المملكة رئيساً للمنظمة العربية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة «الأرابوساي»    "التجارة" تكشف مستودعًا يزور بلد المنشأ للبطانيات ويغش في أوزانها وتضبط 33 ألف قطعة مغشوشة    وفد عراقي في دمشق.. وعملية عسكرية في طرطوس لملاحقة فلول الأسد    مجلس التعاون الخليجي يدعو لاحترام سيادة سوريا واستقرار لبنان    الجمعية العمومية لاتحاد كأس الخليج العربي تعتمد استضافة السعودية لخليجي27    وزير الشؤون الإسلامية يلتقي كبار ضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة    الإحصاء: إيرادات القطاع غير الربحي في السعودية بلغت 54.4 مليار ريال لعام 2023م    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    استمرار هطول أمطار رعدية على عدد من مناطق المملكة    استخدام الجوال يتصدّر مسببات الحوادث المرورية بمنطقة تبوك    الذهب يرتفع بفضل ضعف الدولار والاضطرابات الجيوسياسية    استشهاد خمسة صحفيين في غارة إسرائيلية وسط قطاع غزة    السعودية وكأس العالم    الفكر الإبداعي يقود الذكاء الاصطناعي    «الإحصاء»: 12.7% ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    الحمدان: «الأخضر دايماً راسه مرفوع»    المملكة ترحب بالعالم    رينارد: مواجهة اليمن صعبة وغريبة    وطن الأفراح    حائل.. سلة غذاء بالخيرات    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    نجران: «الإسعاف الجوي» ينقل مصاباً بحادث انقلاب في «سلطانة»    الأبعاد التاريخية والثقافية للإبل في معرض «الإبل جواهر حية»    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    5 علامات خطيرة في الرأس والرقبة.. لا تتجاهلها    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    في المرحلة ال 18 من الدوري الإنجليزي «بوكسينغ داي».. ليفربول للابتعاد بالصدارة.. وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    مسابقة المهارات    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"تقرير التنمية الإنسانية العربية" في سجن أبو غريب
نشر في الحياة يوم 20 - 05 - 2004

عندما نُشر المشروع المسمى ب"الشرق الاوسط الكبير" متضمناً، ما تنوي الولايات المتحدة عمله لتطوير العالم العربي وبلاد اخرى متصلة به فوجئنا بإشارته، بين فقرة واخرى، إلى الاهداف نفسها التي تضمنها تقريرا "التنمية الانسانية العربية" الشهيران الصادران عن برنامج الأمم المتحدة للانماء في العامين 2002 و2003 وهي أهداف الديموقراطية والحرية واحترام حقوق الانسان، والنهوض بأحوال المعرفة، وما سمي "بتمكين المرأة" أي تحريرها ورفع صور القهر عنها، وكذلك دفع عجلة التنمية اعتماداً على القطاع الخاص.
وأي شخص حصيف يجد في هذا الكلام الكثير من دواعي السخرية، من أهمها أن أي هجوم استعماري، قديماً كان أم جديداً، كان دائماً يغطي الاهداف الدنيئة بشعارات سامية. ولكن حتى لو وضعت سلطات الاحتلال ترتيبات حديثة شبيهة بالديموقراطية ونشر المعرفة والتنمية وتمكين المرأة، فالأرجح أن النتيجة النهائية لهذه الترتيبات ستكون بعيدة كل البعد عن آمال شعوب المنطقة وطموحاتها، ففيما يتعلق بالديموقراطية والحريات السياسية مثلاً، يمكن أن يشرع في إجراء انتخابات بعد حرمان طويل، ولكن تظل حرية الترشيح والانتخاب مقصورة على الاختيار بين احزاب تقرها سلطات الاحتلال.
