في الحياة يوم 24 - 06 - 2000

ربما كان غيابُ "الجمهور" الطويل عن القرار السياسي، وتحول "الشورى" الى فضيلة أخلاقية، وراء غياب المسألة عن وعي النخبة العالمة تماماً، ولجوء الطهطاوي لترجمة مبدأ الحرية الفرنسي، وسيادة الأمة الى تعابير مقاربة مثل الانصاف والانتصاف والعدل والإحسان وأخيراً... الشورى. لكن ألا يمكن ان يكون اعجاب الطهطاوي بفكرتي الحرية وسيادة الأمة - الى جانب ما شهده بفرنسا - عائداً الى تجربة الجمهور المصري لفعالياته وامكانياته في خروجه علي الفرنسيين مطلع القرن التاسع عشر في غياب العثمانيين والمماليك معاً؟! صحيحٌ ان شيخه الجبرتي يعطي دوراً بارزاً في قيادة الثورة لشيوخ الأزهر والاشراف، لكن تنظيم الجمهور وانضباطه والتزامه بتحرير أرضه ومقدساته، كلُّ تلك أمورٌ، كانت ولا شكّ في ذهن محمد علي عندما دأب في ما بعد على ادخال "المصريين" في الجيش والادارة. والمعروف أنّ الجوانب السياسية في "الشورى" ما لبثت ان استُعيدت، وجرى الاستنادُ اليها في شرعنة الفكرة الدستورية، لكنها كما سبق أن ذكرنا ظلّت محدودةً بمقاومة الاستبداد، وعن طريق أهل الحلّ والعقد، وظلّ الاجماعُ إجماع "النخبة"، وليس اجماع "الجماعة". فلا تعليل لغياب مبدأ "سيادة الأمة" تدريجياً في الفكر الاسلامي المعاصر غير هشاشته لدى الاصلاحيين، تلك الهشاشة التي اصابها إلغاءُ الخلافة في الصميم، ثم ضربتها ضربةً قاصمةً صراعاتُ الأنظمة مع الاسلاميين. وقد مرَّ الأمر بمرحلتين، في المرحلة الأولى، جرى الفصل بين سيادة الأمة والدستور من جهة، والديموقراطية من جهةٍ ثانية. فقيل ان سيادة الأمة أو سلطتها هي في مواجهة الخارج الاستعماري، أمّا الديموقراطية فهي نظام وضعي يزيف غالباً عن طريق الأكثرية الانتخابية الضئيلة الحجم مقارنةً بمجموع الأمة إرادة الناس، بينما الشورى ليست كذلك. وفي المرحلة الثانية جرى نفيُ الأمور الثلاثة باعتبار أن مبدأ سيادة الشعب وسلطته، لا يعطي الأمة حرية الاختيار حقاً، بدليل اندفاع الجمهور وراء الفاشيين والنازيين ثم وراء القوميين. ولهذا ففي أواسط الستينات، كتب استاذنا محمد البهي، الذي كان خصماً للأخوان المسلمين، أنّ الاسلام لا يعرف مبدأ سلطة الشعب، ولا الديموقراطية أو الرأسمالية، بل ان الاسلام هو الاسلام! ووقتها كانت "الشريعة" التي اتخذت اساساً للمشروعية، قد تحولت الى ايديولوجيا نخبة، أو طليعة اسلامية، مثلما كانت الاشتراكية الثورية ايديولوجيا الطليعة الثورية، فكان انفصال الجماعة من الشريعة الداءَ العُضال الذي مسّ نُخاع منظومات رجالات الفكر الاسلامي الحزبيين وغير الحزبيين، والذي ما يزال يطاردهم حتى اليوم. واذا بدا ان بعض الفقهاء الدستوريين ظلوا متمسكين بالدستور، فليس لقولهم بالديموقراطية، وبمبدأ سلطة الشعب حقاً، بل لظنهم كما ظنّ الاصلاحيون من قبل، ان الدستور وسيلة لمقاومة استبداد الحاكم، وليس نتيجةً للقول بمبدأ سلطة الشعب وسيادته.
