} إن "الله عز وجل إنما بعث رسولَهُ رحمةً ليجمع به الفرقة، وليزيد الأُلفة" ولم يبعثه ليفرّق الكلمة، ويحرّش الناس بعضهم على بعض". أبو حنيفة: رسالة العالم والمتعلّم يقول قاسم أمين 1863- 1908 في تأبين الإمام محمد عبده 1849- 1905 في الاحتفال الذي أقيم له في أربعينه 20 آب/ اغسطس 1905: "... نحن اليوم في عصرٍ توفرت فيه ظروف عديدة تساعد على ارتقاء بلادنا إذا عرفنا ان نستخدمها. نحن في عصر النظام والسلام والحرية التي لا تقف إلاّ عند حدود القانون..."1. هذا الانطباع الإيجابي عن العصر الحديث والدولة الحديثة، ما كان انطباعَ قاسم امين، صاحب كتابي "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة" وحده، بل إنه الانطباع المبكّر أو الأول أيضاً لتلميذ آخر من تلامذة محمد عبده هو محمد رشيد رضا مُصدِر مجلة "المنار" بين عامي 1899 و1935. يقول رشيد رضا عام 1907 مُجيباً أحد قراء مجلته، والذي اقترح عليه إطلاق اسم "الشورى" أو "نظام الشورى" على نظام الحكم الدستوري والديموقراطي ما داما متماثلين2: "لا تقل أيها المسلم إن هذا الحكم المقيّد بالشورى أصل من أصول الدين، ونحن قد استفدناه من الكتاب المُبين، ومن سيرة الخلفاء الراشدين، لا من معاشرة الأوروبيين والوقوف على حال الغربيين. فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس لما فكرت أنت وأمثالك أن هذا من الإسلام...". ويبدو ان تلك التوافقية المنفتحة والمُسالمة، والتي ترى أن السبل الغربية هي المتاحة للتقدم، كانت شاملة لدى الإصلاحيين هؤلاء، وإن اختلفت تعليلاتُها. فبينما يرى فيها محمد عبده وقاسم امين وعبدالرحمن الكواكبي، وسليمان البستاني، ورشيد رضا فرصة للتجدد الديني والحضاري والسياسي، رأى فيها الإصلاحي الأقدم خير الدين التونسي ضرورة لا مخرج في غيرها من وهدة التخلف والاستعمار3: "إن التمدن الأوروباوي تدفق سيلُه في الأرض فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع. فيُخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار إلا إذا حذَوا حذوه، وجرَوا مجراه في التنظيمات الدنيوية فيمكن نجاتُهم من الغَرَق...". وهكذا فإن النظام الغربي الحديث، والدولة المشرقية الناشئة على مثاله وفي ظل سيطرته، هي البيئة التي تترعرع وتكبر فيها في ظل مبادئ السلام والعدالة والحرية، الهوية العربية والإسلامية المتجددة، من دون ان يعني ذلك ان الغربيين ملائكة أطهار، بل إن ما يعنيه الاقتناع بالتلاقي الضروري بين قيم الإسلام الأصيلة - والتي وقعت في أصل الحضارة الأوروبية - والتنظيمات والضمانات الدستورية والقانونية التي تطورت في التجارب الغربية عبر القرون4. على أنّ هذا المشهد التواصلي المتفائل على المستويين الحضاري والسياسي، داخلته تحولات في عشرينات القرن العشرين بعد سقوط الامبراطورية العثمانية، وإلغاء الخلافة، وسيطرة المنتصرين في الحرب الأولى على أكثر بقاع المشرق. وهناك شاهدان مبكران على هذا التغير في رؤية الغرب، وبالتالي في ثقافته ونظُمه وسياساته. الشاهد الأول ذلك الجدال الذي اشتعل من حول كتابي علي عبدالرازق 1925، وطه حسين 1926. ولستُ أقصد هنا الى الخوض في تفاصيله، بل ذكر الانطباع الذي تأكد لدى المجادلين للرجلين، والذابّين عن حياض الخلافة والإسلام. مؤدّى ذلك الانطباع ان التواصل بين الحضارتين الأوروبية والإسلامية عسير بل ربما يكون متعذراً لقيام الحضارة الأوروبية على الفصل بين الدين والدولة، ولقيام نظمها الاجتماعية والسياسية على أساس القومية5. أما الشاهد الثاني على تغير المشهد في حقبة ما بين الحربين. فمقالة كتبها ابو الأعلى المودودي، المناضل الإسلامي في شبه القارة الهندية، عام 1941 بعنوان: "انتحار الحضارة الغربية"، وتُرجمت بالقاهرة الى العربية عام 19436. يقول المودودي7: "إن سنة الله تتكرر اليوم أمامنا. فوبالُ الأعمال السيئة الذي ذاقته الأمم السالفة يحيق اليوم بالأمم الغربية... فآفات الحرب العالمية، ومشكلات الاقتصاد، وازدياد التعطل، وانتشار الأمراض الفتّاكة، وتبدد النظام العائلي، كل أولئك آيات بينات لو تأملوها لعلموا أن ذلك ثمرة ظلمهم وعتوّهم...". ويتابع المودودي قائلاً إن هلاك الحضارة الغربية محتّم لسيطرة شيطانين عليها إذا صح التعبير: شيطان تضاؤل النسل، وشيطان القومية. وتتكرر هذه التشخيصات السلبية للغرب وحضارته ونظمه وقوانينه في الأربعينات والخمسينات، ولدى الإسلاميين والماركسيين وبعض الليبراليين تحت وطأة أهوال الحرب الثانية، وصولاً الى رؤية الحاكمية لدى المودودي نفسه وسيد قطب، والتي تقسّم العالم الى نهجين ونظامين: نهج الجاهلية الذي يسودُ العالم، ونهج الحاكمية الإلهية وهو نهج الهدى والنور، والذي تُعرِض عنه البشرية التي يسيطر الغرب على أفكارها ونظمها وأوطانها. يقول سيد قطب8: "إن المجتمعات القائمة كلها مجتمعات جاهلية وغير إسلامية... وإنه لينبغي التصريح بلا وجَل أنّ الإسلام لا علاقة له بما يجري في الأرض كلّها لأن الحاكمية ليست له. والبديل الوحيد لهذه الأوضاع الزائفة هو أولاً وقبل كل شيء قيام مجتمع إسلامي يتخذ الإسلام شريعة له، ولا تكون له شريعة سواه...". وقد عنت هذه الرؤية للعالم والذات أمرين اثنين: مكافحة النظام العالمي السائد بشتى الوسائل والسُبُل، والاتجاه لطرح بدائل وتصورات لنظام آخر سمّاه الإمام حسن البنا في مقالاته عن التصور الإسلامي للسلام عام 1947: "نهج المرحمة والسلام"9، وسمّاه الشيخ يوسف القرضاوي عام 1974 الحلّ الإسلامي لمشكلات البشرية10. ... إلى المشهد الأول المتعلق بالحضارة والنظام، هناك مشهد آخر يعرض للتحولات في رؤية العالم، وفي العلاقة به لدى الإسلاميين، وعنوانه هذه المرة: الجهاد. وسنبدأ بعرض المشهد من آخره أو من ذروته. فقد افتتح النائب العام المصري محاكمة قتلة الرئيس أنور السادات - الذين كانوا ينتمون الى تنظيم الجهاد - بعرض مفهوم آخر للجهاد في سبيل الله عندما قال إن الجهاد الحقّ هو الجهاد ضد أهواء النفس، ضد الشيطان، المتمثل في الفقر والمرض والجهل. أما الزعم بأنّ الجهاد يعني مقاتلة أعداء الله فغريب عن التفكير الإسلامي السليم! وأجاب أحد المتهمين أن هذا التأويل للجهاد لا يعرفه احد من علماء المسلمين وفقهائهم، فلا شك ان النائب العام تلقّاه بوحي مباشر، لكن ليس من عند