الحقيل يزور ركن نادي جازان الأدبي ويشيد بجهوده في مسيرة الحركة الثقافية    مستشفى أحد رفيدة ينفّذ حملة "لقاح الانفلونزا الموسمية"    فنٌّ ينبض بالهوية.. ماجد حملي رحلة الإبداع بين التراث والحداث    "الهيئة العامة للإحصاء" تنشر إحصاءات الأمن الغذائي لعام 2023م    179 قتيلا في تحطم طائرة كوريا الجنوبية    "المياه الوطنية" تنتهي من تنفيذ شبكات المياه في محافظة الحرث بجازان    الجامعة الأهلية بالبحرين: إطلاق منتدى الدكتوراه الاول للاعلام الرقمي في البحرين    جمعية المعالي النسائية تشارك في مهرجان النورية بارك بمكة المكرمة    شرطة الرياض تضبط شخصين عبثا بوسائل السلامة في محطة انتظار نقل عام    "الأرصاد": التوقع بهطول أمطار على معظم مناطق المملكة    الأزهر يدين حرق الكيان الإرهابي لمستشفى كمال عدوان في قطاع غزة    واتساب تختبر مزايا ذكاء اصطناعي جديدة    تغلب على المنتخب العراقي بثلاثية.. الأخضر يواجه نظيره العماني في نصف نهائي خليجي«26»    السعودية تحصد ثمار إصلاحاتها ورؤيتها الإستراتيجية    الجماهير السعودية تحتفل بتأهل الأخضر لنصف نهائي «خليجي 26»    خادم الحرمين يتلقى رسالة خطية من بوتين    في المرحلة ال 19 من الدوري الإنجليزي.. ليفربول في اختبار وست هام.. وسيتي لإيقاف نزيف النقاط أمام ليستر    رئيسة الاتحاد السعودي للريشة مي الرشيد: أشكر وزير الرياضة وسنعمل بروح الفريق    وزير الدفاع يلتقي قائد الجيش اللبناني    المملكة تعزز الأمان النووي والإشعاعي    أسعار النفط ترتفع.. برنت فوق 74 دولاراً    الصين: اتجاه لخفض الرسوم الجمركية على مواد معاد تدويرها    مبادرات تطوعية    الثقة الدولية في المملكة    أحلام عام 2025    "روشن" تضع حجر الأساس لمجتمع "المنار" في مكة المكرمة    «عزف بين التراث والمستقبل».. متحف طارق عبدالحكيم يحتفي بذكراه السنوية الأولى    "الرياض آرت" يُعلن مشاركة 30 فنانًا من 23 دولة في ملتقى طويق الدولي للنحت    في إطار الجهود المبذولة لتحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030.. إطلاق فعالية «ليالي الفيلم الصيني»    من دفتر الأيام: مشوار في قصرغرناطة بأسبانيا    يوم ثقافي لضيوف برنامج خادم الحرمين    تقدير دعم المملكة لقيم الاعتدال حول العالم    ضيوف "برنامج خادم الحرمين" يزورون مصنع الكسوة    خادم الحرمين يتلقى رسالة من الرئيس الروسي.. القيادة تعزي رئيس أذربيجان في ضحايا حادث الطائرة    طريقة عمل شيش طاووق مشوي بالفرن    أحد رفيدة وزحام العيادات.. مطالبات بمركز متخصص للأسنان    5 سمات شخصية تميز المتزوجين    5 آلاف خطوة يوميا تكافح الاكتئاب    المنتدى السعودي للإعلام يطلق معسكرًا لتطوير الإعلام السعودي بالذكاء الاصطناعي    من الشهرة إلى الثروة: هل نحتاج إلى رقابة مالية على المؤثرين؟    المنتج الإسباني غوميز: «الجمل عبر العصور» جدير بالحفاوة في أي بقعة من الأرض    منصة X: الطريق إلى القمة أو للقاع    «الفنيلة والسروال» والذوق العام    المطار.. عودة الكدادة !    الحرب العالمية الثالثة.. !    