الافتراق بين الأمة والشريعة
آذَنَ ظهور رؤية الحاكمية أو ايديولوجيتها اذن بالافتراق بين الشريعة والجماعة أو بين الدين بوصفه مثالاً، والأمة بوصفها جماعةً مؤمنة به. فقد صارت تلك الايديولوجيا التي تحددها النخبة هي المعيار لإيمان الجماعة أو انعدامه، وما عادت هناك حلول وسطٌ: فإما ان تكون الأمة خاضعة لتلك الايديولوجيا فيثبت ايمانها، أو لا تكون كذلك في نظر محددي الايديولوجيا فيتضاءل الايمان الى حدّ الزوال، وتتفاقم ازمة المشروعية لتصل الى حدود التشكيك في الهوية الدينية والثقافية للمجتمعات الاسلامية. والمعروف ان شيوخ جماعة الاخوان المسلمين ما وافقوا سيد قطب على هذا الفهم للدين والشريعة، كما ظهر في كتاب المرشد العام حسن الهضيبي، المسمى: دعاة لا قُضاة. بيد ان نقد الجماعة لأطروحة سيد قطب ما انصب على رؤيته للجماعة وموقعها الحالي من الاسلام: بل تناول فهم سيّد قطب للحاكمية الإلهية، ولدور الدين في الأمة، ودور دُعاة الاسلام في أوساط الأمة. فهم لم يتساءلوا عن موقع المسلمين من الاسلام، وكيف تأسست مشروعيتهم بوصفهم أمته، وبوصف الاسلام ليس عقيدتهم أو ايديولوجيتهم وحسب، بل هو نمط حياتهم أيضاً. لذلك كان النقد منصباً في الحقيقة على أدلجة الدين، وعلى صحة القول ان الدين يزول أو يصبح الناس كفاراً أو جاهليين اذا جرى تجاهل أو اهمال احد مستلزمات الايمان او الاسلام أو العمل. فالاسلام - من وجهة نظر الشيوخ - مجموعة ضخمة من العقائد والشعائر والاعراف والمواصفات، وهو يزيد وينقص كما جاء في القرآن والسنّة، لكنه لا يزول إلا باختفاء كل آثاره، والمشاهد غير ذلك. وأياً يكن الزمان السياسي أو الثقافي: فإنه ليس من حق احد ان يحدد بضربة واحدة ما حدث، ثم يحكم بأنه يجب فرض الرؤية الصحيحة بكاملها على الناس من جديد. ان واجب رجالات الاسلام في كل الأحوال أن يكونوا دعاةً لدين الله، وأن يعظوا بالحسنى، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر - وذلك كلُّه بناءً على أن اصل الايمان باقٍ، وأنّ الأمة حرية بأن تستجيب لدعوات الخير والهدى بناءً على بقاء الأصل في متناولها. وقد جنَّبَ هذا التمييز بين الدين والايديولوجيا، وبين المجاهد والداعية الاسلام أن يتحول لدى جمهور الحزبيين الاسلاميين الى دوغما تشبه دوغمائيات اليسار السائدة يومها، لكنه أبقى الدين ودعوته في يد نخبةٍ هي نخبة الاحيائيين الحالين محل الفقهاء بدلاً من الطليعة الثورية التي لم يتابع سيد قطب فيها غير جماعات العنف في السبعينات والثمانيات، والذين تراوحت توجهاتهم بين تكفير المجتمع والدولة أو تكفير النظام وحده.
