أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على ناصر بن سعود بن ناصر بن فرحان آل سعود وسارة آل الشيخ    أمير تبوك يستقبل وزير النقل والخدمات اللوجيستية    بعد تصريحاته المثيرة للجدل.. هل يغازل محمد صلاح الدوري السعودي؟    تعليم جازان يحتفي باليوم العالمي للطفل تحت شعار "مستقبل تعليمي أفضل لكل طفل"    توصية بعقد مؤتمر التوائم الملتصقة سنويًا بمبادرة سعودية    قطاع ومستشفى بلّحمر يُقيم فعالية "الأسبوع الخليجي للسكري"    كايسيد وتحالف الحضارات للأمم المتحدة يُمددان مذكرة التفاهم لأربعة أعوام    أمير الرياض يطلع على جهود إدارة تعليم المنطقة في تنفيذ مشروع التحول والحوكمة    «حساب المواطن»: بدء تطبيق معايير القدرة المالية على المتقدمين والمؤهلين وتفعيل الزيارات الميدانية للأفراد المستقلين    مدير فرع وزارة الصحة بجازان يفتتح المخيم الصحي الشتوي التوعوي    311 طالبًا وطالبة من تعليم جازان يؤدون اختبار مسابقة موهوب 2    ضيوف الملك يغادرون المدينة إلى مكة    وكيل إمارة المنطقة الشرقية يستقبل القنصل العام المصري    أمير حائل يستقبل سفير الولايات المتحدة الأمريكية لدى المملكة    حسين الصادق يستقبل من منصبه في المنتخب السعودي    السند يكرِّم المشاركين في مشروع التحول إلى الاستحقاق المحاسبي    "نايف الراجحي الاستثمارية" تستحوذ على حصة استراتيجية في شركة "موضوع" وتعزز استثمارها في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي    ترسية المشروع الاستثماري لتطوير كورنيش الحمراء بالدمام (الشاطئ الغربي)    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي واستعمال أوراق نقدية مقلدة والترويج لها    وزير الاستثمار: 1,238 مستثمرًا دوليًا يحصلون على الإقامة المميزة في المملكة    الجامعة العربية بيت العرب ورمز وحدتهم وحريصون على التنسيق الدائم معها    تعطل حركة السفر في بريطانيا مع استمرار تداعيات العاصفة بيرت    NHC تطلق 10 مشاريع عمرانية في وجهة الفرسان شمال شرق الرياض    جبل محجة الاثري في شملي حائل ..أيقونه تاريخية تلفت أنظار سواح العالم .!    القيادة تهنئ رئيس جمهورية سورينام بذكرى استقلال بلاده    مدينة الأمير عبدالله بن جلوي الرياضية تستضيف ختام منافسات الدرفت    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    بمشاركة 480 خبيراً ومتحدثاً.. نائب أمير مكة يدشن «مؤتمر الابتكار في استدامة المياه»    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    انطلق بلا قيود    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    111 رياضيًا يتنافسون في بادل بجازان    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلام ومسألة الحكم وذلك الجدل الذي لا ينتهي
نشر في الحياة يوم 10 - 07 - 2010

لم ينته الجدل حول الإسلام والحكم أو «نظام الحكم في الإسلام» بانقشاع غبار المعركة التي دارت مطلع الربع الثاني من القرن العشرين حول كتاب علي عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم» الذي سعى فيه إلى إثبات أن فكرة «الخلافة» ليست أصلاً من أصول الإسلام، وأن هذا الدين لم يفرض نمطاً معيناً لترتيب السلطة. فقضية الإسلام والحكم لا تزال مطروحة، تتسابق عليها الأقلام، وتتداعى عليها الألسن والهمم، وتحاك في شأنها التدابير، ما صغر منها وما كبر، بلا هوادة، وفي إصرار لا ينفك.
