برزت مساحة الفن التشكيلي في مهرجان الدوحة الثقافي لهذا العام، من خلال إحكام اختيار العارضين في معرض "ملتقى الفنون البصرية"، وندوة الحوار المرتبطة بثقافة الصورة ضمن مفاهيمها الحداثية. اوحى المعرض الذي أُقيم في الفناءات الرحبة ل"سيتي سنتر" بأنه مشروع مستقبلي لمهرجان تشكيلي مقبل، يتسم بالعالمية والخروج عن الصيغ الجاهزة في البينالات وسواها. تبدّى هذا الطموح في الإخراج المتقن وتخصيص مساحة لكل فنان كافية لعرض تجربته بحيث يعتمد الميزان النوع وليس الكم. هو ما يسمح لنا بالتجوال المثير بين انواع الإبداعات المنتخبة. برز في العرض واسطة جديدة على المحترفات العربية، وهو التعبير المركّب بإسقاطات افلام "الفيديو"، من خلال ثلاثة فنانين، تبتدئ بأنس الشيخ البحرين: قدم عملين، خُصّص لكل واحد حجرة مستقلة الأول جديد بعنوان "تشويش"، تتزامن فيه صور لشاشة كبيرة اساسية تستحضر نصوصاً متضاربة من الذاكرة العرفانية، والثاني منجز عام 2000 في احدى "كاراجات" المنامة تحت عنوان: "ذاكرة الذكرى". يعكس بعمق مذكراته التي تتداعى خلف المكان والزمان، مستثمراً هيئة وجهه "الكافكاوي". تسبر "الكاميرا" اشد دواخله تمنّعاً، فتصوّر ذاتاً وأحوالاً وجدانية وجودية متراصة، تكشف موقفه الروحي من الأشياء والناس والمدينة. لا يعرف هذا الفنان حدوداً لأداءات التعبير، فقد فرض حساسيته في التصوير ثم في ميدان الكرافيك صمم شعار المهرجان والمعرض، وكان اثار الانتباه الى بواكير "الإنشاءات" في احدى دورات بينالي الشارقة. اذا كان انس الشيخ معروفاً منذ سنوات فإن المفاجأة كانت بمستوى توأمه في المعرض حسن مير سلطنة عمان. أثار عمله في "بينالي القاهرة" هذا العام الإعجاب بسبب القدرة على التخييل، اعاد عرضه معدّلاً في حجرة خاصة، يمثل عرضاً مركباً لشاشتي تلفزة. تعرض الأولى على الجدار جنازة محلية يشارك هو نفسه بطقوسها قارضاً تفاحة ثم يرمي بقاياها بترميز حول عبثية تداخل الموت بالحياة. يتزامن مع هذا العرض فيلم مسقط على سرير يمثّل حالات من حركته المقلقة قبل النوم يتداخل فيها عالم الحلم بالاحتلام. يرسّخ بهذا التزامن احساسه العميق بعبثية التجربة الإنسانية. يتميز برفع الحدود بين الحلم والوثيقة "المونرغرافية"، هو ما يتجلى في عمله الثاني المتزامن بدوره بين عرضين: شاشة التلفزة التي تصوّر صيرورة امواج البحر على الشاطئ، وإسقاط ضمن حوض ماء لشخص يحاول الخلاص عبثاً من الغرق. الفنان الثالث كان انور سوينا سلطنة عمان، هو ابرز رواد التأسيس في مسقط عام 1971، انقلب بشكل مباغت من اللوحة الى التعبير بالإسقاط المركب للفيديو، مستبدلاً الشاشة بعرائس ودمى بشرية. لكن اجنحة التصوير تظل الأساس في العرض ابتداء من فرج دهّام احد ابرز رموز التشكيل التعبيري الخليجي والقطري خاصة. عُرف بتكويناته البسيكولوجية الحادة التي تقتصر على جزء من الجسد البشري بحيث لا يبقى من هيئته إلا القدمان، يتشظى تشريحه داخل فراغ شطرنجي ترسم نقاط العلام فيه دريئة الإعدام، بحيث يبدو مثخناً بتبصيمات الاغتيال بالرصاص، ولكن اسلوبه التعبيري يعتمد على الإلماح اكثر من التصريح وعلى الصراع بين الخامات الكتيمة واللامعة بالإكريليك والملصقات، بحجز هذا الجسد في هامش هندسي، فيبدو اشبه بعرائس "خيال الظل" المقصوصة في زنزانة روحية. اما زميلاه يوسف احمد وعلي حسن، فقد عرضا في جناح الجمعية القطرية. نتعرف من خلال لوحتي علي ولوحة يوسف على التطور الدؤوب والحيوية التي تطبع نشاطهما، يُدخل