أما ما لم يتعرض له الاسلاميون غير الثوريين بالنقد والنقض، فهو تلك الرؤية للأمة وموقعها من الشريعة وموقع الشريعة منها وفيها. ولذلك بقي الافتراق بين الطرفين وتجذّر حتى عندما تراجعت أدلجة الشريعة في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين. فالمجتمع هُلامٌ يحضر فيه الاسلام الصحيح، والاسلام الشعبي، والتغرب، وطاغوت الحكّام - ومن هنا تأتي ضرورة الاصلاح، بل وضرورة الحلّ الاسلامي تطبيق الشريعة. فالخلافُ مع سيّد قطب ينصبُّ على الأدلجة تسييس الاسلام، وعلى أسلوب الدعوة، وحسب. أمّا ضرورة الوصول الى سيادة الشريعة الاسلام في المجتمع في شتى النواحي، فهو أمرٌ مسلّم به لدى سائر الاطراف. فالاسلام والشريعة لا يحضر في المجتمع الاسلامي بكماله لأنه استبطنه، وتأسست عليه مشروعيته وجوده المسوَّغ في هذا العالم، كما كان ذلك معنى "عصمة الأمة" لدى المسلمين القدامى، بل وفي القرآن الكريم كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس، بل ان الاسلام موجود بين ظهراني الأمة، لكنه لا يكتمل الا بتطبيق الشريعة = الحكم الاسلامي عن طريق قيام الدولة الاسلامية. لقد حدث الافتراق في البداية، لذلك كان لا بد من ان يحدث في النهاية أيضاً. فلأن ايمان الأمة كان مكتملاً في الرؤية الكلاسيكية: كانت مسائل "الامامة" = الحكم والسلطة من الاجتهادات وليس من التعبديات عند متكلمي الأشاعرة. ولأن ايمان الأمة واسلامها ما عادا كذلك لدى الإحيائيين: فإنّ "مسائل الأمة" = الحكم الاسلامي صارت من الضروريات: اذ ان الوصول للسلطة صار طريقاً لاكمال الدين واتمام النعمة. هذا الوصول أراده تقي الدين النبهاني فرضاً كفائياً، ان لم يقم به البعض، أثم الجميع. وهذا الوصول أراده سيّد قطب لتحقيق الحاكمية اعادة دين الله الى أرض الله. ثم ساد الفكر الاسلامي الإحيائي كلَّه.
ولقد كان مفهوماً ما دامت هذه النظرة الى موقع الأمة من الاسلام قد سادت، الاّ يجري بحث كثير حول الأمة ومكوناتها وفئاتها وطرائق وأساليب حياتها في ظل الاسلام. بل إن ابحاث المتستشرقين، والقوميين، حول حيوات الأمة الماضية دراسة آدم متز التي ترجمها أبو ريدة الى العربية مثلاً، ودراسات ساطع الحصري عن الأمة العربية، كان يجاب عنها بالحديث عن الاسلام وحضارته، وعن الشريعة وتفوقها على الشرائع الوضعية.
اشكالات المشروعية
لقد تضمن هذا الغياب لمبحث الأمة لدى الاسلاميين المحدثين والمعاصرين، في مقابل التركيز على مباحث الشريعة والفقه وتطبيقاتهما توجهاً للتخلي عن مقولة "أمة الاجابة" المفتوحة على "أمة الدعوة" العالم كلّه، باعتبار ذلك مشروع الاسلام الديني والحضاري، المشروع المفتوح الذي يستمر باستمرار الأمة التي تحمله ويتجه للتحقيق ويتغير ويتكامل على الدوام. كما تضمن هذا الغياب لمبحث الأمة الذي لا أعرف كتاباً للاسلاميين فيه غير رسالة الاستاذ محمد المبارك عن الأمة ومكوناتها مطلع الستينات احساساً من جانب الاسلاميين بفقدان الأمة بمعناها الاسلامي، لمصلحة المشروع الغربي للدولة الوطنية، بيئة الدولة/ الأمة، أو في الحقيقة بيئة الدولة / القومية. وهو الأمر الذي استنكره السيد رشيد رضا عندما قال إن الاسلام لا يقول بالجنسية والعصبية القومية. وعندما لم تعد الأمة مشروعاً قيد التحقق، لاخراج المعنى، أي الاسلام منها: فإنّ الاسلاميين اتجهوا الى الشريعة باعتبارها معطىً ناجزاً، لا يمكن اعادة فرضه إلاّ بالدولة، أو عن طريق سطوتها. وهكذا غصت دور النشر منذ الستينات بالكتب عن الدولة الاسلامية، دولة الراشدين، باعتبارها تجربة كبرى ناجحة، يمكن احتذاؤها اليوم. فالدولة وحدها هي الكفيلة باستعادة الاسلام المكتمل، أو انها الكفيلة وحدها بصون الهوية التي تتعرض للأخطار. وبذلك اكتملت الثنائية التي حلت محل الثنائية الكلاسيكية الاسلامية: الأمة حاضرة مبدئياً في الوعي والفقه القديم، لكن الخلافة تختصرها. والشريعة حاضرة في وعي النخبة الاسلامية المعاصرة، لكنّ الدولة هي التي تمكن من وضعها موضع التطبيق. فالمشروع السياسي الاسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين لم يقده منطق محاولة الوصول الى السلطة لإعادة السيادة للأمة التي اغتصبها الاستعمار، واغتصبتها النُخب المتغربة، بل قادهُ منطق ضرورة الوصول للسلطة من اجل استعادة المشروعية بتطبيق الشريعة. وبديهي ان يكون ذلك في مصلحة الناس لسببين: لأنه بها تنحفظ الهوية، ولأنه بها تتحقق العدالة الكاملة 1.