فقد أنتج أنصار الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي مئات الكتب والكتيبات والبيانات، وعشرات الآلاف من المقالات الصحافية والدراسات، في سبيل الانتصار لفكرة «الدولة في الإسلام»، أو إعلاء الشعار الذي رفعته جماعة «الإخوان المسلمين» والذي يقول: «دين ودولة، ومصحف وسيف، وشعب وقيادة، وعزة وسيادة». ورد عليهم خصومهم بأطنان من الكتابات التي تنتصر لمدنية الدولة في الإسلام، وتدعو إلى إبعاد الدين عن السلطة، وتتمنى توجيه الطاقة الاعتقادية إلى ما يحفظ الامتلاء الروحي، والسمو الأخلاقي.
وفي سياق هذه المعمعة الفكرية برزت كتب بعينها، تعارض بعضها، وتلاقى بعضها الآخر. ومن أهمها كتب «الحكومة الإسلامية» لمحمد حسين هيكل، و «دستور أمة الإسلام» لحسين مؤنس، و «الدولة في الإسلام» لخالد محمد خالد، وبعدها جاءت كتابات مدرسة «إسلامية المعرفة» التي تجلى وجودها في التنظير السياسي بين أروقة قسم العلوم السياسية في كلية الاقتصاد، جامعة القاهرة، فبرز في هذا الاتجاه سيف الدين عبدالفتاح في أطروحته عن التجديد السياسي في الإسلام، ونصر عارف الذي حاول أن يقوّم نظريات التنمية السياسية المعاصرة من المنظور الحضاري الإسلامي، ثم سعى إلى رصد مصادر التراث السياسي الإسلامي، والسيد عمر عن نظرية الصفوة في الإسلام، وعبدالعزيز صقر الذي سعى إلى إثبات دور الدين في الدولة القومية الغربية، ونيفين عبدالخالق التي بينت المعارضة السياسية في الإسلام، وحامد عبدالماجد القويسي الذي تناول «الوظيفة العقدية للدولة الإسلامية»، وهبة رؤوف التي رصدت موقف الإسلام من دور المرأة في العمل العام، وهشام جعفر الذي درس فكرة الحاكمية، إلى جانب دراسات عدة عن العلاقات الدولية في الإسلام.
ويعتبر حسين مؤنس أن التكوين السياسي لأمة الإسلام هو «تكوين يقوم على بيعة أو ميثاق أو تعاهد»، وأن الشورى بصورتها التي قدّرها الرسول ونفذها أساس من أسس بناء أمة الإسلام، ومن دونها لا يكون تسيير أمور الجماعة حواراً وتبادل آراء، بل يكون إملاء، وهنا لا تسير أمة الإسلام في طريقها الصحيح.
ويرى أن «رسالة الإسلام لم تكن قط إقامة ملك إسلامي، بل إقامة نظام جديد سياسي اجتماعي، يقوم على الترابط والتآخي والإيثار واستبعاد سيطرة الإنسان على الإنسان، واستبدال سلطة الملك بسلطة الضمير... ولا يكون الخليفة في هذه الحالة إلا رمزاً للعدل، وضماناً للأخلاق»، ثم يقول: «لقد أنشأ رسول الله عليه الصلاة والسلام أمة، أي جماعة ترجع على أم واحدة، فهم أخوة، ولم يقم رسول الله دولة، لأن الدولة تحمل معنى السلطان والقوة والغلبة، وهذه كلها لله وحده، أما الذي لنا فهو أن نتآخى في الله، ويرعى بعضنا بعضاً حباً في الله».
وينتقد مؤنس المفكرين السياسيين المسلمين - وكلهم فقهاء - نظراً لأنهم في نظره افتقدوا إدراك حقيقة مهمة وهي أن «السياسة شيء، والإسلام وعقيدته وشريعته شيء آخر، فالسياسة عند ابن خلدون قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة وينقادون إلى أحكامها، ثم يفرق بين السياسة العقلية المفروضة من أكابر الدولة وبصرائها، والسياسة الشرعية المفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها. وما سكت عنه ابن خلدون، ذكاء منه وحرصاً، أفصح عنه ابن تيمية في كتابه «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية».