وقُل مثل هذا عن تمكن المرأة، فقد تسفر الترتيبات الجديدة في ظل الاحتلال عن زيادة عدد النساء المشتركات في عضوية المجالس النيابية او اللاتي يشغلن مناصب الوزراء مثلاً، فيصبح النساء على قدم المساواة مع الرجال في مثل هذه الامور، ولكن قد يسفر الامر أيضاً عن معاملة للنساء مماثلة بالضبط لمعاملة الرجال في أمور كان من الافضل على الاقل من وجهة نظر شعوب هذه المنطقة التمييز فيها بين الجنسين، بسبب اختلاف في طبيعة المرأة عن الرجل، بحيث تقوم المرأة بالحمل والإرضاع ولا يقوم بهما الرجل ومن ثم تختلف علاقة الأم بالاولاد في امور مهمة عن علاقة الأب بهم، فإذا اصررنا على المعاملة المتماثلة تماماً بين الرجل والمرأة فقد يضر هذا باستقرار الاسرة او بوجودها اصلاً، من ذلك مثلاً ان نتصور أن يعطي الزواج المثلي اي بين رجلين أو بين امرأتين في البلاد العربية الحماية القانونية التي يحظى بها الآن الزواج بالمعنى المفهوم، إما باسم احترام حقوق الانسان او باسم تمكين المرأة، وما يمكن ان يترتب على ذلك من آثار على الاسرة العريية، بالمعنى بالمفهوم حتى الآن للاسرة.
أما المعرفة فلا شك ان نشرها بين الناس مفيد في أمور كثيرة، ولكن من الممكن للمرء ايضاً ان يتصور حالات تكون فيها قلة المعرفة افضل من كثرتها، من ذلك مثلاً نشر المعرفة باسرار الناس الخاصة وفضائحهم، ونشر المعرفة بطلاق ممثلة مشهورة أو بالحياة الخاصة لسياسي خطير، أو زيادة عدد نشرات الاخبار عن الحد الملائم لفهم ما يحدث في العالم وهضمه وتحليله، أو زيادة تعريض الناس لمناظر الدم... أما التنمية فلها ألف طريقة، والتنمية على الطريقة الاميركية لم يثبت على نحو قاطع انها افضل من كل ما عداها.
كان لا بد أن تخطر اشياء كهذه في بال من يقرأ مشروع الشرق الاوسط الكبير، أو يسمع عن مزاعمه المتعلقة بنشر الديموقراطية وصيانة الحريات وحقوق الانسان ونشر المعرفة وتمكين المرأة وتشجيع التنمية القائمة على القطاع الخاص. فإذا خطرت مثل هذه الامور في البال، كان لا بد أن يمتعض المرء من أيّة محاولة لفرض هذا المشروع بقوة السلاح، بما في ذلك احتلال دولة لأراضي دولة اخرى، ففضلاً عن عدم مشروعية الاحتلال ولااخلاقيته، لا يمكن التذرع فيه بقاعدة "الغاية تبرر الوسيلة" حيث أن الغاية نفسها، كما رأينا، مشكوك في فائدتها ومشروعيتها، ناهيك عن الوسيلة.
كان هذا شعورنا طالما استمر الضرب والتدمير والاعتقال في العراق، لفترة زادت عن العام من دون ان تبدو أيّة بادرة الى أن العراق على وشك الحصول على الديموقراطية والحرية أو مزيد من المعرفة او التنمية او تمكين المرأة. فكنا كلما مرّ يوم يزيد استياؤنا مما يحدث ونتساءل عما إذا كان لهذا الليل الطويل من آخر، ثم حدث فجأة هذا الاكتشاف المروّع لما تفعله سلطات الاحتلال في العراق في سجن "ابو غريب"، إذ نُشرت في العالم كله صور مذهلة تبيّن كيفية معاملة المسجونين العراقيين، أكثرهم اعتقل ليس بسبب اعمال ارتكبوها بل لأعمال يُخشى ان يرتكبوها، أو هناك شبهة في احتمال قيامهم بارتكابها.
