يكشف الكتاب الذي رافق معرض الفنون التشكيلية السادس والثلاثين الذي أقامته وزارة الثقافة والأعلام في مملكة البحرين في أجنحة المتحف الوطني في المنامة، أبرز التيارات والإتجاهات التعبيرية والتجريدية التي لا تزال ترفد بعطاءاتها الإبداعية الجديدة مكانة الحضور البارز لبعض فناني البحرين في المعارض العربية والدولية. فالمتحف الذي يستقطب سنوياً تلك الروافد والمتغيرات المستجدة على اتجاهات الفن الراهن في البحرين، يعكس بطريقة مباشرة وغير مباشرة مؤثرات حضارة دلمون وينابيعها التراثية العذبة والصافية على نتاج الفنانين المحدثين والمعاصرين. فالتجريد المستمد من أشارات البيئة وعلاماتها ومناخاتها اللونية يمنح التخيلات الفنية ذريعة للارتباط باللاشكلانية المتغلغلة في النسيج الجيولوجي لكل الأزمنة، وبالتالي تجاوز العوائق الاجتماعية والثقافية التي تحول دون تفهّم التجريد كمنطلق لرؤى داخلية تستخلص من المحسوس شيئاً من الحقائق الداخلية. إذ تظهر الدلالات الداخلية للشكل المجرد أكثر ارتباطاً مع المشاعر اللونية وأخيلة المناخ والإيهامات الغامضة التي تجعلنا نتمسك بالأمكنة كشموس لراحتنا واستقرارنا الداخلي. هذا ما نلمسه في أعمال بلقيس فخرو التي تنطلق هذه المرة وراء تعميق الفكرة البنيوية للصورة المستمّدة من إيقاعات الجدار وطراوة دلالاتها اللونية الأحادية «المونوكرومية» وبساطة إشاراتها التجريدية المنبثقة كتأملات داخلية لنتؤات الجدران القديمة وخدوشها وشروخها. كما ان الاشتغال على الملمس التصويري بخشونته وطبقاته شكل اهتمامات علي خميس، الذي عكس في اعماله جمالية تفسخات الجدار وأصداء سواد الحرائق بتبصيمات ظاهرة على سطح اللوحة. هذا السطح الذي يبدو جسداً لعمل تجريدي شبيه بالأمكنة الخاوية ونكبات الحروب. في خضم تلك المناخات السوداوية نفسها تطل أعمال زهير السعيد في مناخها التلويني المتحرر حيث يتهدل اللون الأسود كأبعاد رمزية لعلامات فوضوية تسود عالمنا المصبوغ بأخبار الحروب والكوارث ومخاطر التلوث وموت الأرض. ومن هذا القبيل يمكن قراءة اختبارت محمد صالح المقهوي وكيفية تفعيل الرمز الشكلاني من خلال الأسلوب التقليلي - المينمال. إن المعنى الكوني الذي تكتسبه اللوحة التجريدية في معرض البحرين يتقاطع وفق منظورين. يتبلور الأول في اتجاه بنائي منبثق من تجارب التجريد الغنائي والتجريد التعبيري (أعمال علي مبارك وعبدالكريم العريض وعبدالكريم البوسطة وعبدالجليل البناء ورياض الجنوساني وعمر الراشد)، بينما يتفاعل المنظور الثاني مع الطروحات المحدثة التي تغلغلت منذ عقود في التشكيل العربي والتي جاهدت في ايجاد مناخات لتفكيك الشكل واللون وفق تلميحات الأرتباط بظواهر ما سماه الفنان الفرنسي جان بازان «الإيقاع الخلاق لقوى الطبيعة». فالحساسية التلوينية الحقيقية المنبثقة من العوالم التجريدية - كما يقول بزان - «تبدأ عندما يكتشف الفنان أن اختلاجات الشجرة وقشرة الماء تربطهما قرابة، وان وجه الحجر ووجه الفنان توأمان. وان العالم إذ يتقلص شيئاً فشيئاً يرى الفنان المعاصر نفسه تحت وابل من الظواهر والإشارات الجوهرية التي تشكل في الوقت نفسه حقيقته وحقيقة الكون». من هذا المنطلق، غاص عدد من الفنانين التجريديين في تجارب التلوين الحر في سعيهم إلى تفكيك الأشكال المقطوفة من الواقع أو من المشاعر الذاتية، بحساسية معمقة لا تقتصر على ما تحفل به انطباعات الشبكة البصرية، بل تعول على التقنية