ويبدي مؤنس استغرابه من أن الفكر السياسي الإسلامي كله انحصر في موضوع «الخلافة الملكية» هذا، من يستحقها ومن لا يستحقها... وكيف يستطيع (الخليفة - الملك) أن يكون رؤوفاً رحيماً برعيته، وما الذي يصلح السلطان، وما الذي يفسده وما إلى ذلك من المباحث الفرعية، البعيدة جداً من طبيعة أمة الإسلام وغاياتها. ونحن لا نريد بهذا أن نقول إن الخلافة ليست من الإسلام، أو أن الملك يتعارض مع الإسلام، فإن الخلافة أو الملك أو السلطنة وما إليها صور شكلية لممارسة تنظيم أمور الأمة، فالإسلام لا ينكر الخلافة، ولا ينكر الملك أو الإمارة، فهذه كلها أشكال تنظيمية إذا ارتضتها الأمة واختارتها لم يكن بها بأس، ولكنها تظل كما قلت تنظيمات شكلية، للأمة أن تصوغها كيف تشاء. أما المهم، فهو الأمة الحرة الكريمة المؤمنة المتحدة في المبادئ الغايات، الملتفة حول القرآن، المؤمنة بالإسلام إيماناً صحيحاً».
وينتهي مؤنس إلى أن دستور الإسلام هو «قانونه الأخلاقي، الذي هو قاعدة الحياة، وأصل الحياة الإسلامية».
أما حسين هيكل، فيأخذ هذه القضية إلى مستوى أعمق، ليدخل إلى صلبها، من دون مواربة ولا تتردد، فيفرق بين كون الإسلام يفرض قواعد أساسية لحياة الأسرة، والميراث والتجارة والبيع، وهي مسائل استفاض الفقهاء في شرحها، وعملوا على تقديم اجتهاد فيها يواكب الواقع المتجدد، وبين تحديده نظام حكم بعينه. وهنا يقول: «هذه القواعد الأساسية لشؤون حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والخلقية، لم تتناول أي تفصيل في الأساس الذي تقوم عليه الدولة. ولم تتعرض لنظام الحكم تعرضاً مباشراً، والآيتان الكريمتان «وشاورهم في الأمر» و «أمرهم شورى بينهم» لم تنزلا في مناسبات تتصل بنظام الحكم».
وتأسيساً على عدم ورود أي شيء في النص المؤسس للإسلام وهو القرآن الكريم يفصل في تبيان نظام الحكم، ينتقل هيكل إلى مستوى الممارسة، فيرى أن فكرة الحكم لم تكن مفصلة القواعد في عهد النبي (صلّى الله عليه وسلّم) بعد هجرته إلى المدينة، وأن الرسول الكريم لم يغير نظم الحكم البسيطة التي كانت سائدة في مجتمع البادية، وقبل الاختلاف والتباين بينها، ونادى فقط بأن تعتمد في تسيير الحياة على المبادئ العامة للإسلام وفي مطلعها العدالة والمساواة والحرية، وأنه لم يغير الأوضاع التي كانت قائمة في مكة نفسها بعدما فتحها، ولم يضع نظاماً مفصلاً للحكومة الإسلامية.
لكن هيكل يقر بأن «القواعد الجديدة التي جاء بها الإسلام لتنظيم السلوك والمعاملات، كانت مقدمة لتنظيم سياسي لا مفر من استقراره، وقد اطمأنت قواعده بالفعل شيئاً فشيئاً، متأثرة بالبيئة وأحداث التاريخ»، لا سيما بعد اتساع حركة الفتوحات الإسلامية، فانتقلت أساليب الحكم وأنماطه التي كانت متبعة عند الفرس والروم إلى «الحكم الإسلامي»، فانتقل من «الإمبراطورية الروحية» في عهد الخلفاء الراشدين إلى «الإمبراطورية السياسية» في زمن الأمويين والعباسيين. فقد كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أولياء على قومهم باختيار الناس لهم ومبايعتهم إياهم. أما الأمويون والعباسيون فقد تصرفوا على أساس أنهم ظلال الله على الأرض، وأنه سبحانه وضع في أيديهم مفاتيح خزائنه. فالراشدون ولاّهم الشعب فكانوا وكلاءه، أما الملوك فغلبوا الشعب على أمره، وتسلطوا بقوة البأس على رقابه، فاعتبروا أنفسهم سادته، فضلاً عن أنهم حكامه.