ماسك يؤكد دعمه حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف    قائد "الأخضر" سالم الدوسري يحصل على جائزة رجل مباراة السعودية والعراق    شولتس: لا أنام إلا قليلاً رغم أني من محبي النوم لفترة طويلة    القيادة تعزي رئيسة الهند    «حمام الحرم» يستوقف المعتمرين    ضبط 6 إثيوبيين في عسير لتهريبهم (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    "الإسلامية" تؤهل الأئمة والخطباء والدعاة في تايلند    إسرائيل تتمسك باستهداف المستشفيات    911 نموذج مثالي لتعزيز الأمن والإنسانية    الأخضر السعودي يتغلّب على العراق بثلاثية ويتأهل لنصف نهائي خليجي 26    الرويلي يرأس اجتماع اللجنة العسكرية السعودية التركية المشتركة    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كمال جنبلاط : الرجل والاسطورة . حرب اللبنانيين انتهت الى التعادل وانتصر شعار "لا غالب ولا مغلوب" 2
نشر في الحياة يوم 28 - 10 - 2000

تناولت حلقة الاربعاء 25/10/2000 صلات كميل شمعون بدول "حلف بغداد"، ولقاء كمال جنبلاط الرئيس المصري جمال عبدالناصر، والعدوان الثلاثي، واكتساح شعبية عبدالناصر الشارع اللبناني المسلم، ومحاولات جنبلاط تخفيف التوتر في الشارع اللبناني المسيحي.
وهنا الحلقة الثانية من كتاب ايغور تيموفييف.
ما إن أذيع نبأ سقوط كمال جنبلاط من الإذاعة حتى عمت المختارة حالة من الانفعال الشديد. وكما هي الحال دوماً عند الدروز في أوقات الخطر، غصّ القصر فوراً بالرجال المسلحين. جاء بعضهم ببنادق الصيد، فيما استخرج بعضهم الآخر على عجل بنادق انتفاضة عام 1925 المخبأة من ذلك الزمان. ولم تفلح كل المحاولات لإقناعهم بضبط النفس والعودة إلى منازلهم بهدوء. وأراد جنبلاط أن يتصل هاتفياً ببيروت من دون جدوى. وكرر المحاولة مراراً، فاتضح له أن شخصاً قطع أسلاك الهاتف لشدة غضبه، وتوقف الاتصال بالعالم الخارجي. وسرت شائعات أن الجموع الغاضبة في الشوف سدت الطرق في بعض الأماكن وزحفت على مخافر الدرك. ومع أن السلطات تحلت بضبط النفس ولم ترد على تهجمات الجمهور المنفعل إلى أقصى حد، فإن خطر نشوء قلاقل واضطرابات كان يزداد من ساعة إلى أخرى.
وغادر جنبلاط القصر ليلاً متوجهاً إلى بيروت على نحو غير ملحوظ. فهو كان يدرك أن وجوده في العاصمة واحتمال اعتقاله في أية لحظة وسيلة ناجعة لمنع أهالي الشوف من القيام بأعمال عنف خوفاً عليه. كان، بحسب الظاهر، هادئاً واثقاً من نفسه كالعادة.
لازم جنبلاط المنزل بعض الوقت ليداري الإرهاق الذي دهمه فجأة. وصار يشعر بالاشمئزاز الشديد، إلى حد الغثيان، من عالم السياسة ودسائس كواليسها ولعبتها الوقحة من دون أي تقيد بالأصول. إلاّ انه لا يطيق الفكرة التي صورت له بقية العمر شوطاً متواصلاً في حلقة مفرغة.
كتب جنبلاط لاحقاً أنه توصل آنذاك إلى استنتاج قطعي في شأن حتمية الثورة على النظام. وفي نهاية حزيران يونيو عاود الاتصالات مع جبهة الاتحاد الوطني وشارك في عملها. ولم تكن المعارضة يومها تملك سلاحاً ولا رجالاً مدربين عسكرياً وقادرين على ردع فصائل الموالين المسلحة التي شكلها العهد. وبتكليف من جنبلاط توجه إلى دمشق على عجل مبعوثه أمين أبو فخرالدين، فاستقبله مدير الأمن السوري عبدالحميد السرّاج بترحاب وطلب منه أن يحمل إلى جنبلاط مبلغاً من المال كان الرئيس جمال عبدالناصر حوّله له. ورد أمين أبو فخرالدين أنه غير مخوّل مثل هذه الصلاحية، ويتعين عليه أن يتشاور مع جنبلاط في هذا الشأن. إلاّ أنه رفض تسلم المال.
