كتابان عن العاصمة اللبنانية صدرا عن دار النهار، بيروت، أولهما لأديب فرنسي عاد ليتلمس آثار طفولة أمضاها فيها، وثانيهما لصحافي ايطالي زارها ممزقة في الحرب محتلة بعدها. "مدينة كان اسمها بيروت" نصوص مختارة ترجمها الشاعر الزميل عبده وازن من كتابين صدرا لريشار مييه في الحرب وبعدها، و"بيروت عندما كانت مجنونة" ترجمته جمانة حداد عن كتاب "سامي: قصة لبنانية" لانطونيو فيراري مراسل صحيفة "كورييري ديللا سيرا". يقول وازن في مقدمة "مدينة كان اسمها بيروت" ان مييه عاد "ليكتب عن لبنانه لا لبنان اللبنانيين... الذي لم يبق في الوجود". كانت الحرب مأساته الشخصية، وإذ عاد الى المدينة المهدمة بعد ستة وعشرين عاماً فلكي يستعيد في آن واقع المدينة و"جنة الحلم الطفولي". الفارق بين الشهادتين هو بين "ابن" المدينة وزائرها، بين الأدب والصحافة من دون أن يعني ذلك أن أحدهما أفضل من الآخر. لريشار مييه علاقة خاصة، شخصية وسياسية، مع بيروت، وفي عودته يوازن بين ما يراه وما يعرفه ككل عائد. انطونيو فيراري زائر لا تتدخل ذاكرته في الواقع ولا تكثفه بشحنة عاطفية. "علي أن أوازن في ذاكرتي بين هذه الحديقة وحديقة بيروتية أخرى" يقول مييه، أما فيراري فعليه أن يوازن انطباعاته عن الاطراف المختلفة وتغطيته للأحداث لكي لا يفقد مصادر الصحافي الموضوعي. في الصفحة 12 من "مدينة كان اسمها بيروت" يقول مييه: "الفتور الذي أبدته فرنسا والغرب حيال بلد طفولتي يؤلمني حتى الدمع". يبدي اللبنانيون اعجاباً كبيراً بفرنسا، لكن الكاتب اشمأز من جيسكار ديستان لأنه لم يرسل جيشه ليوقف الحرب فور اندلاعها، ومن فرنسوا ميتران لأنه اهتم بالفلسطينيين وحدهم، الصفحة 43. انتشار اللغة الفرنسية أحد مظاهر قوة بلاده وثقافتها، ومييه يمتنع عن دخول الجامعة الأميركية في بيروت ويصعقه انحسار لغته في بيروت الغربية والشوف. يبتهج لسماع حديث بالفرنسية بين ايطالي ولبنانيين وينفر من فتيات يتكلمن الانكليزية قرب قصر الصنوبر، سفارة بلاده. انطونيو فيراري يكتب عن لبنان في المقابل من دون وعي سلفي وحسابات سياسية. ينحاز الى الوحدة الايطالية في القوة المتعددة الجنسيات ويقول انها قامت بمهمة منع تكرار مذابح المدنيين "على أكمل وجه، بل بامتياز". يفخر بتحقيقها الكثير بوسائل محدودة ويقول ان جنودها كانوا الأكثر شعبية بفضل الخدمات السخية التي قدمها مستشفاهم الميداني قرب مخيم شاتيلا، وسياسة بلادهم المؤيدة للعرب يومها. لكن قياس الشعبية أمر قابل للنقاش، فالمستشفى استفاد منه طرف واحد في النزاع، وبعض اللبنانيين لم يعتبروا أنفسهم عرباً. يقارن ريشار مييه بين الماضي والحاضر، ويحسب الربح والخسارة في ما يتعلق به وبلبنان. لغته شفافة، عميقة وسلسة، وحبه بلاد طفولته يستلهم دائماً عشق عدد من الأدباء الفرنسيين للبنان ويضيف بعداً جمعياً الى وعيه. عاد الى بيروت قبل اعادة