وعندما تأملت الصور التي نُشرت وتابعت ما كتب عنها وتصريحات المسؤولين الاميركيين في شأنها، بما في ذلك تصريحات الرئيس الاميركي نفسه ووزير دفاعه، وجدت في هذا كله ثروة عظيمة تلقي ضوءاً قوياً على معنى "التنمية الانسانية" كما تفهمها الادارة الاميركية عندما تستخدم هذا الشعار في تبرير مشروعها للشرق الاوسط الكبير. ما حدث في سجن "ابو غريب" يمكن ان يعتبر عيّنة ممتازة، وإن كانت فقط مفرطة في فجاجتها وقبحها، من المقصود بالتنمية الانسانية في ظل الشرق الاوسط الكبير.
لنأخذ أولاً الديموقراطية والحرية وحقوق الانسان. لقد فضحت صور سجن "أبو غريب" طريقة فهم الاميركي لهذه الشعارات الرائعة، فالايمان بالديموقراطية على الطريقة الاميركية لم يمنع من وضع آلاف مؤلفة من العراقيين في السجن من دون أن توجّه اليهم اي تهمة بل مجرد الشبهة او الصدفة المحضة. فقد ظهر من بين المعتقلين في سجن "ابو غريب"، عراقي سرق فرشاة اسنان، وآخر استقل أوتوبيساً مع آخرين متجهاً الى بغداد من اجل الحصول على رخصته وصودف ان اوقف الاوتوبيس للتفتيش كاحتياط امني واعتقل الرجل من دون سبب، وأمرأة خرجت من دارها عندما سمعت اصواتاً غير مألوفة كانت هي اصوات جنود الاميركيين يداهمون بيت الجيران، فخرجت المرأة لتستطلع الأمر فاعتقلوها من بين مَنْ اعتقلوا. من الواضح إذن ان الاميركيين يفهمون الديموقراطية بمعنى لا ينطبق على العراقيين، ويسمح بمعاملة العراقيين معاملة متميزة في قسوتها مما لا يمكن تصور أن يعامل بها اميركي أو على الاقل اميركي ابيض، بل وتسمح بمعاملة العراقيين احياناً كما لو كانوا حيوانات، او حتى اقل استحقاقاً للعطف من الحيوانات، وهذا ما يظهر من صور الاجسام العارية للعراقيين في هذا السجن وهي ملقاة، الواحد منها فوق الآخر، أمام صورة جنديين اميركيين مبتسمين ومجندة اميركية وهي تجر رجلاً عراقياً عارياً على الارض بعد أن ربطت رقبته برباط جلدي طويل من النوع الذي يقود به الاميركيون كلابهم في بلادهم.
وعندما سُئل الرئيس بوش عن هذه الصور عبّر عن اسفه ولكنه لم يعتذر، وعندما كرر رئيس تحرير جريدة "الاهرام" سؤاله عن هذه الصور بأدب جم في حديث صحافي مع الرئيس بوش في البيت الابيض، وعما إذا كانت تتطلب اعتذاراً منه، كرر الرئيس بوش التعبير عن الاسف من دون ان يعتذر: لا بد إذن أن حقوق الانسان العراقي تختلف في نظر السياسة الاميركية عن حقوق الانسان الاميركي، وعن حقوق الانسانب بصفة عامة، بل وعن حقوق الطلاب ايضاً.