في تموز يوليو 1957 أمكن تنظيم تسلم السلاح والذخيرة من سورية. كانت الشحنات "المهربة" ملفوفة في صرر ثقيلة تنقل عبر المسالك الجبلية الوعرة على ظهور البغال إلى دير العشائر جنوب وادي البقاع، حيث نظم شبلي آغا العريان، وهو من أنصار كمال جنبلاط، نقطة توزيع سرية يأخذ السلاح طريقه منها بكميات قليلة إلى الشوف، وكذلك إلى بيروت حيث يتسلّمه رجال صائب بك سلام وسائر زعماء المعارضة الإسلامية.....
وأدت معركة دير العشائر التي سقط فيها ضحايا من الجانبين، بين قتلى وجرحى، إلى نسف الهدنة. وفي نهاية 1957 حصلت في بيروت سلسلة انفجارات تحملت مسؤوليتها جماعات متطرفة مثل عصابة إبراهيم منيمنة و"منظمة تحرير الوطن السليب". وانفجرت عبوات ناسفة من مختلف الأحجام في مكاتب الجرائد الموالية للحكومة او بالقرب لها مثل "النهار" و"الحياة" و"الجريدة" و"صدى لبنان" وكذلك في مكتب إذاعة "صوت أميركا" في بيروت ومبنى السفارة الأردنية. وردت السلطات على ذلك بحملة تنكيلية واسعة. ولم يبق شك في أن جميع إمكانات التسوية استنفدت، وان لبنان أخذ ينزلق على نحو خطير إلى هاوية الفوضى وإراقة الدماء.
الوحدة المصرية - السورية
في الأول من شباط فبراير 1958 أعلن عن تأسيس الجمهورية العربية المتحدة. وعلى رغم أن الشائعات حول الوحدة بين مصر وسوريا سرت في بيروت من بداية العام، فالإعلان عن ميلاد الدولة العربية الجديدة فجّر موجة الميول الوحدوية بين المسلمين. إلا أن كمال جنبلاط الذي قدّر عالياً المحاولة التوحيدية الاولى في التاريخ العربي المعاصر، لم يؤيد الفكرة التي ظهرت بين المسلمين حول انضمام لبنان إلى دولة الوحدة. بل اكثر من ذلك، اعتبر مثل هذه الميول والأفكار ضارة وخطرة للغاية. وفي بداية آذار توجه جنبلاط إلى دمشق على رأس وفد كبير من أنصاره ليهنئ شخصياً الرئيس جمال عبدالناصر الذي كان وصل إلى العاصمة السورية. وفي 9 آذار مارس ألقى بحضور عبدالناصر خطاباً يمكن اعتباره برنامجياً من دون مبالغة.....
وعندما نقرأ بإمعان نص خطاب جنبلاط في دمشق لا بد أن ندرك أنه موجّه إلى اللبنانيين وليس إلى عبدالناصر وحده. وحتى الثناء على الثورة المصرية ما هو إلا محاولة لإيصال وجهة نظر جنبلاط السياسية إلى أبناء جلدته عشية الأحداث التي قدر لها، في تصوراته، أن تفتح صفحة جديدة في تاريخ لبنان.