وإذا كانت مقولةُ الأمة قد غابت في الفكر الاسلامي المعاصر، والممارسة السياسية الاسلامية: فالمنطقي الاّ يكون هناك تفكير كثير في الآليات التي تمكن الناس من صون مصالحهم الخاصة والعامة، كما لم يكن هناك تفكير مقارن في التجارب الغربية الحديثة لتمكين الجمهور من مباشرة أمر مصالحه بنفسه. كانت هناك طبعاً تلك النزعة المعادية لكل ما هو غربي.
وكانت هناك طبعاً حقيقة ان الجمهور ما كان في أكثريته مستجيباً لدعوة الاسلاميين. بيد ان الأهم من هذا وذاك أن الوعي الذي ساد لدى الاسلاميين الباكستانيين والمصريين على الخصوص، وجود مشروع إلهي ناجز ومكتمل بأيديهم، لا تصحُ المساومة عليه بالاقتراع والانتخابات والألاعيب السياسية. فهم يمثلون ليس الأمة، بل دينها، أو أنهم يمثلون الروح العميق للأمة وهو الروح الذي لا تعيه الأمة بالقوة التي تدفعها للتحرك على أساس منه، بينما الأحزاب والتنظيمات الأخرى انما تمثل الضلالات الغربية المستوردة، أو في أحسن الأحوال الدولة الوطنية الجديدة، دولة الوعي المغلوط، والمصالح الشخصية الضيقة. ومن هنا كان تحالفهم مع الضباط الشباب، والوطنيين الراديكاليين الآخرين، الذين كانوا ساخطين مثلهم على التدخلات الأجنبية، والذين كانوا مثلهم يكرهون الحياة الحزبية. وعندما اختلفوا معهم في ما بعد، وفي مصر وباكستان، فإنما كان ذلك لاستبعادهم من جانب العسكريين المتحولين طبقة دولة، ولأن أولئك طوروا مشروعات لدولة حديثة لا تتلاقى وتصورات الاسلاميين للمشروع الاسلامي، وللحل الاسلامي. بيد ان الاسلاميين ما استطاعوا التلاقي مع العسكريين أو غيرهم منذ البداية على مبدأ أو مقولة سلطة الشعب التي انتهكوها على أي حال في ما بعد، وبالتالي امكان الوصول الى نظامٍ تمثيلي عن طريق الانتخاب، وحكم الأكثرية. فالواجب في الدين حكم الشريعة، الذي لا يخضع لاعتبارات الأكثرية والأقلية - وذلك طبعاً بعد ان صارت الشريعة مقولةً ناجزةً خارجية، وليست قيماً مدخلنة وقعت في أساس مشروعية الاجتماع الثقافي والسياسي للأمة. فكما غابت التفرقة الواضحة بين الشريعة والفقه عندما صارت الشريعة أيديولوجيا، كذلك غابت الأمة بفئاتها المتعددة، وصراعاتها، ووجوه عيشها، وأنظارها المختلفة في مباشرة شؤونها العامة، عندما جرى انتزاع الشريعة منها من جهة، وادغامها بالدولة من جهةٍ اخرى.