قيلت اشياء كثيرة في محاولة التقليل من شأن ما أسفرت عنه الصور مما يجري في سجن "ابو غريب"، وكأنها لا تعكر صفو تلك الصورة الرائعة للولايات المتحدة باعتبارها حاملة لواء الحرية وحقوق الانسان، فقيل إن ما جرى في سجن "ابو غريب" حوادث "فردية" لا تشكل ظاهرة عامة، وان الرئيس بوش عبّر عن اسفه واشمئزازه، وان هذا هو ايضاً شعور الاميركيين بصفة عامة، وان هذه الأعمال لا تعبر عن المشاعر السائدة في اميركا ازاء العرب. وقال رئيس الوزراء البريطاني: يجب ألا ننسى ما كان يفعله صدام حسين بشعبه، بل وما تفعله حكومات عربية كثيرة بشعوبها من أعمال التنكيل والتعذيب مما لا يقل فظاعة عما رأيناه في هذه الصور. وقيل ايضاً ان نشر هذه الصور على هذا النحو وإذاعتها على هذا النطاق في مختلف وسائل الاعلام الاميركية فتح باب التحقيق مع وزير الدفاع الاميركي واستجوابه أمام الكونغرس، واستمع اليهما العالم كله من خلال التليفزيون. كل ذلك يدل على ما يتمتع به النظام السياسي الاميركي من شفافية لا يمكن معها حجب الحقائق عن الناس ولا أن يستمر ارتكاب الاخطاء الى ما لا نهاية، إذ تؤدي هذه الشفافية الى وأد الجريمة في مهدها، وان ينال كل مسيء عقابه، وهذا بالضبط هو ما يجب أن يقتدي به العالم، وما يفتقر اليه العرب بوجه خاص.
والحقيقة ان وصف ما حدث في سجن "ابو غريب"، بأنه "ظاهرة فردية" وصف محير وغير مفهوم، فهل المقصود أن ما حدث كان مجرد نتيجة لخاطر عارض طرأ على ذهن رجل مجنون أو أمرأة مجنونة ذات ميول سادية غير مألوفة، يجعلها تتلذذ بروية الآخرين وهم يتعذبون، وأن كل هذا جرى في غيبة عن الناس، من دون أن يصدر إليها أمر بذلك، بل ومن دون علم من رؤسائها بما تفعله؟ كيف يستقيم هذا التصوير للأمور مع ما تدل عليه الصور نفسها وما علمنا عن ملابساتها؟ التعذيب يجرى في ممرات واسعة أو فناء كبير، الضباط والجنود رائحون فيه وغادون، وامرأة صغيرة السن تقف مبتسمة وهي تنظر في عين المصور وتشير بيدها إلى الأجسام العارية المكومة أمامها، وفي صورة أخرى تقف وإلى جانبها زميل لها أكبر سناً يبتسم هو الآخر للكاميرا. المنظر إذن يظهر وكأننا في ميدان عام تحدث فيه أحداث عادية من النوع الذي يمكن أن يحدث في كل يوم. وتكويم أجسام العراقيين العرايا على هذا النحو، الواحد فوق الآخر لا يقدر عليه رجل واحد أو امرأة واحدة، بل يتطلب تعاون الكثيرين ولا يمكن أن يحدث من دون علم بعض المسؤولين، والأجهزة والأدوات المستخدمة في التعذيب من أسلاك وأجهزة مولدة للصدمات الكهربائية وعصي من نوعٍ خاص يحتاج توريدها وإعدادها واستخدامها إلى تعاون عدد كبير من الناس في السجن وخارجه بل وفي الولايات المتحدة نفسها. والرجال والنساء الذين وردت اسماؤهم في الأخبار باعتبارهم شاركوا في التعذيب لم يذكر عنهم، في حدود علمي، أنهم مختلو العقل أو يعانون أي مرض نفسي أو عقلي دفعهم إلى ارتكاب هذه الأعمال ويحتاجون بسببه إلى علاج من نوع خاص. الأقرب إلى التصديق أن الذين ارتكبوا هذه الأعمال هم مثل الآلاف المؤلفة من الاميركيين بمن فيهم الرئيس بوش نفسه وفيما عدا نسبة صغيرة جداً من الاميركيين قد خضعوا لسنوات كثيرة، وعلى الأخص منذ حوادث 11 أيلول سبتمبر 2001 إلى عملية متواصلة من تلويث المخ ضد العرب، من مختلف وسائل الإعلام الاميركية، بما في ذلك أفلام السينما، التي دأبت كلها على تصوير العرب على أنهم نوع متدنٍ من البشر، مجرمون بطبعهم وكذابون، ويحملون كل نقيصة يمكن تصورها، ومن ثم لا يستحقون معاملة أفضل من تلك التي تريها الصور التي التقطت في سجن "أبو غريب".