في آذار 1958 ضاعف أنصار الرئيس شمعون في مجلس النواب نشاطهم لتجديد انتخابه. وكان ادراج مسألة تعديل الدستور ضمن جدول أعمال المجلس يتطلب موافقة ثلثي أعضائه. ويعتبر التعديل نافذاً إذا صوت لمصلحته ثلاثة أرباع النواب. وكان تطور الأحداث على هذا النحو وارداً ما دام المجلس يتكون كله تقريباً من الموالين لرئيس الجمهورية. ثم ان فكرة ترشيح كميل شمعون لولاية ثانية حظيت بدعم قوي من سفراء الدول الغربية، وبالدرجة الأولى السفير الأميركي الجديد روبرت مكلينتوك. إلا أن معارضة شديدة قامت ضد التجديد لشمعون. فإلى زعماء جبهة الاتحاد الوطني، عارضت تعديل الدستور جماعة من السياسيين ورجال الأعمال المتنفذين كانت تسمي نفسها "القوة الثالثة" وكان بين ممثليها المتذمرين من سياسة العهد ومن الرئيس شمعون شخصياً شخصيات تحظى بالتقدير في لبنان كله امثال هنري فرعون وشارل حلو وغسان تويني ويوسف سالم وجبرائيل المر وجورج نقاش ويوسف حتي وسواهم. وكان من معارضي الرئيس شمعون أيضاً البطريرك الماروني بولس المعوشي الذي رفض سياسة عزل لبنان عن العالم العربي.
واصل جنبلاط في آذار - نيسان ابريل 1958 اتصالاته المكثفة مع جميع القوى المناهضة للرئيس شمعون. ولفتت انتباه الجميع زيارة وفد كبير من الحزب التقدمي الاشتراكي للبطريرك الماروني بمقره في بكركي، اذ توجه إليه موكب من 300 سيارة مزينة بأعلام الحزب. وفي 18 آذار شارك في جلسة "المؤتمر الوطني" التي عقدت بدار هنري فرعون. وأكد الحاضرون، وكان عددهم لا يقل عن 80 شخصية، تمسكهم باستقلال لبنان وفقا لمبادئ الميثاق الوطني، وأعلنوا معارضتهم ترشيح شمعون لولاية ثانية. وانتخب هنري فرعون رئيساً للمؤتمر، وعبدالله اليافي نائباً له، فيما انتخب جنبلاط أميناً عاماً.
اغتيال نسيب المتني
في بداية أيار غدا واضحاً أن البلاد انقسمت في الواقع معسكرين متعارضين استنفدا كل إمكانات المساومة وأعدا العدة للاقتتال. ولم يبق سوى الرصاصة الأولى التي تشعل فتيل الحرب. ودوت تلك الرصاصة ليلة 7 - 8 أيار مايو 1958. ووقع ضحيتها الصحافي اليساري المعروف نسيب المتني صاحب جريدة "التلغراف" الذي كان خرج من السجن قبل ذلك بقليل حيث أمضى عقوبة حبس بتهمة إهانة رئيس الدولة. وعلم في اليوم التالي أن القتلة كانوا يتربصون بالمتني في باب الدار القائمة قبالة مبنى الجريدة وأطلقوا النار عليه عندما غادر المكتب في ساعة متأخرة بعد منتصف الليل.
وخلافاً للشائعات التي روجها خصومه، لم يكن نسيب المتني الماروني شيوعياً، بل كان تبنى آراء اشتراكية معتدلة. كان من خصوم العهد، ينتقد في جريدته السياسة الخارجية للرئيس شمعون ومخططاته لتجديد ولايته. وفي الوقت الذي اتهمت فيه المعارضة السلطات اللبنانية باغتياله، روج الموالون رواية زعمت أن تلك الجريمة هي من فعل المخابرات السوفياتية ال "كي.جي.بي." التي حاولت، بحسب هذه الرواية، تشويه سمعة النظام الحاكم في لبنان وايجاد مسببات القلاقل والاضطراب. ووردت في هذا الخصوص إشارة إلى الدوائر الأمنية السورية.