الله11! بيد أن هذا الموقف العبثي أو المأزقي، ما حاصر السلطات الرسمية وفقهاءها وحسب، بل حاصر الإسلاميين أيضاً. فقد ظهرت اعتذاريةُ الطابَع الدفاعي للجهاد في ثلاثة مواطن في العالم الإسلامي في الوقت نفسه تقريباً: في الهند وفي الجزائر، وفي مصر. ففي الهند تصاعد لدى المسلمين مع التغلغل البريطاني اواخر القرن الثامن عشر، وضعف دولة المغول هناك، قلق إسلامي على المشروعية، أي مشروعية العيش تحت حكم الكفّار، وهل تظل الدار دار إسلام؟ والمعروف في المنظومة الإسلامية الكلاسيكية أنه عندما يستولي غير المسلمين على دار من ديار الإسلام، فهناك احد إمكانين: الجهاد من أجل التحرير وإعادة المشروعية، أو الهجرة إن تعذر الجهاد. وعلى الهجرة استقرّ رأي أكثرية فقهاء المالكية في حالتي صقلية، والأندلس12. وقد زاوج المسلمون الهنود، تبعاً لظروف الغلبة البريطانية في نواحي الهند المختلفة، بين الأمرين. وتبيّن بالتجربة ان الحلين كانا كارثيين. فالذين كانوا يحاولون الهجرة إلى أفغانستان، كانوا يتساقطون في الطريق مرضاً وجوعاً أو يسطو بهم الهندوس. أما المجاهدون فكانوا ينهزمون في النهاية، ويتعرضون للإفناء أو الاستعباد. ثم كان أن جمع المسلمون قواهم وتمردوا على البريطانيين تمرداً شاملاً عام 1857م، وعانوا من هزيمة شنعاء، أنهت كل إمكانٍ للمقاومة. وقتَها ظهر في أوساطهم تيار سلمي تزعمه السيد أحمد خان، يحرّم القتال في ظروف الاستضعاف، بل ويؤول الآيات القرآنية التي تدعو إليه أو يقول بنسْخها13. وفي الجزائر، احتار الفقهاء بماذا ينصحون الناس عندما غزاها الفرنسيون عام 1831. فالفقهاء الأحناف - وكانوا قلة في الجهاز الرسمي للدولة - رأوا إمكان استمرار الناس في ديارهم ما داموا يستطيعون تأدية شعائرهم الدينية بحرية. والفقهاء المالكية رأوا ضرورة الهجرة من أجل التجمع على حدود المغرب، وإطلاق حركة جهادية من هناك تزعمها شيخ الطريقة القادرية الأمير عبدالقادر الجزائري كما هو معروف. لكن هزيمته وأسره عام 1848م دفع الى فتاوى تشبه آراء السيد احمد خان14. وفي مصر واجه الشيخان الأفغاني وعبده - في منفاهما في باريس - دعاوى هانوتو ورينان وآخرين بالذهاب الى أن الجهاد دفاعي وأنّ المسلمين في السودان أو في مصر أو في الجزائر إنما يدافعون عن أوطانهم في مواجهة الاستعمار، فلا داعي لتحقيرهم بحجة انهم يشنّون حرباً دينية، أو أن الدين الإسلامي عدواني لأنه انتشر بالسيف15. بيد أن التطورات التي استجدت في رؤية المسلمين للعالم في حقبة ما بين الحربين، وتصاعدت بعد الحرب الثانية اسقطت الاعتذارية الدفاعية، وأعادت الأمور تدريجاً الى ما يشبه ما كانت عليه في الهندوالجزائر في النصف الأول من القرن التاسع عشر. كان الأستاذ أبو الكلام آزاد قد دعا المسلمين في شمال الهند للهجرة عام 192016. وفي العام 1928 كتب أبو الأعلى المودودي رسالة في الجهاد رد فيها على دعاوى دوائر معينة حول المهاتما غاندي عن الطبيعة العدوانية للإسلام. ثم في العام 1939 كتب رسالةً عن "الجهاد في سبيل الله" رفض فيها فكرة دفاعية الجهاد، وقال إنه دفاعي لردع العدوان وهجومي لإعلاء كلمة الله في