أصبح من الصعب اليوم القيام بدراسة موضوعية متجردة عن علاقة الديني بالسياسي في الإسلام الأول، وفي التجربة السياسية التاريخية للعرب والمسلمين. فالإسلام السياسي يُلقي بظلاله الكثيفة منذ عقود على الحاضر كما على الماضي. وتحت هذه الظلال الكثيفة ليس من السهل عدم القول باندماج الديني والسياسي في تجربة النبي صلى الله وعليه وسلّم والمسلمين الأولين، وفي التجربة التاريخية الوسيطة. وليس بالوسع تحميل الأصولية الاسلامية "المسؤولية" الوحيدة عن ذلك، إذا صح التعبير. فالمعروف أن المسلمين من الهند والى مصر فُجعوا بإزالة مصطفى كمال أتاتورك للخلافة عام 1924. والمعروف أن السلطان العثماني المتزيِّن بلقب الخليفة التاريخي ما كانت له إبّان ذاك أية قوة سياسية. ولذلك فقد كانت الفجيعة بالخلافة فجيعة دينية، للإحساس بارتباط الإسلام / الدين بها في نظر العامة ورجال الدين على الأقل. وباستثناء "حزب التحرير" تخلّت الحركات السياسية الإسلامية الآن عن الدعوة لاستعادة الخلافة. لكنّ ذلك لم يقلّل من تمسُّك الإسلاميين جميعاً بالترابط بين الدين والدولة في عالم الإسلام، بل الأحرى القول انه زاد على ما كان معروفاً في الإسلام التقليدي وسط بروز أطروحة الدولة الإسلامية، التي يشكّل شعار "تطبيق الشريعة" جوهر مهماتها السياسية وغير السياسية. ونريد في هذه العجالة التفرقة بين مرحلتين في التجربة التاريخية بين الدين والدولة: مرحلة النبوة والخلافة الراشدة، ومرحلة الخلافة التاريخية، والتي امتدت منذ مطلع القرن الثامن الميلادي وحتى سقوط الدولة العثمانية، على اختلاف بين الباحثين والمؤرخين في حقيقة ذلك أو تواصله. وقد يكون من الصعب هنا أن نسلك سلوك علي عبدالرازق - 1966 في كتابه: الإسلام وأصول الحكم 1924 عندما اعتبر النبي صلى الله عليه وسلّم شخصية دينية بحتة لم ترَ لنفسها مهمة سياسية، أو انها لم تعتبر العمل السياسي جزءاً من رسالتها الدينية. لكن باحثين معاصرين، ومن بينهم بعض المستشرقين، تساءلوا عن تصرفات النبي صلى الله عليه وسلّم الدنيوية غير ذات الضرورة لاستمرار الإسلام مثل الغزوات، وإرسال الوُلاة، فحتى لو قلنا مع علي عبدالرازق ان تصرفات النبي صلى الله عليه وسلّم في المجال السايسي على فرض انها كانت تصرفات رجل دولة أو سلطة ما كانت مُلزمة، أفلا يعني ذلك من جهة أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان قاصداً لإنشاء سلطة سياسية، بغضّ النظر عن الشكل الملزِم أو غير المُلزِم؟ وإذا صح ذلك فهذا يعني أيضاً أنه صلوات الله وسلامه عليه كان نبياً وزعيماً سياسياً في الوقت نفسه. وإذا أخذنا برواية ابن سعد والطبري والبلاذري لوقائع ظهور "الخلافة" فإن الأمر يختلف ولا شك، لكن الى أي حد؟ فمن الواضح ان المجتمعين في "السقيفة" بايعوا أبا بكرٍ "بالأمر"، وأن التسمية كانت "أمير المؤمنين"، وجاء لقب "الخليفة" أو "خليفة رسول الله" في ما بعد. وما كانت لأمير المؤمنين طبعاً سلطة دينية تُشبه سلطة النبي صلى الله عليه وسلّم. كما أن تصرفاته ما كان الإلزام فيها ناجماً عن موقعه الديني، بل عن "البيعة" التي أعطاه إياها الناس. لكن أمير المؤمنين كان يعتبر من ضمن مهماته حماية الدين ونصرته، بل وكان قمع "المرتدين"، والقيام