وعلى أية حال استخدمت المعارضة اغتيال المتني الذي هز البلاد بأسرها ذريعة لقرع طبول الحرب. وفي 9 أيار أصدرت جبهة الاتحاد الوطني وزعماء المعارضة في طرابلس وممثلو مؤتمر الأحزاب والمنظمات بيانا مشتركاً حمّلوا فيه النظام المسؤولية كاملة عن موجة الاستفزازات والاغتيالات التي اجتاحت البلاد، ودعوا اللبنانيين إلى الإضراب العام الى أجل غير مسمى. وعندما وقع جنبلاط البيان كان، شأن سائر زعماء المعارضة، واثقاً أن اطاحة النظام لن تستغرق اكثر من ثلاثة أيام، حتى أنه راهن ذات مرة مع العميد ريمون اده الذي أكد أن كميل شمعون سيبقى في منصبه حتى نهاية المدة القانونية في 23 أيلول. وكان سبب ثقة جنبلاط في النصر القريب أن الموقف الناشئ في البلاد يشبه تقريباً، باعتقاده، ما كان عشية "الثورة البيضاء" عام 1952 حيث غدا الاضراب العام فاتحة لاستقالة الرئيس بشارة الخوري.
إلا أن المعارضة في 1958 أخفقت في تكرار سيناريو 1952 الذي حال دون إراقة الدماء في حينه. ففي 9 أيار 1958 أريقت الدماء الأولى في طرابلس. وكانت محاولة قوى الأمن لتفريق التظاهرة العفوية التي قامت بعد صلاة الجمعة في مسجد عمر، أدت إلى اضطرابات وفوضى اجتاحت المناطق الأخرى أيضاً. وفي آخر النهار بلغ عدد الضحايا 11 شخصاً إضافة إلى عشرات الجرحى. والى طرابلس، وقع ضحايا في بيروت حيث جرت اشتباكات بين المتظاهرين ورجال الشرطة في منطقة المقاصد وكذلك في المصيطبة وبرج أبي حيدر. ووردت من الشمال أنباء عن تفجير أنبوب شركة نفط العراق.....
وما ان اندلعت الثورة حتى ازدادت إرساليات السلاح من سورية. وفي 12 أيار احتجز موظفو الجمارك في نقطة المصنع على الحدود السورية - اللبنانية لوي دي سان القنصل العام البلجيكي في دمشق الذي حاول نقل كمية كبيرة من الأسلحة والذخيرة في سيارته. وليلة 12 - 13 أيار زحفت فصيلة كبيرة من الدروز من دير العشائر وهاجمت المصنع بغتة. وفجّر المهاجمون مبنى الجمارك ومكتب الأمن وقتلوا خمسة من خفراء الجمارك وانسحبوا تحت جنح الظلام باتجاه الحدود السورية. واتضح في ما بعد أن شبلي آغا العريان خطط للعملية، ونفذها خزاعي آغا العريان وسلمان أبو حمزة وسامي عطاالله.....
وبالتدريج أنشأ جنبلاط في الشوف إدارة توافرت لها كل المستلزمات والهيئات الكفيلة تلبية حاجات الأهالي وحفظ النظام العام. وكان المعيار الوحيد الذي انطلق منه في تعيين المسؤولين، معتقداتهم وخصالهم الشخصية، وليس انتماءهم الطائفي. فقد عيّن فيمن عين، للمناصب الحساسة في المحكمة والادعاء العام واللجان التي تولت شؤون المالية والخدمات الطبية والصحافة والدعاية والإعلام، مسيحيين ممن يتمتعون باحترام السكان. وهكذا تم في الشوف وللمرة الاولى إلغاء مبدأ التمثيل الطائفي، وظهر النموذج الإداري العلماني كلياً والذي ينبغي، باعتقاد جنبلاط، أن يغدو أساسا لبناء الدولة في المستقبل.
وحتى نهاية الأسبوع الأول من الثورة، سيطرت المعارضة على قسم كبير من الأراضي اللبنانية. وإلى الأحياء الإسلامية في بيروت حيث تلتقي كل خيوط الانتفاضة في بيت صائب بك سلام، كان بأيدي الثوار معظم وادي البقاع وعكار والمناطق الساحلية شمال طرابلس. وكان الوضع في الشوف هادئاً نسبياً حتى بداية حزيران 1958، إلا أن العاصمة شهدت انفجار القنابل يومياً تقريباً، مما أسفر عن سقوط ضحايا كثيرة بين الأهالي المسالمين. وفي طرابلس خاضت فصائل المعارضة بقيادة رشيد كرامي معارك ضارية ضد الموالين في حي التبانة والقبة، أما في القسم الشمالي من البقاع الذي يدين بالولاء للوجيه الإقطاعي صبري بك حمادة، فقد حدثت مناوشات بين الثوار الشيعة ومقاتلي الحزب القومي.