وقد دفع ذلك أبا الحسن الندوي- زميل المودودي، وأحد الاحيائيين الكبار من غير الحزبيين - الى انكار ذلك على المودودي برفقٍ في الجو الباكستاني: وإن متأخراً في السبعينات2.
لقد غابت مقولة الامة، فغابت مقولة سيادتها وسلطتها، وغابت بالتَبَع بحوث الآليات التي تمكن تلك الامة من ممارسة تلك السلطة في صون مصالحها وتدبيرها او تنظيمها. وفي النصف الثاني من الثمانينات عام 1986 بالتحديد كان باحثان اسلاميان، احدهما مؤرخ وكاتب دراسات منهجية، هو محمد فتحي عثمان، والآخر فقيه دستوري هو مصطفى كمال وصفي، ما يزالان يتجادلان حول المسلم والعمل السياسي. فقد رأى محمد فتحي عثمان ووافقه على ذلك محمد رضا محرم ان المسلم يستطيع ان يكون يمينياً او يسارياً، في توجهاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. بينما رأى وصفي ان المسلم لا يستطيع ان يكون الا مسلماً3! وقد ورث الاحيائيون الاسلاميون المعاصرون عن الاصلاحيين مقولة الحكم المدني في الاسلام، ولا يزالون يصرون عليها. وقد تجادلتُ في عمّان قبل اشهر مع محاضر ذهب الى ان الحكم في الاسلام هو حكم الشريعة المعصومة. فقلت: لكنك ذكرتَ ان نظام الحكم في الاسلام مدني! فأجاب: اقصد به ان الحاكم انسان يصيب ويخطئ، وليس رجل دين شأن المسيحية في العصور الوسطى. قلت: لكن اساس المشروعية في النظام الاسلامي الذي يدعو اليه الاسلاميون الحزبيون هو الشريعة المعصومة، والخطأ في التطبيق لا يغير من "الطبيعة الالهية" للمشروع؟ وقد ادرك ذلك ابو الاعلى المودودي عندما اعتبر - لهذا الاعتبار بالذات - نظام الحكم الاسلامي ثيوقراطياً، اي انه حكم الله او حاكميته، بحسب المودودي وسيد قطب. وبذلك يصبح مفهوماً اصرار الاسلاميين الحزبيين على صيغة "الخلافة"، وبعدها على صيغة النظام السياسي او شكله. فما دام المشروع الهياً" فإن الصيغة تتخذ أيضاً طبيعة قدسية. ومن هنا تأتي ضرورة ان تتولى الدولة وليس الامة تطبيق الشريعة المقدسة. ان "الدولة الاسلامية" دولة عقائدية لاستنادها الى الشريعة الاسلامية التي تتضمن الاعتقاد والعمل. ودولة كهذه لا يمكن الركون في الوصول اليها الى الناس والى الانتخابات والى البرامج الحزبية المتعددة والمختلفة. اذ معنى ذلك المساومة والتسويات على حساب المبدأ الذي هو شرع الله وحكمه.
الحواشي
1 ذهبت في كتابي: سياسيات الاسلام المعاصر 1997 الى أنّ المقصود بشعار: "الاسلام دينٌ ودولة، ومصحفٌ وسيف "كان دغم الدولة في الدين أو الغاؤها لمصلحته. لكنني أرى الآن بعد قراءة ثانية لنصوص الستينات والسبعينات أن "الدولة" انما حلَّت محلّ "الأمة" في وعي الاسلاميين، بعد ان حصرت ظروف تأزم الدين في الشريعة، وحولت الشريعة الى ايديولوجيا. وقارن عن هذا التحول في الفكر من "الأمة" الى "الدولة" مقالة فهمي جدعان: نظريات الدولة في الفكر العربي الاسلامي المعاصر: في: الأمة والدولة والاندماج في الوطني العربي. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت 1989، م1، ص 115-128.
2 ابو الحسن الندوي: التفسير السياسي للاسلام في مرآة كتابات الاستاذ أبي الأعلى المودودي والشهيد سيد قطب. دار القلم. الكويت.
الطبعة الثالثة، 1981.
3 محمد رضا محرم: تحديث العقل السياسي الاسلامي، مرجع سابق.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.