الأول الهامش الأبيض على مرصّعات تجريداته والحافل بالكتابة الحرة، ويعتمد يوسف للمرة الأولى على التزامن اللوني الصريح في المساحات الرحبة المتقابلة ما بين اللون الناري والأزرق الكوبالت محافظاً على غنى خاماته وتنويعاته لأنسجة السطوح. والاثنان من الحروفيين المؤسسين هجرا الحرف وأبقيا حياكته البصرية والإيقاعية. يملك جناح بلقيس فخرو البحرين حضوره الكثيف بتجريداتها العملاقة، والتي تحوم سيولتها اللونية حول مجهرية "منمالية" لأعمالها الغنائية السابقة، هي من الفنانين الذين يقتصرون في التعبير على المقام اللوني وخصائص اداء الفرشاة وسلوكها المتعارض. كما عرض زميلها البحريني عمر راشد اشد مراحله نضجاً وحساسية، محاولاً العبور الى الملصقات الملونة بسخاء، والتخطيط الصريح بالأسود فوقها، بما يذكر بدرجة ما بتكوينات زميله ابراهيم بوسعد. اما فؤاد مغربل رائد المحترف السعودي في المدينةالمنورة فتملك مشاهده المعمارية استقلالاً مثيراً، يعيش هاجش مدينته الفاضلة من خلال "كريستالية" الألوان القزحية، بحيث تبدو وكأنها توضّعات متراكمة من "النور على النور". تقابله في اصالة هذا الهاجس البنغلاديشية نزلي منصور راصدة الحياة اليومية المتوحّدة والبائسة فتحيلها الى حلم او كابوس لوني محتقن بالألوان المحلية. اما مجموعة لوحات ميسون صقر القاسمي الشاعرة الإماراتية فتتفوّق بحساسيتها اللونية وشظاياها المعلّقة في فراغ مشرقي على المضامين الشعرية، وعلى رغم انها ترشح لوحاتها بطريقة ادبية فإن ما يفلت من حدود هذا الشرح هو موهبتها اللونية الرهيفة وطرق تقطيع الأشكال، بحيث يأكل اللون نقيضه، فتتظاهر الحوارات اللونية من بوتقة هذا الصراع. شردت بعض الأعمال خاصة التي تعانق الحروف عن هذا المسار فشوّشت بدرجة ما وحدة العرض. يبرز في مجال "الإنشاءات المجسّمة" Lصinstallation الفنان الإماراتي احمد ابراهيم، تتمسك هياكله الملفزة بالأرض مثل حيوانات ما قبل التاريخ ولكن شكلها النّصبي مستلهم من العمائر المحلية البدائية مثل الأضرحة وسواها. تقابله الإيرانية ليدا قدسي، التي بعثرت وحداتها المستلهمة من "قرن الفليفلة" وفق ايقاعات مثيرة وملونة على الأرض، هي ضمن المجموعة الحداثية التي اختارها "متحف طهران للفن المعاصر". مثّل الكويت نحاتان: العبّار بقطع صغيرة تعتمد بصرية الخامات خاصة مقاطع المرمر والرخام، وخزعل القفاص في تشكيلاته البشرية المتماوجة. تمثّل فن الحفر والطباعة من خلال الجناح المصري الذي اشتمل على ثلاثة فنانين معروفين: طارق سالم بإيقاعاته الليلية المدهشة وطارق محمد بتبصيماته للعناصر الاستهلاكية بلون احادي وسهير عثمان بأداء لوني متميز وهي استاذة معروفة اكاديمياً. علينا الاعتراف بأن الحفّار الياباني فوديزوكا كان نجم المعرض، بمستوى استثنائي من الأداء التقني والحساسية الكرافيكية، يعتمد تنويعات على "مفردة مثلثة"، تنتسب تكويناته في شكل صريح الى النظرة البوذية الطاوية الى الفراغ القدسي. بصيغة إلكترونية معاصرة. ان اختيار اسماء العارضين بمعزل عن المحاباة والشللية المألوفة، تمثّل نقطة التناغم الأوركسترالي العام، ناهيك عن مستوى اداء إخراج المعرض السينوغرافي، وإعطاء الفراغ المحيط بالعمل الفني حقه من دون ادنى احتشاد او تزاحم، مع احترام المسافة اللازمة لرؤية جدار العرض. يبدو المعرض على خصوبته اشبه بالرئة الفراغية التي تتنفس براحة ضوئية، وبشهيق وزفير تقني. وهو الشرط الإيجابي الذي حافظ على سمعة بينالي القاهرة قبله.