بالفتوحات، يتمان باسم الدين. وعندما قامت المعارضات ضد عثمان وعلي رضي الله عنهما، ثم ضد الأمويين، فإنها كانت باسم الدين، وكانت تتهم "القائم بالأمر" بمخالفة الدين في هذه المسألة أو تلك، وبذلك تستحلُّ التمرد عليه أو قتله. فإذا لم يكن الناس أيام الراشدين والأمويين والعباسيين يدمجون بين الدين والسلطة السياسية، فلا شك انهم كانوا يعتبرون أن هناك علاقة خاصة بين الأسلام والخلافة، تهب ذاك المنصب مهابة وسلطات لا يملكها السلاطين أو الحكام العاديون الذين ظهروا عندما ضعُفت الخلافة في العصر العباسي الثاني. والمعروف أن الفقهاء "الدستوريين" - إذا صحّ التعبير - حاولوا جلاء هذا الغموض في علاقة الخلافة بالإسلام أو الدين بالدولة بعد القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي عندما ذهبوا الى أن الإمامة: "موضوعة لحراسة الدين وسياسة الدنيا". وبذلك أعطوا الزعامة السياسية الكبرى مهمة دينية هي الحراسة والصَون والدفاع. لكنّ ذلك كان بعد أن كانت الفئات الدينية المختصة قد ظهرت، وصارت للإسلام مؤسسة، كما لسائر الأديان. وقد استأثر الفقهاء في تطور استمر حوالى القرنين بمهمات حفظ النص وتحمله والاشتراع انطلاقاً منه وباسمه، وأقروا للخلفاء بمهمة حراسته. وهكذا ظهر انفصال أو تمايز بين السياسة والشريعة، وليس بين الدين والدولة طبعاً. وقد ظلّ الفقهاء يتطلبون في الخليفة المختار أو القرشي المرشح للخلافة أن يكون مجتهداً. لكننا لا نعرف خليفة كان كبير العلم بالفقه والدين بعد عهد الراشدين باستثناء ما يقال عن عبدالملك بن مروان من بني أمية، والمنصور من بني العباس. ثم اننا لا نعرف خليفة مهما بلغت سطوته استطاع أن يُصدر حكماً دينياً أو قضائياً ولو باسم الاجتهاد. وهكذا لا بد من القول بظهور مجالين: المجال السياسي، الذي يسيطر فيه الخليفة، وقد حاول ابن المقفع في: رسالة الصحابة تحديد حدوده ومهماته - والمجال الديني، والذي استأثر به الفقهاء. وعندما ضعفت السلطة السياسية للخلفاء أيام البويهيين والسلاجقة، وظلّت العامة متمسكة بها مع إعطائها طابعاً دينياً، خشي بعض الفقهاء من وراء ذلك على سلطانهم الديني، فدعا إمام الحرمين الجويني في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي الى إحلال سلاطين السلاجقة محلّ الخليفة، واعطائهم لقبه اذا اقتضى الأمر ذلك لأنهم أقدر منه على أداء المهمات السياسية التي يقتضيها المنصب، أما المهمات الدينية فهي محفوظة لدى الفقهاء! ومع ذلك فإن المرحلة الكلاسيكية للخلافة - شأنها في ذلك شأن المرحلة الحديثة - شهدت تمسكاً من جانب عامة الناس بالخليفة / الرمز على رغم ذهاب كل سلطة له. فقد اضطر المماليك في مصر والشام من أجل تثبيت سلطتهم لاستيراد عباسي هارب من المغول الذين استولوا على بغداد عام 1258 م، وأقاموه بالقاهرة، وأعطوه لقب الخليفة، ليتسلموا منه ومن أعقابه السلطة شكلاً، سلطاناً بعد سلطان! وهكذا لا دمج بين الدين والدولة في الإسلام القديم. وهناك مجالان متمايزان أحدهما للدين وفقهائه والآخر للدولة أو السلطة السياسية. وإنما تقوم بين المجالين علاقة خاصة سماها الفقهاء "حراسة الدين"، واعتبرها الإسلاميون الإحيائيون دليلاً على قيام الدولة على الدين ومن أجله. * كاتب لبناني.