هذا المناخ الذي أوجدته ولا تزال تكرسه وسائل الإعلام الأميركية، من أفلام هوليوود إلى كتب المؤرخ برنارد لويس، وتدعمها في ذلك الحكومات الاميركية المتعاقبة والصهاينة وأصدقاؤهم، ليس "ظاهرة فردية"، بل ظاهرة عامة، تتكرر ليس فقط في سجن "أبو غريب"، بل في سجون أخرى في العراق، كما سمعنا أخيراً، وكذلك في معاملة العرب في المطارات الاميركية ومكاتب استخراج تأشيرات الدخول للولايات المتحدة، من دون تمييز بين طالب صغير أو سائح أو رجل أعمال، رجل أو امرأة، وزير أو خفير، وكأن هناك تعليمات صدرت لإذلال العرب كأمة، تمهيداً لإخضاعهم لأشياء لم يتصوروا حدوثها في أكثر لحظاتهم تشاؤماً.
أشياء لا يقبلها حتى الرأي العام الاميركي أو العالمي بسهولة، إلا إذا نسبت إلى العرب أيضاً جريمة بحجم جريمة تفجير برجي التجارة في نيويورك ووزارة الدفاع في واشنطن.
إذا أردتم المقارنة بين تعذيب سجن "أبو غريب" وتعذيب سجون صدام حسين وهي مقارنة من المدهش أن يلجأ إليها هؤلاء الذين أتوا إلينا بحجة وضع حد لما كان يفعله صدام حسين فالأقرب إلى الحقيقة أن ظاهرة التعذيب في ظل صدام حسين هي الظاهرة الفردية والاستثنائية، وليست ظاهرة التعذيب في عهد الاحتلال الاميركي، لا بمعنى أن عدد حالات التعذيب كانت في عهده أقل مما أصبحت بعده، ولكن بمعنى أن صدام حسين كان هو حقاً الظاهرة المدهشة بمعنى الكلمة، الذي كان يتصرف بوحي من أفكاره ونوازعه الفردية والاستثنائية، من دون أن يشاركه فيها أحد، كل الدلائل تدل على أنه كان رجلاً مجنوناً بمعنى الكلمة، لم تكن أعماله ضد شعبه وأهله نتيجة "مناخ عام" أوجدته الدعاية الصهيونية أو الأميركية، بل نتيجة مرض نفسي وعقلي حقيقي جعله يتصور نفسه شبه إله يمكنه أن يصنع ببقية الخلق ما يشاء، ويتلذذ من رؤية صوره وتماثيله تملأ الميادين وترتفع إلى عنان السماء.
هذه هي بالفعل الظاهرة الفردية والاستثنائية وليس ما دلت عليه صور "أبو غريب" في عهد الاميركيين. فهذه الشخصية الاستثنائية لم يجد الساسة الاميركيون بأساً من التعاون معها ودعمها حتى في أعمالها الجنونية ضد العراقيين العرب والإيرانيين والأكراد، وفي رأي الكثيرين ضد الكويتيين أيضاً، حتى ثبت أن المنافع التي يمكن جنيها من ورائها قد نضبت تماماً مثلما صبروا على تلك الظاهرة الأخرى الفردية الاستثنائية جداً، ظاهرة أدولف هتلر، في الثلاثينات حتى في أعماله الجنونية ضد اليهود، حتى ثبت أن خطره على المصالح الاوروبية والاميركية أكبر من نفعه.