الاعمار ونزل في فندق الكسندر، الأشرفية، ليترصد "في الليل الرطب" وسط ضجة السيارات والأجراس "تناغمات لا أعرف تحديدها". لم يأت ليسد فراغاً في الذاكرة والقلب فحسب بل ليبحث عن سلام ما لنفسه والمدينة. هو ابنها وغريب في الوقت نفسه، ومن موقعه المزدوج يشارك ويتفرج. ما صعقه أكثر من دمار الحرب ان "جزءاً من الذاكرة انتزع منه سره": "هذه اللعبة بين الماضي والحاضر أثارت فيّ قلقاً مفاجئاً وأعادت إليّ ألماً أكثر قدماً... الشعور بالفراغ والنهاية". يكتئب مزاجه لرؤية "التمدن المتوحش" في جونيه وجوارها، ويعرف اعلاء روحياً في مغارة أفقا ومغارة في مغدوشة قيل ان مريم والدة يسوع دخلتها عندما زارت صيدا، شعر بالفرح والرعب وربما بصراع بين الاثنين انتهى بانتصار الفرح "ثم تبع ذلك شعور بالفراغ وكأنه وليد اللذة والعناد والشعور المرعب بالعدم". بيروت التي اختصرتها الباءات الثلاث، البنك - البكارا وبيت البغاء، لم تعد موجودة. والمدينة التي كانت في الليل قبل الحرب أشبه ب"نسيج دمشقي مذهّب نُسي فوق الصخور" بات مدينة مغلقة متلبدة عارية، ومساحة موت. في غربها صور الائمة ورايات حزب الله وفي شرقها اعلانات بالفرنسية والعربية والانكليزية: تعصب ديني يواجهه فجور فركنتيلي. ذكريات مييه كثيرة عن الليسيه الفرنسية - اللبنانية وأساتذتها، عن الأصدقاء والغرباء والأماكن الأليفة. شارع بدارو "غابة سحرية، كل خطوة فيه تثير شيئاً دفيناً يتكلل بالبهاء فقط لعيني المندهشتين العارفتين". محل سمانة الأخوة رزق دُمر، واختفت غالبية أشجار الصنوبر، البيت الذي تعرف فيه الى أسرار الجسد مع ماري اليهودية الشقراء فيه عمال يصلحونه. "ماذا أرى وسط هذه الجدران سوى ما فعله الزمن بوجهي؟" يتسائل في الصفحة 28. شارع الحمراء يبدو أضيق مما كان، وفيه أنهار ساتر ترابي على عامل فبكاه مييه الطفل ليالي عدة. قرب السبورتنغ كلوب وقف عاجزاً عندما تحرش رجل بأمه وأنقذهما طفل ب"الشتائم العربية الرائعة تنهال من فمه" الصفحة 36. يتجاوز بيروت الى الشوف والجنوب لكنه يحس أن الشمال الذي أأحبه طفلاً مغلق عليه. جال مع أسرته كل يوم أحد في المناطق خلافاً للبنانيين الذين لا "يسافرون" داخل بلادهم. يعرف ان الأشرفية كانت مقبرة رومانية وان نهر الكلب استمد اسمه من قصة كلب يدعى ليكوس، وسلك ابن الدولة الاستعمارية سلوكاً وقحاً وبشعاً مع الأضعف منه، لكنه كان خجولاً وطأطأ رأسه عندما سمع التعليقات السمجة على النمش في وجهه. تعلم ابن الريف الفرنسي حب بلاده من اللبنانيين أنفسهم وأخذ عنهم الشعور باللغات. تنقل اللبنانيين السريع بين العربية والفرنسية والانكليزية لا يزعجه لتعبيرهم في ذلك عن تواصل اللغات وانفتاحها. اللهجة اللبنانية تصعد الى فمه "دفعة واحدة وكأنها روائح الطفولة" والعربية هي "ضوء الآخر" و"لغة حب متعددة تتفق في شكل كامل مع رغبتي" الصفحة 46. يصور