وهناك نقطة غاية في الأهمية لفتت انتباه هيكل، إذ يقول: «إن أحداً من فقهاء المسلمين في العصر الحديث، لم يتجه نظره إلى تصوير الفكرة الإسلامية في الحكم تصويراً كاملاً، وتطبيق هذا التصوير على الأمم الإسلامية في هذا الزمن الذي نعيش فيه. لم يتجه أحدهم ليقيم مذهباً كاملاً بين الحدود والتفاصيل، يضع كل شأن من شؤون الجماعة في المكان الواجب له من نظام الحكم في الإطار الإسلامي الصحيح».
وينتهي هيكل إلى أن الإسلام لم يحدد شكلاً ثابتاً للحكم، خلافة كانت أم ملكاً أم سلطنة أم إمارة أم رئاسة أم غيرها، لكنه عني بإقرار مجموعة من المبادئ التي يفرض اعتمادها وتطبيقها، من دون الالتفات إلى شكل الحكم السائد، وهي: «الإيمان الحق بالله تعالى، وبثبات سنّته في الكون ثباتاً ندركه بعقولنا الحرة وتفكيرنا المتصل، وأن نتعاون في ما بيننا على أن يحب أحدنا لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يؤدي الفرد واجبه لله وللجماعة، وأن تؤدي الجماعة واجبها لله وللأفراد جميعاً».
وفي اختلاف مع ما سبق يأتي رأي الفقيه القانوني البارز عبدالرزاق السنهوري في أطروحته للدكتوراه عن «نظرية الخلافة» والتي أشرف عليها أستاذه الفرنسي إدوار لامبير، وتمت ترجمتها لاحقاً ونشرها في كتابين حملا اسم «نظام الحكم في الإسلام» و «فقه الخلافة»، وكذلك ما طرحه خالد محمد خالد الذي رجع عن رأيه السابق في فصل الدين عن الدولة الذي جاء في ثنايا كتابه «من هنا نبدأ» ليؤلف كتاباً بعنوان «الدولة في الإسلام»، ويقترب فيه من ردود الشيخ محمد الغزالي على كتابه الأول في كتاب مناظر وسمه ب «من هنا نعلم».
ويبدأ خالد كتابه هذا معترفاً بخطأ ما اعتقد فيه سابقاً من أن الإسلام عرف، شأنه شأن المسيحية، الدولة الدينية، وأن «الدين حين يتحول إلى حكومة، فإن هذه الحكومة الدينية تتحول إلى عبء لا يطاق... وهي في تسعة وتسعين في المئة منها جحيم وفوضى، وأنها إحدى المؤسسات التاريخية التي استنفدت أغراضها، ولم يعد لها مكان في التاريخ الحديث».
وقد كان خالد يؤمن بأن غرائز الحكومة الدينية تجعلها بعيدة من الدين كل البعد، لأنها حكومة توصم بالغموض المطلق، ولا تثق بالذكاء الإنساني، ولا تأنس إليه، وتعادي رواد الخير والحرية والفكر والإصلاح، وتصفهم بأنهم أعداء لله ورسوله، بدعوى أنهم يبعدون الدين عن المجتمع، وهي حكومة تتردى في غرور مقدس، لا تقبل النصيحة ولا التوجيه، وهي تسقط في الوحدانية المطلقة، التي تدفعها إلى محاربة أي رأي مخالف حتى لو كان سديداً. وهي حكومة جامدة تضيق بكل جديد، وهي قاسية ومتوحشة وعاتية.
وهذا لا يعني أن خالد قد رجع عن مقته وجود «حكومة دينية» لكنه تراجع عن اعتقاده بأن الإسلام يقر هذا النوع من الحكومات، وإن كان التاريخ الإسلامي أو الممارسة السياسية في زمن الإمبراطوريتين الأموية والعباسية قد عرف هذا، وهو ما ذكره خالد نفسه في كتابه «من هنا نبدأ»، حيث قال: «في الحكومات الدينية المسيحية ابتكرت وسائل التعذيب التي لا تخطر للشيطان نفسه على بال... وفي الحكومات الدينية الإسلامية حدثت أهوال مروعة». لكنه يعود ويقر بأنه قد وقع في خطأين منهجيين: الأول: مضاهاة الحكومة الدينية الكنسية بحكم الإسلام. والثاني: تعميم نتائج ما اقترفه الجهاز السري باسم الإسلام.