بقيت فقط مسألة الشفافية، كلنا نحب الشفافية، بشرط أن تكون حقيقية وكاملة، وأن تأتي في الوقت المناسب، بهذه الشروط فقط يمكن منع وقوع الأخطاء أو الجرائم، أو على الأقل منع تكرارها ومعاقبة مرتكبيها العقاب الرادع، واطمئنان المواطنين إلى أن الحقيقة ستصل دائماً إلى اسماعهم كل الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة. أين النظام السياسي والإعلامي الاميركي من كل هذا؟ ما هي نسبة المعلومات الحقيقية إلى المعلومات المزيفة التي وصلت إلى المواطن الاميركي عن الأسباب الحقيقية لذهاب الجيش الاميركي لاحتلال العراق؟ وقبل هذا وبعده، كم يسمح الإعلام الأميركي للمواطن الاميركي بمعرفة حقيقة العرب، وحقيقة صفاتهم الشخصية ونمط حياتهم ودينهم وتاريخهم، وعن أسباب الخلاف الحقيقي بين العرب وإسرائيل؟ نعم، ليست هناك نهاية لحجم المعلومات التي تتدفق على رأس المواطن الاميركي صباح مساء، ولكن ما هي نسبة الصحيح إلى الزائف في هذه المعلومات؟ وما نسبة المهم إلى غير المهم؟ وإلى أي حد يسمح لغير المهم وغير الحقيقي بأن يطغى على المهم والحقيقي؟ ثم فلنأتي إلى الشفافية في ما يتعلق بسجن "أبو غريب" بالذات.
لقد عرفنا الآن أيار/ مايو 2004 بعض ما كان يحدث في هذا السجن في تشرين الأول أكتوبر وتشرين الثاني نوفمبر 2003، أي منذ سبعة أشهر على الأقل، فلماذا لم تتمكن أيّة صحيفة أو مراسل لإذاعة أو تلفزيون أو هيئة من الهيئات المعنية بحقوق الإنسان من دخول السجن ورؤية ما يحدث فيه طوال هذه الأشهر؟ ألم يكن من الممكن لو كانت هناك شفافية طوال هذه المدة، أن نجنب كل هؤلاء البؤساء من العراقيين ما تعرضوا له من عذاب، قد تبدو دقيقة واحدة منه معادلة لبؤس حياة كاملة؟ وإذا كانت الشفافية لم تُراع لا في الكشف عن حقيقة العلاقة بين الحكومة الاميركية وصدام حسين طوال الثلاثين عاماً الماضية، ولا عن حقيقة ذهاب الجيش الاميركي للعراق ولا عما تفعله إسرائيل في العراق منذ دخلها الاميركيون، فلماذا لا نشك في حقيقة تلك "الشفافية" المفاجئة التي اصابت النظام الاميركي فجأة في الاسابيع القليلة الماضية فأدت به إلى نشر صور التعذيب في سجن أبو غريب؟ لماذا لا تكون الحقيقة مثبتة الصلة بالحرص على الشفافية وتكون بدلاً من ذلك، كما يقول البعض نتيجة لصراع بين هيئة الاستخبارات المركزية ووزارة الدفاع الاميركية؟
فإذا كان الأمر كذلك، فهل يتوقع المرء أن تنتهي كل هذه التحقيقات والاستجوابات بعقاب حقيقي للقائمين بالتعذيب يمنع من تكراره في المستقبل، أم أن تنتهي إلى مثل ما أنتهت إليه اللجنة المشكلة لبحث الملابسات الحقيقية لأحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 أو اللجان المتتالية التي شكلت للبحث عن القاتل الحقيقي للرئيس جون كينيدي في 1963؟
الأرجح أن تنتهي هذه التحقيقات والاستجوابات الخاصة بسجن "أبو غريب" بانتصار إحدى هاتين المؤسستين الاميركيتين على الأخرى، من دون أن يُخطر المواطن الاميركي بأي شيء عما يجري بينهما من صراع، وتتسلم المؤسسة المنتصرة مقاليد اتخاذ القرار وتنفرد دون غيرها بتعذيب العراقيين على طريقتها، وبالنوع الذي يناسبها من "الشفافية".
* كاتب مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.