الأرض، في الوقت نفسه17. وفي العام 1947 كتب الشيخ حسن البنا رسالة عن الجهاد قال فيها إن أغراضه تتلخص في ما يلي18: رد العدوان والدفاع عن النفس والأهل والمال والوطن والدين - وتأمين حرية الدين والاعتقاد عندما يتعرض المؤمنون للاضطهاد - وحماية الدعوة في انتشارها - وتأديب ناكثي العهد من المعاهدين - وإغاثة المظلومين من المؤمنين. لكنْ مع سيد قطب صار واضحاً أنه يناقشُ من جديد مسألة المشروعية. فالجهاد عنده لم يعد ممارسة تجاه الخارج المعادي أو غير المعادي، بل هو وسيلة أيضاً لإعادة المشروعية الإسلامية الى المجتمعات التي عُرفت تقليدياً بأنها مسلمة، إذ يرى أنها لم تعد كذلك لسيطرة الجاهلية الغربية عليها. وهكذا صارت أغراض الجهاد عنده: حماية المؤمنين حتى لا يُفتنوا عن دينهم - وكفالة حرية الدعوة، وإزالة كل قوة طاغية تقف في وجهها - وإقرار سلطان الله في الأرض- وإقامة العدالة الكبرى في العالم..." فالجهاد في سبيل الله هو جهاد لتحقيق ربوبية الله للعباد لتكون كلمة الله هي العليا، لا بإكراه الناس ليكونوا مسلمين، بل بإتاحة الفرصة لهم ليخلصوا من ربوبية الطاغوت..."19. ومُضياً مع توجه سيد قطب، فإنّ ما عُرف بتنظيمات الغضب الإسلامي في السبعينات والثمانينات، أصدرت كلها نشرات ورسائل تعتبر فيها الجهاد فرض عين، لا لأنّ ديار المسلمين محتلة من الأجانب وحسب، بل ولأن الدولة لم تعد مسلمة لاستيلاء الجاهلية عليها، أو لأن الجاهلية عمّت الدولة والمجتمع معاً نتيجة للظلام الآتي من الغرب. وهكذا اضطربت صورة العالم لدى كثرة من الإسلاميين في الستينات والسبعينات أشدّ الاضطراب. فما عادت هناك دول ولا حضارات، بل إيمان وكفر. وفي حين كان الكفر شاملاً مطبقاً على العالم كله، فإن الإيمان تضاءل وجوداً وأثراً بحيث صار قاصراً على الجماعة الصغيرة التي تقاتل باسمه متسلحة الى جانب الحديد والنار بآيات من آي القرآن، أو شذرات من ابن تيمية وابن كثير والمودودي وسيد قطب20. ولا يعني ذلك طبعاً أن الفقهاء المسلمين، ورجالات الفكر الإسلامي كانوا جميعاً موافقين على هذا الفهم للجهاد21. فالمعروف انه حتى في أوساط شيوخ الإخوان المسلمين، كان هناك من ردّ على مسألة تكفير المسلمين أو القول بوجوب الجهاد الداخلي22. لكن أولئك الإسلاميين المعتدلين إنما كانوا يدافعون عن إيمان المجتمعات الإسلامية، كما أنهم ما كانوا يؤيدون التغيير بالقوة. لكنهم ما كانوا يملكون في الوقت نفسه رؤية مختلفة عن رؤية الإسلاميين المتشددين، للعالم. ... ويتعلق المشهد الثالث والأخير بالموقف من ميثاق الأممالمتحدة الصادر عام 1945، ومن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948. فقد صدرت الوثيقتان في وقت كانت فيه الإحيائية الإسلامية تُبلور أطروحاتها الرئيسية. وقد بدأ تأثيرها يتعدى حدود الأحزاب التي ترفع شعارات الحل الإسلامي والدولة الإسلامية او استعادة الخلافة. وبذلك فإنّ ثقافة الهوية والخصوصية كانت تتجه لتكون هي السائدة، واستناداً إليها نظر الإسلاميون المعتدلون الى الميثاق والإعلان باعتبارهما تحصيل حاصل، وقد سبقهما الإسلام الى المبادئ والتوجهات الكبرى. اما