في الاسبوعين الماضيين تلقى متابعو القنوات الاخبارية وقرّاء الصحف صدمات بصرية متتالية بدأت مع أول صورة لسجين في معتقل ابو غريب الذي تديره القوات الاميركية في العراق. إنه السجن نفسه الذي كانت ترتعد له ابدان العراقيين خلال حكم صدام، والذي شكل فضح التجاوزات الانسانية من خلف جدرانه جزءاً اساسياً من الحملة الاعلامية الاميركية ضد النظام السابق. الصدمة الاولى احدثتها صورة الرجل المغطى بالاسود، والذي اوثقت قدماه الى صندوق وقف عليه، ووصلت بأصابعه اسلاك كهربائية. فعل التعذيب بحد ذاته إن بالصدمات الكهربائية او بغيرها ليس غريباً عنا او عن العالم. فالعرب مشبعون بأخبار التعذيب التي تحدث في سجونهم، ولا يتحدثون عنها ويفضحها الغرب، وأخرى تحدث يومياً في المعتقلات الاسرائيلية، يتكتم عليها الغرب ويسترسل العرب في الحديث عنها. تواطؤ متبادل في الكشف والاخفاء تمليه الظروف والمصالح المختلفة. ولعل التعذيب بالكهرباء الذي بدا في الصورة يندرج ضمن اطار ما "ليس مبالغاً فيه" كما قالت المجندة ليندي انغلاند التي بدت في عدد من اللقطات واصفة الممارسات في السجن. لم يثر هذا الكلام انفعال احد، ليس لأنه مقبول او غير استفزازي، بل لأنه، وبكل بساطة، لا يحمل جديداً. الفرق هذه المرة يكمن في ان هذه المعلومة أو تلك وثقت ونشرت في صورة. فما يرويه المعتقلون الفلسطينيون عما يحدث في السجون الاسرائيلية لا يقل بشاعة عما حدث في أبو غريب. لكن أحداً لم يصور هناك. بقية الصور، على وحشيتها، جاءت مكملة لتلك الصورة الاولى. فأحدثت صدمات صغيرة متتالية وأعمق اثراً في النفوس، تماماً كما يلي الزلزال هزات ارتدادية متتابعة تبقي الناس مترقبين خائفين. فهي تظهر عري المعتقلين وعجزهم ووجعهم الداخلي، حتى اصبح كل واحد منهم يرى جسده في عيون ملايين المتفرجين. ويعود غضب الرأي العام الى كشف هذا العري أمام الملاء وليس لفعل حدوثه فقط. كالتي يغتصبها والدها وعزاؤها أن سرها لا يعلمه سواهما. وقبل ان تبرد الاعصاب من وقع هذه الصور، جاءت صورة إعدام الاميركي نيكولاس بيرغ بحد السيف على يد خمسة ملثمين، لتحيي الصدمة الاولى من جديد، ولتفقدها "التعاطف" الذي نشأ حولها. فأصبح مسموحاً وان غير مقبول للسيناتور الجمهوري جايمس انهوف ان يقول "ايدي هؤلاء ملطخة بدماء اميركية"!. الفارق بين المجموعتين ان الاولى غير معدة للنشر، وإنما اتخذت "لمجرد التسلية" بحسب ما اعترفت المجندة انغلاند خلال التحقيق معها، وقد بدت في احدى الصور تجر سجيناً بحبل عقد حول عنقه. قالت: "ظننا انه امر مسل، ولم نعلم اننا نتجاوز الحدود". هي صور التقطت للذكرى كما يفعل السياح في الاهرام او قلعة بعلبك! هل كشفت لفضح الانتهاكات؟ ربما. وربما ايضاً لحسابات داخلية متعلقة باحراج الحكومة البريطانية لمشاركتها في حرب عارضها الشارع. لذلك لم تعد مسألة صحة هذه الصور أساسية طالما ان طرق استخدامها متعددة. أما الاخرى فمصورة بقصد النشر والتوزيع والتهويل لا غير. وقد بلغت هدفها دون شك. الا انها عن علم او غير علم دعمت الموقف الداعي الى الاستمرار في الحرب. امتنعت الصحف والتلفزيونات عن نشر الشريط كاملاً، مكتفية ببعض اللقطات المموهة احياناً تخفيفاً على المشاهد. لكن المفارقة هي ان المشاهد نفسه ما عاد مكتفياً بهذا الكم من العنف، وأول رد فعل لديه كان البحث عن موقع منفذي الاعدام على الانترنت واستعادة الشريط كاملاً. بحذر وبطء، يبتلع الشاشة، يعيد مشهداً فاته لأن نوعية الصورة سيئة، ويسبق آخر لأنه حفظ عن ظهر قلب تعريف الرهينة بنفسه. ان كان كشف الصور العنيفة يهدف الى هز الرأي العام، فهو بدأ يعطي مفعولاً عكسياً، لأن المشاهد فقد قدرته على الانفعال مع ما يراه وأصبح يطلب المزيد. لفترة طويلة بقيت صورة تليمذ تيانانمين وصورة الطفلة الفييتنامية الهاربة من قريتها التي تلتهمها النيران رمزاً للعنف والمأساة الانسانية. فجأة بدأ تدفق الصور في شكل مكثف من اعدام امرأة افغانية في احدى الساحات العامة ببرودة وتصميم، الى مقتل الصحافي الاميركي دانيال بيرل في باكستان، الى صور الانتفاضة الآنية والسريعة. سرقت الصورة من الخبر فعاليته. أصبحت فورية، تأتيك بما لا يأتيك به هو، مشبعة برائحة الدم والاشلاء. تنقل اليك الحدث قبل ان يتسنى للمراسل صياغته. فماذا لو جاءت الينا صور التعذيب في سجن ابو غريب على شكل أخبار محققة وأكيدة لا صور؟.