الكتاب: السلطة السياسية عند أبي حامد الغزالي الكاتب: محمد آيت وعلي الناشر: وكالة الصحافة العربية - القاهرة، سنة 2001 اكتسب الغزالي شهرة كبيرة في العالم الإسلامي، ولا يزال يشكل أهم الأنساق المرجعية لشعوره المعرفي والسياسي، واكتسب تلك المكانة ولقب بحجة الإسلام، من خلال مؤلفات له لا يمكن التعامل معها معرفياً من دون استحضار الخلفية السياسية لها، لذلك جاء الباحث المغربي محمد آيت وعلي ليميط اللثام عن هذه الخلفية في كتاب صدر له حديثاً بعنوان "السلطة السياسية عند أبي حامد الغزالي" يحاول فيه ان يميّز حياة الغزالي بين مرحلتين رئيسيتين انطلاقاً من توجه فكري أساسي هو علاقة الغزالي بالسلطة السياسية وتأثير هذه العلاقة على مؤلفاته وقناعاته المعرفية والسياسية. المرحلة الأولى، حين كان الغزالي يعيش في بلاط الخلافة العباسية وهي مرحلة دفعت بالمؤلف الى اثارة العديد من التساؤلات مثل: هل كان الغزالي واعياً بالدور الذي يقوم به كفقيه سلطان يدافع عن السلطة السياسية بتوظيف سلطته الدينية؟ وما هي القيمة المعرفية لمؤلفاته التي كتبها في هذه المرحلة؟ وهل تعبر هذه المؤلفات عن مواقفه وقناعاته السياسية والمعرفية؟ أما المرحلة الثانية من حياته، فقد تناول الكاتب مؤلفات الغزالي التي تحمل فلسفته السياسية انطلاقاً من "احياء علوم الدين" مروراً ب"نصيحة الملوك" وانتهاء ب"رسائل فضائل الأنام". والسؤال: ما هو الوجه السياسي للاحياء؟ وكيف نظر الى العلاقة بين السلطتين السياسية والدينية؟ ولماذا تخلى الغزالي عن الكلام والدفاع عن الخلافة وأصبح خطابه السياسي نصيحة موجهة الى السلطة السلجوقية؟ وهل نظر الغزالي الى الخلافة والدولة؟ وما هي مكانة أفكار الغزالي السياسية بالمقارنة مع فقهاء السياسة من أمثال الماوردي وابن طباطبا وابن ابي الربيع؟ الكتاب في بابين الأول: المحتوى المعرفي والتوظيف الايديولوجي. والباب الثاني: الفلسفة السياسية... ومن الباب الأول اخترنا "صفات الإمام بين الأخلاق والسياسة" ف"لا يمكن للسياسة في الإسلام ان تكون الا اسلامية، لذلك فإن جميع من وضعوا صفاتاً أو شروطاً لقيام امام المسلمين كانوا من الفقهاء ورجال الدين، فكانت هذه الشروط نابعة من الأخلاق الإسلامية، وبما ان السياسة في المجتمع الإسلامي قد غُلفت بغلاف ديني، فإنه قد أصبح من الصعب الفصل بين الأخلاق والسياسة". ويرى الغزالي ان الخلافة العباسية شرعية وقائمة طبق شروط الإسلام، فيما كان يرى ان الدولة الأموية مغتصبة من آل البيت. ويضع الغزالي في "احياء علوم الدين" شروطاً يجب ان يراعيها العالم أو الفقيه قبل أن يأخذ من بيت المال أو السلاطين، ويقول موجهاً الخطاب للفقيه أو العالم الذي يدور في فلك السلطان: "واعلم ان من أخذ مالاً من السلطان فلا بد له من النظر في ثلاثة أمور: مدخل ذلك الى يد السلطان من أين هو؟ وفي صفته هل استحق الأخذ. وفي المال الذي يأخذه: هل يستحقه إذا اضيف الى ماله ومال شركائه في الاستحقاق؟". غير ان هذا الموقف للغزالي تبناه في مرحلته الثانية، أما عندما كتب "المستظهري"، لم يكن يهتم بمراعاة وجه الشرع في علاقة العلماء بالسلطان، بل كان همه العملي هو ان تكون السلطة راضية عنه. فالغاية عند الغزالي ان ترتب الإمامة وفق الشرع، فليس هناك بين ان يعرف الإمام حكم الشرع بنفسه أو يعوّل على علماء عصره، خصوصاً ان الخليفة هذا "كمَّل بأقوى أهل الزمان مقصود الشوكة. وبأدهى أهل الزمان وآكفاهم رأياً ونظراً مقصود الكفاية. فلا تزال دولته محفوفة بملك من الملوك قوي يمدّه بشوكته، وكاف من كُفاة الزمان يتصدى لوزارته فيمده برأيه وهدايته، وعالم مقدم في العلوم يفيض ما يلوح من قضايا الشرع في كل واقعة الى حضرته". تناول الغزالي موضوع الإمامة بحماسة شديدة، ودافع بكل الطرق، واستعمل كل وسائل الحجاج من أجل اثبات شرعية الخلافة العباسية. وان الخلفية المستظهر بالله هو امام المسلمين، وكان حصرها ودرس مطابقتها لشخصية المستظهر بالله فوجدها منطبقة عليه، ليضيف ان تعيين الخليفة من طرف الناس هو تحصيل حاصل، فالله هو الذي يختار، غير ان هذه الحماسة الشديدة، وهذا الدفاع الإيديولوجي الذي جعل كل همه اقحام الآخر وتثبيت قضيته. وهذا فعلاً ما مارسه الغزالي بأسلوب ايديولوجي ساخر، يكاد يختفي نهائياً في مؤلف آخر للغزالي ألا وهو "الاقتصاد في الاعتقاد" الذي يجمع المؤرخون على أنه كُتب في المرحلة نفسها التي كتب فيها "المستظهري" اي في المرحلة الايديولوجية التي امتدت خلال السنوات التي قضاها في بلاط الخلافة العباسية في بغداد. امكانات التغيير يتعرض الغزالي لمسألة أساسية ومثيرة للجدل وهي: في حال وجود إمام تنقصه احدى الصفات - كالعلم مثلاً - وكان يراجع العلماء، ويعمل بقولهم، فماذا ترون فيه، أيجب خلعه ومخالفته أم تجب طاعته؟ انه لسؤال مهم عن المواقف من امام انعدمت فيه صفة ضرورية كالقدرة على القضاء مثلاً، لكن قبل التعرض لموقف الغزالي من خلال اجابته عن هذا السؤال، نقول ان هذا تعبير عن موقفه من حال انعدام العدل، وان كان الإمام جائراً، ذلك ان موقف الغزالي فيه مرونة حين يؤكد ان انعدام هذه الصفة - وهي القضاء - لا تسمح بخلع الإمام، إذا كان ثمة مثير للفتنة، غير انه لا يعارض في خلعه اذا كان الخلع لا يقيم الفتنة: "إمام جائر أخف من الفتنة"، وذلك تمشياً مع القاعدة الفقهية القائلة بأخف الضررين، ولعل هذا الموقف هو الذي جعل حياة المسلمين جماعية والسياسية تظل متخلفة وقابلة للاستغلال من طرف كثيرين خصوصاً ان اضفاء القدسية على السلطة الحاكمة - نظاماً كان أو شخصياً عملية بيد علماء الدين وفقهائه، لأنهم يؤكدون ان السلطة القائمة مستمدة من روح الإسلام، وانها ارادة الله تتحقق بين عباده، ولو ان هذه السلطة لم تكن شرعية لما أعانها الله للقيام بين الناس، وان اعلان الحرب عليها معناه اثارة الفتنة التي تؤدي الى تعطيل شرع الله في الأرض. لكن الغزالي أخذ مواقف أكثر ايجابية ضد السلطة الجائرة في المرحلة الثانية من حياته الفكرية. وظهر هذا الموقف المختلف مبكراً في موسوعته "احياء علوم الدين" الذي نعتبره نقطة التحول، أو عتبة القطيعة مع المرحلة الايديولوجية، ففي اطار حديثه عن العلاقة بين الفقهاء والسلاطين تشدد في العلاقة مع السلاطين الظالمين، ودعا الفقهاء الى الابتعاد عنهم وان كان يفضل الابتعاد عن كل سلطة كلما استطاع الفقهاء الى ذلك سبيلاً، ذلك لأن في قربهم من السلاطين فتنة لهم، يقول الغزالي: "النظر في السلاطين الظَلَمَة في شيئين، أحدهما ان السلطان الظالم عليه ان يكف عن ولايته، وهو إما معزول أو واجب العزل، فكيف يجوز ان يأخذ من يده وهو على التحقيق ليس بسلطان؟ والثاني انه ليس يعم بماله جميع المستحقين، فكيف يجوز للآحاد ان يأخذوا، أفيجوز لهم الأخذ بقدر حصصهم، أم لا يجوز أصلاً، أم يجوز أن يأخذ كل واحد ما أُعطى؟". يدفعنا نص الغزالي هذا الى ترجيح انه لم يعد على ولائه للسلطة العباسية القائمة، الا انه لا يتخذ موقفاً محدداً من الإمام الجائر. ذلك انه ليس بالأمر السهل الانتقال من مؤيد مدافع الى معارض رافض، لمجرد انه تحرر - على الأقل - مكانياً وجغرافياً من خدمة الخلافة، لذلك نراه عندما يتحدث عن الإمام الجائر الجاهل يتحدث مباشرة عن صعوبة خلعه لما في ذلك من اثارة للفتنة. ويورد الكلام عن الخليفة العباسي المستظهر بالله وكأنه نموذج لكلامه. يقول الغزالي: "لأن السلطان الجاهل مهما ساعدته الشوكة، وعَسُرَ خلعه، وكان في الاستبدال به فتنة ثائرة لا تطاق وجب تركه ووجبت الطاعة له كما تجب طاعة الأمراء، إذ قد وَرَدَ في الأمر بطاعة الأمراء... فالذي نراه ان الخلافة منعقدة للمتكفل بها من بني العباس، وان الولاية نافذة للسلاطين في اقطار البلاد والمبايعين للخليفة". فليس هناك تغيير كبير في موقفه من السلطة الجائرة، على رغم انه لم يعد يدور في بلاط الخلافة العباسية، وانه انسحب عندما ادرك واجبه الحقيقي في الحياة كفقيه وعالم ديني، ولعل هذا الموقف السلبي تجاه السلطة الظالمة كان موحداً بين السواد الأعظم من فقهاء السنّة، فالفقيه الشافعي أبو حسن الماوردي، لم يتخذ موقفاً حازماً من الخليفة الفاسد. واكتفى بالقول بإمكان اقالته. واذا كان الغزالي يرى ان سلف العلماء كان أفضل مما هم عليه في عصره، فإن هذا الأمر لا يمكن الحسم فيه تاريخياً، فقد يكون كلام الغزالي صحيحاً، الا ان فعل العلماء والفقهاء غير واضح، ولم يُسّجِّل التاريخ لهم اي دور في تغيير دفة الحكم، أو التأثير في الأوضاع السياسية، وليس هذا راجع لضعفهم واستكانتهم، بل ان جهادهم وقيامهم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأراء من خلال ما روى عنهم الا ان التاريخ الإسلامي لم يسجل ان علماء الدين وفقهاءه قبل الغزالي وقفوا في وجه خليفة أو ساعد على خلعه. الا ان الشيء الايجابي الذي يسجل لهم انهم كانوا اكثر قياماً بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الغزالي وعلماء عصره. ولعل الخوف من الفتنة هو المهرب الذي يحتمي به جل العلماء. والغزالي نفسه يقول: "... النظر في السلاطين الظَلَمة في شيئين: أحدهما ان السلطان الظالم عليه ان يكف عن ولايته وهو اما معزول أو واجب العزل، فكيف يجوز ان يأخذ من يده وهو على التحقيق ليس بسلطان. والثاني انه ليس يعم بماله جميع المستضعفين فكيف يجوز للآحاد ان يأخذوا، أما الأول: فالذي نراه انه لا يمنع أخذ الحق لأن السلطان الظالم الجاهل... مهما ساعدته الشوكة وعَسُر خلعه، وكان الاستبدال به فتنة ثائرة لا تطاق، وجب تركه ووجبت طاعته". فالذي نستنتجه من موقف الغزالي، ومن سبقه كالماوردي، ان استبدال السلطان الظالم أمر غير وارد اذا لم يتنازل من تلقاء نفسه، أما اذا تشبث بالسلطة فيقاوم حتماً والمقاومة تثير الفتنة، مما يدعم استمراره في السلطة شرعاً، ولعل هذا الموقف من علماء وفقهاء الإسلام، هو الذي كرّس الاستبدال في الفكر الإسلامي العربي.