والمهارة في الاعراب عن قوة اللمسة الارتجالية (الضربة واللطخة اللونية) التي تسجل بصمة الفنان وتفاعله وانفعالاته مع مشهد العالم، التي تجتمع وتختلط فيه حقائق الطبيعة والحياة والتراث بمشاعر الفنان الداخلية (أعمال راشد العريفي وعبد الكريم البوسطة ومحمد المهدي وعقيل الدرازي وعيسى الشجار ولبنى الأمين). ومن منطلقات التعبير عن جمالية ايهامات دمج الواقعية التصويرية بمناخات التجريد، سعى بعض الفنانين في البحرين إلى تأكيد مظهر ارتكاز لوحاتهم على الرسم كحالة التباسية روائية تجمع ما بين التخيّل والارتجال (أعمال جعفر العريبي وأيمن حاجي وأحمد عنان والسيد حسن الساري وعباس الموسوي وعقيل الدرازي ومحمد عبد النبي بحرين ومريم فخرو وعلي رمضان وهائلة الوعري). كذلك سعى البعض الأخر إلى دمج الحروفية بتناغمات الحركة الخطية وديناميكيتها وموسيقى الدرجات اللونية والإحساس بقوة النور الداخلي الذي يشع من التكوين التجريدي المستمد من التراث (أعمال شقير الدرازي ومحسن باقر ومحمود الملا وحسين ميلاد). ذلك ما نلسمه ايضاً في بعض ظواهر الأعمال النحتية والتركيبية التي تضمنها المعرض (أعمال سلمان التيتون وسامية انجنير) وهي تدمج ما بين ايماءات الواقع وليونة الحركة في التجريد. إذاً التجريد على انواعه ما زال يشحذ همم الفنانين ويدفعهم الى الجرأة في وضع الرؤى موضع الحقائق المرئية، من خلال تعدد المعالجات سواء بالألوان السائلة واحياناً بالسماكات والكثافات والخامات الجديدة. بالمقابل تتجسد العودة الى الشكل الواقعي من خلال الآرت - كيدج في اعمال عبدالرحيم شريف في طابع تجريبي متصل بالشيء الذي لا يكتسب قيمته وحضوره إلا باللون، الفج والصارخ. غير أن التعبيرية في منطلقاتها الواقعية والتجريدية هي الرائجة في أنجازات الفنانين، لكأن الرسم والتلوين المتحرر لا يزال وليد الفكرة والمهارة والحرفة التي تمرّس بها كبار الفنانين وتعاطوا معها كنزعة تحررية. فقد أضاف التعبيريون - على حد قول الباحث والفنان أحمد باقر - الى جسم الحركة الفنية قلباً كان لفترة موارياً وراء التقنية والشكل، فأعطاها عمقاً فكرياً وحساً متوقداً. فقد اتصفت بالتقشف اللوني والرمز، الا أنك عندما تدخل اي معرض جماعي في البحرين فكأنك آتٍ من بيئة أفرغت فيها الشمس كل نورها وتوهجها. فيما تزايد عدد النساء المشاركات في المعرض بوفرة، في مجالات الرسم والنحت والفخاريات، استمر عدد من كبار الفنانين المخضرمين في رسم المناظر والأجواء التراثية والفلكلورية من اجل اعطاء البيئة البحرينية الحافز الإلهامي الأكثر شعبية (أعمال عبدالله المحرقي وأصغر إسماعيل والشيخ راشد بن خليفة أل خليفة). ويصر الشيخ راشد بن خليفة في كل معرض جماعي على عرض لوحة كبيرة مستمدة من أجواء البحرين وتاريخها العريق، وهو المعروف بأسلوبه التجريدي - الغنائي وتجاربه الموغلة في هموم المعاصرة. فهو من الفنانين الكبار القلائل الذين يجاهروا بالواقعية، ربما لإدهاشنا وإثارة الأسئلة حيال حياة هنيئة كادت ان تختفي في أزمنتنا الراهنة. فالزمن الفني الراهن يسوده الغموض والتوتر، هذا ما جسدته لوحة خليفة شويطر الذي رسم نفسه مطعوناً بالسكاكين وهو يلون لوحة صلبه في جو خيالي - سريالي. كما رسم زهير بشارة ساعة الزمن متوقفة وهي مقيدة العقارب بحبل يمنعها من الحركة. فالزمن في الفنون المعاصرة يبدو في حالة من السيولة يجمع بين الحنين الى الماضي ورموز السفر في المستقبل.