المتشددون فقد رفضوا البيان مبدئياً باعتبار قيامه على "الحق الطبيعي"، بينما الحقوق والواجبات في الإسلام إنما هي تكاليف ربانية. ونعى فريق رابع - صار يشكل الغالبية اليوم - على ازدواجية المعايير في تطبيق مبادئ الميثاق والإعلان23. ونملكُ من هذه الفترة المبكرة 1945- 1958 ثلاث وثائق عن النظرة الى الإعلان والميثاق. ولهذه الوثائق دلالة كبرى في ما يتعلق برؤية العالم وقيمه والموقف منه. أولى الوثائق مجموعة مقالات للإمام حسن البنا بعنوان: السلام في الإسلام 1947، وثانيتها السلام العالمي والإسلام 1956 لسيد قطب. والوثيقة الثالثة للشيخ محمد الغزالي بعنوان: حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأممالمتحدة 1958. يبدأ الإمام البنا رسالته بإعلان إفلاس الغرب الديموقراطي والفاشي والنازي والماركسي الشيوعي. ثم يذهب الى أن الإسلام سبق الى إعلان الأخوة الإنسانية، والتبشير بالفكرة العالمية من طريق: تقرير وحدة الجنس والنسب، ووحدة الدين، ووحدة الرسالة، ووحدة الشعائر، وتقرير معاني الرحمة والإيثار والإحسان. فإذا كان الإعلان العالمي بياناً بشرياً تكثر فيه الأخطاء والتجاوزات" فإن الإمام البنا يرى أن الإعلان الرسمي هو إعلان الأخوة الإنسانية. ثم ينصرف البنا للدفاع عن الإسلام في وجه من يقول إنه انتشر بالسيف. فيذهب الى ضرورة السيف من اجل حماية الحق. ثم ينصرف للاستشهاد على المبادئ الإنسانية للسلام في الإسلام بآيات من القرآن، وأحاديث من السنة، وقصص من التاريخ الإسلامي. ويختم البنا رسالته بالحديث عن زوال عصبة الأمم، وقيام الأممالمتحدة من اجل الحفاظ على السلام. وينصح البنا المثقفين وأهل الرأي بالركون الى الإسلام وترك المبادئ والمواضعات الأخرى التي أثبتت عدم جدواها. ويبدأ سيد قطب من موقع آخر، فالعقيدة السليمة هي التي تؤسس لكل ما عداها، لذا فالإعلانات والمواثيق مهما بلغ جمالُها الظاهرُ لن تؤسس لشيء لأنها لا تستند الى عقيدة سليمة بل الى نوازع بشرية نسبية مهما بلغت طهوريتها. ثم يمضي قطب قُدُماً في إيضاح ركائز سلام الضمير لدى الأفراد، فسلام البيت والأسرة، ثم سلام المجتمع... وأخيراً سلام العالم. ويوشك الغزالي ان يكون - بعد علي عبدالواحد وافي24 - في طليعة الذين قارنوا بالتفصيل بين الإعلان العالمي ومبادئ الإسلام. وخلاصة رأيه أن التوافق بين الطرفين يجعل الإعلان تحصيل حاصل. اما في النقاط المختلف عليها، فلا شك ان مبادئ الإسلام هي التي ينبغي ان تسود. هكذا يشترك الثلاثة في الاقتناع بأن الإسلام يملك مذهباً في الإنسان وحقوقه، وهو أفضل بما لا يقاس من المواثيق والبيانات والعهود الدولية. وقد حفلت العقود الأخيرة - وبخاصة بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران - بعشرات الدساتير والإعلانات الإسلامية لحقوق الإنسان. وهي لا تختلف كثيراً عن المواثيق والإعلانات الدولية، لكنها تعتبر القرآن والسنّة مرجعية لها، وتؤكد على التباين في بعض التفاصيل المتعلقة بحقوق المرأة وحرياتها25. ولا تستحق التفاصيل المختلف عليها ان تعلن من اجلها بيانات مستقلة. لكن الإسلاميين فعلوا ويفعلون