التناقضات ويأس اللبنانيين من وطنهم ودولتهم، وعند زيارته منطقة الفنادق التي تحولت جبهة في الحرب يرسم في عبارة واحدة وضع المدينة السوريالي. الدمار والاحتلال لم يمنعا الاصرار على العيش والفرح بأناقة. "سهرات فخمة في أسفل فندق متهدم يعسكر فيه الجيش السوري". يربط سامي قصاص قصص انطونيو فيراري عن الحرب في لبنان، ويحاول التأثير في الصحافي اللطيف شخصياً المتجرد مهنياً. في "بيروت عندما كانت مجنونة، قصتي مع سامي" يكتب فيراري الأسرار المعروفة التي لا يزال كثيرون يتجنبون التصريح بها. التجاهل والتلميح يفيدان الصحافي المحلي، لكن شجاعة مراسل "كورييري ديللا سيرا" جلبت عليه التهديد بالقتل. يجد فيراري وصفاً لطيفاً لكل مسؤول قابله لكنه لا يتجاهل العنف الذي لجأ اليه الجميع ضد الأخوة الأعداء. كان سامي سائقه وضابطاً في ميليشيا الحزب التقدمي الاشتراكي، ونبّه فيراري منذ البداية الى أن المسيحيين أولاد حرام وجزارون، لكنه أعطاه مجلة بالانكليزية ورد فيها ان مقاتلي الحزب قطعوا أجساد ضحاياهم بالمنشار الكهربائي. كان ولاؤه تاماً لزعيم طائفته على أنه احتاج الى وساطة المراسل الايطالي لكي يطلب وظيفة لابنه من وليد جنبلاط. رأى "الحرب رائعة" لأن المرء فيها يعرف انتماءه، وبعد سيطرة الشيعة على بيروت الغربية اعتبر ان زعماءهم لا يساوون ظفراً واحداً من وليد جنبلاط. لم يعرف فيراري اسم عائلة سامي الا بعد أن كتب مخطوطة الكتاب الذي ينهيه بوفاته عن تسعة وخمسين عاماً بالسرطان ودفنه في عين عنوب "هناك في الجبل حيث يتنفس هواء أهله الدروز". أحس فيراري في تنقله بين البيروتين أنه ابن شديد التعلق بوالديه المنفصلين، يزور نهاراً الأم، بيروت الغربية التي تتحمل البؤس المزري وتحصر كل الدناءات بزوجها. ويعود ليلاً الى الأمان الأبوي المخملي، شرق بيروت المتمسك باستقلاله الأبي الذي يتهم زوجته بالخيانة والسهولة. بقي في فندق كافالييه في الحمرا الى ان نشر تحقيقاً عن مجزرة قتل فيها نحو مئة فلسطيني واتهم الشيعة بارتكابها. هدد بالقتل مع زميلة ايطالية فانتقلت سفارة بلاده الى الزوق قرب جونيه وعاد هو الى ايطاليا. في مطار بيروت استنجدت به أميركية أطلقت مع النساء لدى خطف طائرة تي دبليو أي في حين احتجز الرجال الذي كان بينهم المغني اليوناني ديميس روسوس. انتهى الحادث مساء بحفلة في فندق السمرلند جمعت الخاطفين والمخطوفين! يقول فيراري ان الفلسطينيين جعلوا بيروت عاصمة لدويلة داخل دولة، لكن الأموال الهائلة التي أرسلوها مع غيرهم، كالقذافي مثلاً، حفظت مكانة الليرة اللبنانية أقله حتى 1984. نشر في العام نفسه في الذكرى الثانية لمجزرة صبرا وشاتيلا مقابلة مع مسؤول مكتب للكتائب في اسرائيل اعترف فيها بارتكاب حزبه المجزرة مع تشديده على انها كانت خطأ مأسوياً. ويذكر صراحة اسم الدولة التي قتل بشكل "شبه أكيد" كمال جنبلاط، ويتحدث عن مرور