ويعود خالد ليقول إن الإسلام جاء ليكون قوة تغيير عميمة وشاملة، و «لن يسلب الإسلام حقه، ولا مقدرته على تأسيس دولة، فحتى لو لم تكن للعرب سابقة مع الحكومة، فإن الإسلام بخصائصه قادر على تمكينهم من ممارسة هذه التجربة بنجاح». بل يمد خالد الطموح على وسعه، ويتساءل: «لماذا لا يطمح الإسلام إلى حكومة عالمية، تلتف حول مبادئه وكتابه؟».
ويعود خالد إلى التراث الفقهي ليأتي بشهادات على «وجوب قيام الدولة المسلمة» يقتبسها من ابن خلدون وأبي حامد الغزالي والماوردي والنسفي والشهرستاني والأبجي وابن تيمية. وقبل هذا يلجأ إلى تفاسير لآيات قرآنية وأحاديث نبوية، يؤولها بما يخدم فكرته الجديدة، لينتهي إلى القول: «علينا أن نعمق إيماننا بأن الإسلام، دين ودولة، حق وقوة، ثقافة وحضارة، وعبادة وسياسة».
لكن خالد لم يكتف بمجرد إقرار أن الإسلام «دين ودولة» بل عُني بتقديم نموذج لتلك الدولة، وهو فترة حكم عمر بن عبدالعزيز، التي هي في نظر خالد: «ترينا روح الدولة المسلمة وضميرها، كما ترينا شكلها الذي كان مثالياً بالنسبة الى عصرها». ثم يضع مبادئ عامة للحكم، كأن تكون الدولة قدوة، والشورى ضرورة، والمال وديعة، والحفاظ على وحدة الأمة وسلامتها واجب، ومراعاة مصلحة الأمة في تصرفات الحاكم وسلوكياته.
أما السنهوري فيبدأ دراسته، بمعانقة الوجدان للبرهان، والمشاعر للعقل، فيقول في مقدمة الكتاب: «ولا أدعي أنني بريء من كل تحيز عاطفي في معالجتي لموضوع يثير من الحماس العاطفي، ما يجعل للمحاذير الناتجة عن البيئة والارتباط الغريزي بالتقاليد العريقة بعض التأثير على طريقة معالجته، حتى من جانب أحرص الباحثين على الموضوعية، بل إنني أقر بأنني منذ حداثة سنّي لم أستطع أن أقاوم تعلقي الواضح بكل ما يتصل بالشرق... ومع ذلك فقد بذلت جهدي في هذه الدراسة لكي يكون عملي علمياً قدر استطاعتي. لقد التزمت الموضوعية، وعملت دائماً على ضبط العاطفة، حتى لا تطغى على الحقيقة».
وبالنسبة الى السنهوري، فإن «الخلافة» هي «نظام الحكم في الإسلام» وهي تدخل عنده، ككثيرين غيره، في علم الفروع، بخاصة في شقه المتعلق بالقانون العام والقانون الدستوري، على رغم أن الفقهاء يعتبرونها من مباحث علم الكلام. ويقول هنا: «إذا كانت نظرية الخلافة تتسع لجميع القواعد المتعلقة بنظام الحكومة الإسلامية، سواء دخلت في نطاق القانون الدستوري، أو القانون الإداري، أو المالي، إلا أنها لا تشمل جميع قواعد القانون الدستوري في عرف التشريعات الحديثة، ولا في نظر الفقه الإسلامي».
ويسعى السنهوري إلى عصرنة أو تحديث نمط «الخلافة» فيؤكد أن مبدأ الفصل بين السلطات هو أساس نظام الحكم الإسلامي، بخاصة ما يتعلق بالسلطة التشريعية، التي يجب في نظره أن تكون مستقلة استقلالاً تاماً عن الخليفة. ويؤكد أيضاً أن إجماع الأمة هو مصدر التشريع الإسلامي، وأن الأمة هي التي تعبر عن الإرادة الإلهية بإجماعها، وليس الخليفة أو الحاكم بسلطته. كما يقر بأن سيادة الأمة يؤدي بالضرورة إلى سيادة السلطة التشريعية، ويجب ألا يملكها فرد مهما تكن مكانته، خليفة كان أو أميراً أو ملكاً أو حاكماً، فهي لله تعالى وهو سبحانه فوّضها للأمة في مجموعها، والتي يجب أن يرتبط بها «الإجماع» في شكله الأمثل.