ذلك تأكيداً للاستقلالية القيمية والخصوصية والندية. وهكذا فإنّ الأمر لا يتعلقُ بمفاهيم مختلفة للسلام والعدالة والمساواة والحرية، بقدر ما يتعلقُ برؤية العالم، ودور المسلمين فيه، واعتبار أن هويتهم الذاتية تتهدد إن سعوا للانصهار في العالم أو المشاركة فيه من دون شروط. وهناك من جهة أخرى ما يعتقدونه ويلاحظونه من ازدواجية في المعايير، تفقدهم الثقة بالمنظمات الدولية وإعلاناتها. فالدول الكبرى - وبخاصة اميركا - تسيطر على الأممالمتحدة، وعلى المنظمات الدولية الأخرى، فلا تكون قراراتُها صادرة استناداً الى قيم العدالة والسلام، بل إصغاء لمصالح الولاياتالمتحدة، واستراتيجيتها العالمية26. الحواشي 1 قاسم أمين: الأعمال الكاملة. دراسة وتحقيق الدكتور محمد عمارة. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1976، المجلد الأول، ص 255 - 256. 2 قارن بوجيه كوثراني: مختارات سياسية من مجلة المنار، دار الطلليعة ببيروت، 1980، ص97. ورضوان السيد: سياسيات الإسلام المعاصر، مراجعات ومتابعات، دار الكتاب العربي ببيروت، 1977، ص247- 248. 3 خير الدين التونسي: أقوم المسالك الى معرفة أحوال الممالك. تحقيق المنصف الشنوفي. الدار التونسية، 1972، ص50. وانظر قراءة نقدية لفكر خير الدين التونسي بقلم مصطفى النيفر: "خير الدين التونسي، حسن الإدارة أم دولة حديثة؟" بمجلة الاجتهاد، عدد 16/17، ص11- 62. 4 قارن بعلي عبدالرازق: الإسلام وأصول الحكم. مطبعة مصر، 1925، ص 39، وص 80، وطه حسين: مستقبل الثقافة في مصر، مطبعة دار المعارف بمصر، 1937، ص 16- 19، ورضوان السيد: سياسيات الإسلام المعاصر، مرجع سابق، ص 243- 247. 5 أنظر كتاباً تأسيسياً في هذا الصدد هو عبارة عن مجموعة مقالات مترجمة لأبي الأعلى المودودي بعنوان: نحن والحضارة الغربية، القاهرة 1955. وهناك كتاب الإسلامي الهندي الآخر أبي الحسن الندوي، بعنوان: الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية. بيروت 1954. ولسيد قطب: الإسلام ومشكلات الحضارة، وقد صدر للمرة الأولى عام 1955. وقارن برضوان السيد: الإسلاميون والعولمة، العالم في مرآة الهوية. مجلة آفاق. بيروت. العدد 19، 1997، ص 34- 41، وفي كتاب: الدين والعولمة والتعديدية، جامعة البلمند، لبنان 2000، ص 85- 106. 6 نُشرت مرة أخرى في مجموعة مقالاته الصادرة بالقاهرة عام 1955 بعنوان: "نحن والحضارة الغربية". 7 نحن والحضارة الغربية، مرجع سابق، ص 52، وص242. 8 سيد قطب: معالم في الطريق، نشرة العام 1980 بدار الشروق بالقاهرة، ص 190- 191. وقد صدر الكتاب للمرة الأولى عام 1964. 9 الإمام حسن البنا: السلام في الإسلام - وهو مجموعة مقالات نُشرت عام 1947، وطُبعت مجموعة في منشورات العصر الحديث، بيروت، 1971، ص 82. 10 يوسف القرضاوي: الحل الإسلامي فريضة وضرورة، دار الشروق، نشرة العام 1981، ص 9- 10. وقارن بأحمد الموصللي: الأصولية الإسلامية والنظام العالمي، مركز الدراسات الاستراتيجية، بيروت، 1992، ص 11- 53. 11 قارن بنعمة الله جنينة: تنظيم الجهاد، هل هو البديل الإسلامي في مصر؟ القاهرة، 1988، ص 110. 