والغريب أن الرئيس كميل شمعون، حتى قبل يوم واحد من اندلاع الثورة، لم يكن يصدق انها ستقوم. إلا أن الحكومة اللبنانية سعت إلى تدويل النزاع الداخلي اعتباراً من 12 أيار عندما اتضح أن الخطر على العهد قائم فعلاً. فالهجوم من جهة الأراضي السورية على مركز الجمارك في المصنع قدم للمسؤولين في بيروت ذريعة لاتهام الجمهورية العربية المتحدة بالتدخل في الشؤون الداخلية للبنان. فوجّهوا إلى حكومتها مذكرة احتجاج في 13 ايار 1958. وفي اليوم ذاته عقد وزير الخارجية شارل مالك مؤتمراً صحافياً حمّل فيه القاهرة ودمشق مسؤولية الاضطرابات الناشئة في لبنان. وفي 21 أيار خرج الرئيس شمعون إلى الصحافيين وكان امتنع منذ البداية عن الإدلاء بتصريحات رسمية. وكرر في كلمة بالانكليزية اتهاماته للقاهرة، وأعلن أن الرأي العام العالمي سيطّلع في القريب العاجل على وقائع كثيرة تدل على تدخل الجمهورية العربية المتحدة في شؤون لبنان الداخلية. وفي اليوم ذاته وجهت الحكومة اللبنانية إلى الجامعة العربية شكوى من أفعال الجمهورية العربية المتحدة، وفي اليوم التالي بعثت بشكوى مماثلة إلى مجلس الأمن الدولي.
وأثار استنجاد السلطات الرسمية بالهيئات الدولية استنكار زعماء المعارضة. وفي 25 ايار وجهت قيادة جبهة الاتحاد الوطني برقية إلى الأمين العام للأمم المتحدة داغ همرشولد طالبت فيها بعدم النظر في شكوى لبنان المستندة إلى تزوير الوقائع والهادفة إلى نسف علاقات حسن الجوار مع الجمهورية العربية المتحدة. وأيّد جنبلاط وجهة النظر هذه بالكامل. فبعث في 26 أيار إلى الأمين العام للأمم المتحدة ببرقية باسمه أكد فيها أن الأحداث الجارية في لبنان ذات طابع داخلي صرف ويجب ألا تعرض على بساط البحث في المنظمة الدولية.
كان جنبلاط واثقاً من أن الثورة يجب أن تستمر حتى يتم تقويض العهد. ولهذا السبب لم يشعر بالارتياح والرضا من ازدياد المحاولات في نهاية أيار وبداية حزيران 1958 للتوسط بين شمعون وزعماء المعارضة. وكانت مبادرة الاخوين ريمون وبيار اده اللذين اقترحا على الرئيس شمعون إقالة سامي الصلح وتعيين اللواء فؤاد شهاب رئيساً للوزراء موقتاً صادرة عن حسن نية بالطبع، إلا أنها غير مقبولة بالنسبة إلى جنبلاط لمجرد أنها تفترض بقاء شمعون في منصبه. وكان جنبلاط يرى أن موقف البطريرك بولس المعوشي اكثر جذرية. فقد طلب من الرئيس شمعون أن يتنازل عن صلاحياته ويغادر البلاد ويسلم السلطة كاملة إلى اللواء فؤاد شهاب. وفي 26 أيار أدلى كمال جنبلاط من المختارة مباشرة بتصريح إلى الصحف أكد فيه: "أن الثورة الشعبية لن تهدأ قبل تنازل رئيس الجمهورية". وفور صدور قرار مجلس الأمن الدولي ايفاد مراقبين من الأمم المتحدة إلى لبنان، اعلن جنبلاط بمزيد من الحزم عن الاستعداد "للزحف الى بيروت".....