ويضع السنهوري ثلاث خصائص للخلافة، أولاها: أن اختصاصات الحكومة (الخلافة) عامة أي تقوم على التكامل بين الشؤون الدينية والدنيوية. والثانية: أن حكومة الخلافة ملزمة بتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية. والثالثة: أن الخلافة تقوم على وحدة العالم الإسلامي. ويرى أن هذه الخصائص إن اجتمعت في الحكومة الإسلامية باتت حكومة شرعية، مهما يكن شكلها، واستحقت ان توصف بأنها «حكومة الخلافة».
ويبني السنهوري على ما سبق فيقول إن هناك إجماعاً عند أهل السنّة والجماعة والشيعة والمعتزلة على أن الخلافة واجب شرعي، ولا يرفض هذا سوى الخوارج، الذين لا يقرون بقيام الخلافة، ولا أي نوع من الحكومة، وفي نظرهم، فإن الخلافة ليست ضرورية دائماً إذ يمكن الناس أن يحققوا مصالحهم وينظموا أمورهم من دونها، وليست نافعة دائماً لأنه لا يمكن أن ينتفع بالخليفة إلا من يصل إليه، وهؤلاء قلة محدودة، وهي أيضاً ليست دائماً ممكنة، لصعوبة انطباق شروطها في كل زمان ومكان على شخص بعينه، وهي في نظرهم تؤدي في كثير من الأحيان إلى فتن وحروب جراء التنافس عليها.
عند هذه النقطة يصف السنهوري رأي علي عبدالرازق في الخلافة بأنه «شاذ»، فيقول: «لاحظنا أن مؤلفاً معاصراً، هو الشيخ علي عبدالرازق، قد أخذ برأي الخوارج، بعدما أيده بحجج مستحدثة براقة، ولكنها في نظرنا مشكوك في متانتها». ويسعى السنهوري إلى تفنيد السندين اللذين اتكأ عليهما عبدالرازق في رفضه الخلافة، فيرى أن قول الأخير بغياب أي سند لوجوب الخلافة في العقل ولا في الشرع وأنها في الأغلب قامت بالقوة، هو خلط واضح بين وجود نظام الخلافة وبين طريقة اختيار الخليفة. كما لم يقبل السنهوري ما انتهى إليه عبدالرازق من أن الإسلام نظام ديني روحاني بحت، وراح يجلب أدلة شرعية ووقائع تاريخية يثبت من خلالها أن الإسلام عرف الدولة منذ عهده الأول، وأن الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) مارس مهام الحاكم.
ولم يكتف السنهوري بهذا بل راح يستخدم ملكاته القانونية الراسخة في إنشاء نظام متكامل ل «الخلافة الإسلامية» من دون أن يتوقف عند المسميات، حيث يستبدل «الخليفة» بكلمة «الرئيس»، ليؤكد ضرورة انتخابه من الأمة، ثم يضع شروط الناخبين والمرشحين، وإجراءات الانتخابات، ثم يذهب إلى ما هو أوسع من ذلك بوضع مشروع لإعادة الخلافة في صيغة «جامعة شعوب شرقية». وما انتهى إليه السنهوري من حيث الشكل لا يختلف كثيراً عما تقره الديموقراطية الغربية في الوقت الحالي، وما ينفرد به الإسلام هنا لا يزيد عن وضع مبادئ أرسخ وأعمق لضمان العدل والحرية. وإذا كانت الممارسة التاريخية في أغلبها قد ضربت هذه المبادئ في مقتل، فإنها لم تمت، ولن تموت، لأن النص المؤسس الذي ينطوي عليها، وهو القرآن الكريم، باقٍ إلى قيام الساعة.
* كاتب مصري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.