مهما كان استياؤنا وانتقادنا لسلوك الاميركيين في سجن أبو غريب في العراق، والذي كشفت عنه الصور والأخبار، فيجب أن نعترف بأن هذه الصور والاخبار أفصحت بما لا يدع مجالاً للشك عن تقدم الاميركيين في امور مهمة ليس هناك أي نفع من انكارها، وهي أمور تضمنها ايضاً تقريرا التنمية الانسانية العربية الصادران في العامين الماضيين، واللذان اكدا تخلف العرب الشديد فيها جميعاً، واقصد بذلك تمكين المرأة، وتحقيق مجتمع المعرفة، ودفع عجلة التنمية المعتمدة على القطاع الخاص. اما عن تمكن المرأة، فقد كانت أهم شخصيتين في الصور المنشورة والاخبار المتداولة عن وقائع سجن ابو غريب، شخصية جانيس كاربينسكي وهي امرأة ترقت في مراتب الجيش الاميركي حتى حصلت على رتبة جنرال، واصبحت رئيسة لسجن ابو غريب، وامرأة اخرى لا يزيد سنها على 21 عاماً، اسمها ليندا انغلاند نشأت في منطقة فقيرة في ولاية وست فيرجينيا وهي واحدة من أفقر الولايات الاميركية، وتزوجت وطُلقت قبل أن تتم دراستها الثانوية، وتطمع في أن تحصل من طريق خدمتها في الجيش الاميركي على مالٍ يمكنها من الالتحاق بالجامعة، ونشأت بينها وبين زميل لها في سجن أبو غريب اسمه تشارلز غراند، علاقة عاطفية وحملت منه وهي الآن تنتظر طفلاً. هذه الفتاة الاخيرة ليندا انغلاند ظهرت في احدى الصور وهي تدخن وترفع احدى يديها بعلامة الانتصار، بينما تشير باليد الاخرى الى عورة رجل عراقي غُطي رأسه بكيس، وتبدو الفتاة ضاحكة مزهوة، وظهرت في صورة اخرى وهي تجر رجلاً عراقياً آخر، على ارض السجن، وهو عارٍ ايضاً، وقد ربطت رقبته برباط مما يُربط به الكلاب. مثل هذه الصور لم يكن من المألوف بل وربما لم يكن من المتصور ان نراها منذ اربعين او خمسين عاماً. فقد احرز المجتمع الغربي، وعلى الاخص الاميركي، تقدماً كبيراً خلال هذه الفترة، ليس في ميدان التصوير الفوتوغرافي وتطوير طرق التعذيب فقط، بل وايضاً في ميدان تمكين المرأة. فمع التقدم الكبير الذي احرزته المرأة الاميركية والغربية عموماً خلال الخمسين عاماً الماضية، زادت فرص العمل المتاحة لها، وارتفع متوسط الاجر الذي تحصل عليه، ما جعلها تلعب دوراً أكبر في الحياة العامة، واقترن هذا كله بارتداء النساء ملابس تكاد تكون مطابقة لملابس الرجل، كما يظهر مثلاً مما ترتديه ليندا في الصورة التي تجر فيها الرجل العراقي على الارض، وشيوع تشبّه النساء بالرجال في امور مثل قص الشعر مما يظهر ايضاً في الصورة والانضمام كجنود وضباط في الجيش على قدم المساواة مع الرجال... كل هذا لا بد من أن ينتهي بقيام المرأة بأعمال التعذيب نفسها التي يقوم بها الرجال، فما دامت المرأة اثبتت قدرتها على تحمّل مختلف المشاق الجسدية والنفسية، بالدرجة نفسها التي تتوافر للرجال، فلا بد من أن تكون قادرة ايضاً على القيام بتعذيب العراقيين من دون ان تضطرب او تشعر بأي عار. أي كلام بعد هذا عن اختلاف بيولوجي او نفسي بين الرجل والمرأة يحتم معاملتهما معاملة مختلفة لا بد من أن يبدو الآن، في ضوء ما رأيناه، وسمعناه عن سجن ابو غريب، سخيفا جداً ورجعياً للغاية. فأي قدرة على التحمل نطلبها الآن من المرأة تزيد على القدرة على تحمل جر رجل عراقي عارٍ وكأنه كلب على ارض السجن؟ وأي درجة من السفالة يمكن الآن ان نزعم أن الرجل قادر عليها بدرجة أكبر من المرأة؟ هذا هو إذاً مثال لما نطمع للعرب تحقيقه في مجال "تمكين المرأة" ورفع القهر عنها. فها هي ذي المرأة الغربية لم تنجح فقط في التخلص من صور القهر التي كانت تتعرض لها من جانب الرجل، بل استطاعت ان تقهر الرجل نفسه، كما يتضح من هذه الصور. أما عن النجاح في تحقيق "مجتمع المعرفة" فيظهر في أمور عدة، منها استخدام الاجهزة المتطورة في استجواب المعتقلين واستخلاص الاعترافات منهم. فكل هذه الاجهزة الكهربائية المتصلة بأجزاء مختلفة من الجسم، والمعدات المتقدمة للغاية المستخدمة في قياس ردود الفعل في جسم المعتقل، مما يظهر بوضوح على شاشات الكومبيوتر، ويسهل التحكم فيها بسرعة تمنع من وفاة المعتقل في وقت غير مرغوب فيه، هذه الاجهزة والمعدات ووسائل التعذيب لم يكن من الممكن بالطبع استخدامها في الحصول على افضل النتائج من المعتقلين الا بالاعتماد على ما تم احرازه من تقدم في مختلف العلوم الطبيعية والسلوكية. هناك ايضاً نشر المعرفة بما حدث في سجن ابو غريب من طريق ما احرز من تقدم بسبب الثورة التي حدثت في مجالي الاتصالات والمعلومات، وهو ما ترتب عليه، ليس فقط التقاط الصور ابتداء بهذه الدرجة من الوضوح، وفي ظروف كان من الصعب التقاط الصور في الماضي، ولكن ايضاً، القدرة على بث الصور والمعلومات على هذا النطاق الواسع في مختلف ارجاء الكرة الارضية، وبمختلف وسائل الاعلام، من تلفزيون وراديو وصحف وكومبيوتر، وبتكرار غير معهود جعل الصورة الواحدة أو الخبر الواحد يقع تحت العين نفسها او يخترق الأذن نفسها مرات عدة في اليوم، ما يضاعف من أثر الصورة والخبر في النفس فضلاً عن انتشار هذا الاثر بين الملايين او البلايين من الناس. قد يقال إن نشر المعرفة بهذه الأمور، وبهذه الدرجة، قد لا يكون نفعاً خالصاً. فتعود الناس على مناظر التعذيب وتكرار رؤيتهم مواقف تتضمن امتهان كرامة الانسان والاساءة اليه قد يحوّلان هذا الامتهان وهذه الاساءة أموراً مألوفة لا تثير في النفس ما كانت تثيره من قبل من نفور وامتعاض. كما ان تكرار اظهار امة معينة او معتنقي دين من الاديان في مظهر الذليل الخاضع للضرب والتعذيب والاحتقار، قد يشوه سمعة هذه الامة وهذا الدين الى الابد، ويجعل الناس يستهينون بهما ويشاركون في عملية الاذلال والاحتقار. ولكن ما اهمية هذا كله بالمقارنة بتوصيل المعرفة الى الجميع، وتمكين الجميع، في مختلف انحاء الارض، من رؤية الصور الملونة بعد بضع لحظات من التقاطها؟ وتوصيلها اليهم في منزلهم من دون ان يبذلوا اي جهد اكبر من الضغط على زر صغير؟ المهم هو كمية المعرفة وعدد المتلقين لها وسرعة توصيلها، أما مضمون المعرفة ومدى فائدتها، أو حتى مدى اتفاقها مع الحقيقة، فهذه امور لا تدخل في قياس التقدم والتخلف. الشيء نفسه ينطبق على نشر المعرفة بما يترتب على اكتشاف حوادث التعذيب من محاكمات واستجوابات. فمن المهم جداً أن يعرف الناس ما يدور في الجلسات التي استجوب فيها وزير الدفاع الاميركي وبعض رجاله في العراق عن حوادث التعذيب، وهل كانوا على علم بها أم لا، صدرت منهم الاوامر ام من غيرهم، هذا كله يدخل في مفهوم "تحقيق مجتمع المعرفة". ولكن ما لا يدخل في ذلك ان يعرف الناس ملابسات التقاط الصور نفسها، من الذي التقطها وما الدافع الى التقاطها؟ ولماذا لم يهتم احد بإخبارنا بما يجري في السجن قبل الآن بسبعة أو ثمانية اشهر، عندما كان التعذيب يجرى على أشده؟ وما الذي جدّ ليجعل التقاط الصور في السجن ممكناً ومرغوباً فيه؟ هل هو الصراع بين مصالح اميركية متضاربة؟ أو بين هيئتين اميركيتين قويتين تخدمان مصالح متعارضة؟ في مثل هذه الامور يبدو ان نشر الجهل افضل بكثير من نشر المعرفة. وأخيراً نأتي للخصخصة أو التنمية بجهود القطاع الخاص، ذلك أن سجن ابو غريب اصبح بدوره مجالاً مهماً لتشجيع القطاع الخاص على الدخول في ميادين جديدة كانت مقصورة في الماضي على الحكومة او القطاع العام، وأقصد بالذات ميدان التعذيب، فقد رأت وزارة الدفاع الاميركية ان من المفيد والاكثر كفاية عدم الارتكان في عمليات الاستجواب والتعذيب إلى رجال أو نساء وزارة الدفاع وحدهم، فهم في نهاية الامر موظفون حكوميون، والفلسفة الاميركية تعتبر اي موظف عام اقل كفاية بالضرورة من اي مشتغل بالنشاط الخاص أو "الحر". الموظف العام لا يتحرك الا بدافع المصلحة العامة، وهذا دافع ضعيف لا يُعَوّل عليه، إذ ان الناس بطبعهم لا تحركهم الا المصلحة الخاصة ودافع الربح، والامر في ما يبدو ينطبق على عملية التعذيب مثلما ينطبق على أي شيء آخر. التعذيب يكون أكثر كفاية إذا تم بدافع الربح، أما التعذيب بغرض خدمة الصالح العام أو المصلحة القومية العليا، فلا بد من أن يجري من دون الحماية الواجبة والمهمة المطلوبة. تخيل مثلاً جندياً او ضابطاً اميركياً، يتلقى مرتبه من وزارة الدفاع، وهو يستجوب معتقلاً عراقياً بغرض معرفة اسماء أو عناوين زملائه المشتركين في مقاومة الاحتلال.، إن مثل هذا الجندي أو الضابط، لن يتأثر مرتبه بمدى نجاح أو فشله في الحصول على اعترافات العراقيين، بل قد يصل به الضعف الى درجة الشعور بالعطف على بعض من يجرى تعذيبهم من دون ذنب. نعم، قد يحصل هذا الجندي او الضابط على تقدير اكبر من رؤسائه إذا نجح في استخلاص الاعترافات المطلوبة. ولكن اين هذا من دافع شخص آخر يعمل في شركة قطاع خاص، تستأجر وزارة الدفاع الاميركية خدماتها لاستجواب العراقيين وتعذيبهم للغرض نفسه. إن مثل هذا الشخص الآتي من القطاع الخاص، يعرف جيداً أن حجم دخله من الدولارات يتوقف على نجاحه في الحصول على الاعتراف المطلوب، إذ أن مكافأته يتم حسابها بالقطعة، إما طبقاً لعدد الاعترافات التي حصل عليها او عدد الرؤوس التي تعامل معها او الاجسام التي تم استجوابها اي تعذيبها، وهو فضلاً عن ذلك لن يخشى اية عقوبة إذا زاد التعذيب الذي يقوم به عن الحد المسموح به انسانياً، إذ انه لا يخضع للعقوبات التي يفرضها القانون على الموظفين العموميين إذا تجاوزوا حدود مسؤولياتهم، إن هذا الشخص القادم من القطاع الخاص لا تحكمه الا شروط عقده، وأقصى ما يمكن ان يتعرض له إذا تجاوز الحد المعقول من التعذيب هو إلغاء عقده والعودة الى بلده. هكذا ترى مدى الكفاية التي يحققها الاعتماد على القطاع الخاص حتى في شؤون التعذيب، هنا ايضاً يتم الحصول على اعلى ناتج بأقل نفقة، إذ لا يُسمح لأي اعتبارات انسانية أو اخلاقية، أو أي سخافات اخرى من هذا النوع، بتعطيل الحصول على النتيجة المرجوة. ما أجملها إذاً هذه "التنمية الانسانية" على طريقة سجن ابو غريب: ديموقراطية واحترام لحقوق الانسان وشفافية، وتمكين تام للمرأة، ونشر على اوسع نطاق للمعرفة، وفتح الباب على اوسع نطاق للقطاع الخاص للدخول حتى في أكثر امور الانسان خصوصية. * كاتب مصري.