المئات من "القوات اللبنانية" أمام حاجزين سوريين في طريقهم الى اهدن لقتل النائب توني فرنجية وعدد من أفراد أسرته وأنصاره. ويحكي عن المهجرين الذين نجوا من المذابح التي ارتكبها الدروز في الشوف وسكن بعضهم تحت كازينو لبنان في صورة صارخة للتناقض بين البؤس والفحش. يقول في الصفحة 169: "كن أسياد الحرب يزعمون انهم مفوضون من الله، ويتصرفون على هذا الأساس... بعض عناصر الميليشيا المسيحية ألصقوا صورة العذراء على أعقاب بنادقهم "لكي تحمينا وتساعدنا في اصابة الهدف". أما "حزب الله" فقد كان يرسل مقاتلين استشهاديين الى الموت... كان ثمة اتكال على تسامح إلهي مزعوم حتى عند ارتكاب الأعمال الأكثر تطرفاً في بلد يعرف كيف يصلي بخشوع ويظهر في الوقت نفسه نزعة مادية شديدة الجموح، كما لو أن الله على أتم الاستعداد لمنح المقاتلين الذين كانوا يحاربون باسمه الإذن بارتكاب الآثام". يحتال فيراري أحياناً على التسمية الصريحة فيستبدل السم الميليشيا بالطائفة علماً أن بعض الطوائف انقسم الى طرفين أو أكثر وعرف النزاع الداخلي. على أن تجرده الظاهر من العاطفة، السابقة أو الحاضرة، يعزز نزاهته المهنية وبرود حكمه. ويروي قصة لقائه الأول بوليد جنبلاط الذي طلب منه قبعة قناص في الوحدة الايطالية يزينها ريش الديك البري. "لم يبدُ لي استثنائياً على الاطلاق، بل كان يستحق ان أذكره في ذيل مقالي". عندما توثقت معرفته به تعلم أن يقدره ورآه صادقاً وشجاعاً. ويذكر ان بشير الجميل أجبر دار خياطة على العمل طوال الليل لكي تنجز له بذلة أقسم فيها اليمين عندما انتخب رئيساً لأن خزانته خلت من الثياب الرسمية. أمين لجميل نقيض شقيقه وهو شغوف بعالم الأعمال وضعيف أمام النسبة المئوية والأطباق الشهية والشمبانيا والنبيذ الفاخر. وهو قادر على ترؤس أي شيء في مؤسسة عالمية الى مجلس بلدي شرط ان تكون المحلة مترفة. سمير جعجع حذر متحفظ عمل على تحسين صورة "القوات اللبنانية"، والسيد محمد حسين فضل الله "زعيم ذو قيمة مطلقة" وصادق ونزيه. ميشال عون ساذج وهش والبطريرك صفير الذي يراه البعض ضعيفاً ذو شخصية حقيقية. غسان تويني هو الشخصية المسيحية الوحيدة التي تحصل على مديح حقيقي من انطونيو فيراري: لامع وصاحب رؤى كبيرة. يجب أن أقول ان بعض مسؤولينا وشخصياتنا أكثر لطفاً وتمدناً مع الصحافيين الأجانب لإيمانهم العميق ان "هالتهم" في مجتمعاتنا السطحية المذعنة للسلطة تفرض عليهم التعامل بعلياء سخيفة ومنفرة مع الصحافة المحلية. ويشدد فيراري على الأهمية التي أولتها ايطاليا لوحدتها العسكرية في لبنان ومبادرة رئيسها الى التوجه شخصياً الى البلد المضطرب في عيد القوات المسلحة الايطالية بدلاً من الاكتفاء بتوجيه رسالة مسجلة. كانت أول بعثة خارجية كبرى بعد الحرب العالمية الثانية، ومع ان لبنانوايطاليا من بلدان البحر المتوسط كان الأول أبعد موقع عسكري للثانية.