12 قارن عن المسألة رسالة الونشريشي: أسنى المتاجر فيمن غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر، تحقيق حسين مؤنس، بمجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد، م5/ 175- 198. 13 قارن: Aziz Ahmad, Islamic Modernism in India and Pakistan 1967, PP.19- 86, Rudolph Peters, Islam and Colonialism 1979, PP. 45- 57. 14 C.R. Ageron, Les Algeriens Musulmans et la France. Paris 1968, Vol II 1079 - 1092, Peters, op. cit 61- 64. 15 محمد عبده: الإسلام والرد على منتقديه، القاهرة 1928، وللمؤلف نفسه: الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، منشورات الهلال، 1960. وردُّهُ على هانو توفي المؤيّد 29 ربيع الأول 1318ه ونُشر في ما بعد في تاريخ الأستاذ الإمام، مطبعة المنار، 1931، م2، ص 311- 314. 16 F.S. Priggs, "The Indian Hijrat of 1920", MW20 1930, PP.164- 168. 17 المودودي، البنا، سيد قطب: الجهاد في سبيل الله 1977. وهي ثلاث رسائل نشرها تنظيم الجهاد، مع مقدمة طويلة بقلم أحد اعضائه. 18 حسن البنا: الجهاد في سبيل الله ضمن: ثلاث رسائل 1977، ص 68- 72، وللمؤلف نفسه: السلام في الإسلام، مرجع سابق، ص 51- 52. وقارن بابراهيم البيومي غانم: مفهوم الدولة الإسلامية في فكر حسن البنا، بمجلة الاجتهاد، عدد 14، السنة الرابعة، 1992، ص 162- 166. 19 سيد قطب: السلام العالمي والإسلام، دار الشروق 1983، ص 169- 171، وأحمد الموصللي: الأصولية الإسلامية. دراسة في الخطاب الأيديولوجي والسياسي عند سيد قطب. الناشر للطباعة، بيروت 1993، ص 206- 215. 20 رفعت سيد أحمد: النبي المسلّح1: الرافضون: وثيقة رسالة الإيمان لصالح سرية صدرت عام 1973 ص 31- 52 - الوثيقة الثالثة: منهج جماعة الجهاد الإسلامي من إعداد عبود الزمر 110 وما بعدها - الوثيقة الرابعة: الفريضة الغائبة لمحمد عبدالسلام فرج عام 1979، ص 127- 149 نشر رياض الريس - بيروت، 1991. 21 جادل كثيرون في مشروعية القتال الهجومي، من مثل محمود شلتوت ومحمد أبو زهرة، وصولاً الى الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي. 22 في كتاب: دعاة لا قضاة 1977. 23 قارن بدراستي: مسألة حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي المعاصر، في: سياسيات الإسلام المعاصر، مرجع سابق، ص 243 - 261. 24 علي عبدالواحد وافي: حقوق الإنسان في الإسلام، 1955. وبين يديّ طبعة من العام 1979. وقارن بكتاب الغزالي: حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأممالمتحدة، دار الدعوة، 1993. 25 قارن بابراهيم عبدالله المرزوقي: حقوق الإنسان في الإسلام، منشورات المجمع الثقافي، أبو ظبي، 1997، ص 219 - 284، وعمر القاري: حقوق المرأة بين المواثيق الدولية والإسلام السياسي، مركز القاهرة لحقوق الإنسان، 1999، ورضوان السيد، مرجع سابق، Ann Elisabeth Mayer, Islam and Human Rights, Tradition and Politics, 1991, P. 83- 142. 26 K.Wolff, New Orientalism: Political Islam and Social Movement Theory, In A. Mossalli, Islamic Fundamentalism, 1998, PP.41- 74. * كاتب لبناني