ومنتصف الاسبوع الثاني من حزيران 1958 قرر كمال جنبلاط تنشيط العمليات للسيطرة على الشوف كاملاً بهدف تهيئة رأس جسر هناك للزحف اللاحق إلى بيروت. وفي 9 حزيران تحركت أربع مجموعات من الثوار في وقت واحد صوب بلدة الفريديس وطوّقتها من جميع الجهات. وكانت في البلدة قوات كبيرة من الموالين بقيادة نعيم مغبغب، وهي تسيطر على اتجاه الباروك - عين زحلتا المهم من الناحية الاستراتيجية. وفي 10 حزيران استسلم اهالي الباروك، وبينهم عدد كبير من أنصار كمال جنبلاط، وساعد هذا القرار الطرفين على تفادي الخسائر بالأرواح. وفي 12 حزيران شن مقاتلو "القوات الشعبية" هجوماً على الفريديس والمطر يتساقط مدراراً. وتكللت عملياتهم الحازمة بالنجاح. فعلى رغم الدعم الجوي، لم يتمكن الدرك ورجال نعيم مغبغب المرابطون في البلدة من الصمود في مواقعهم فانسحبوا مشتتين بعدما تكبدوا نحو 60 قتيلاً.
واصلت فصائل الثوار هجومها، بعد احتلال الفريديس، صوب طريق بيروت - دمشق المهم استراتيجياً، إلا أنها لم تنجح في الوصول إليه. فقد واجهتها من منطقة مصح السل الأرمني في العزونية وحدات الجيش اللبناني التي كانت حتى ذلك الحين متقيدة بالحياد ولم تساند عملياً أياً من الجانبين المتحاربين. وبعد مناوشة طفيفة مع وحدات الجيش اتصل كمال جنبلاط فوراً باللواء شهاب. وتم بينهما لقاء مهم في سبلين أسفر عن توقيع اتفاق الهدنة. وتعهد جنبلاط تأمين حرية تنقّل المدنيين وسيارات المواد الغذائية في اتجاه بيت الدين ودير القمر، فيما وافقت قيادة الجيش على بقاء نقطة التفتيش في بتلون بأيدي الثوار، وعدم زيادة عديد الدرك في بيت الدين ومنعهم من التجول بسلاحهم خارج المدينة. ....
في 25 حزيران 1958 اعلن الرئيس شمعون أنه يتمتع بكل الصلاحيات الدستورية ليطلب عند الاقتضاء تدخلاً عسكرياً اجنبياً بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. وسرت في بيروت شائعات مؤداها ان اعضاء حكومة سامي الصلح وقعوا قبل حين وثيقة تقر هذه الصلاحيات وسلموها إلى السفارة الأميركية. واقلق تصريح شمعون هذا كمال جنبلاط إلى اقصى حد، وجعله هذا الانعطاف الخطير يصمم على بدء الزحف إلى العاصمة من دون أن ينتظر حتى يدرك زعماء المعارضة البيروتيون الذين تورطوا في حرب موضعية فاترة، ضرورة استجماع كل القوى في قبضة واحدة وتسديد الضربة الختامية القاضية إلى النظام.
واختيرت هدفاً للهجوم قرية شملان الصغيرة في منطقة عاليه المطلة على بيروت وغير البعيدة عن المطار الدولي. ووضع خطة العملية اللواء شوكت شقير الذي عينه كمال جنبلاط قائداً للقوات الثورية. وفي 30 حزيران زحفت فصائل غير كبيرة من كفرحيم باتجاه شملان واستولت في اليوم التالي على المرتفعات المحيطة بها. وتميز القتال في منطقة شملان بالضراوة نظراً إلى ان الثوار اضطروا هناك إلى شل مقاومة رجال الحزب القومي المدربين جيداً. وعلى رغم استخدام الموالين المدفعية على نطاق واسع، اضافة إلى التغطية الجوية بالطائرات الحربية، فقد تمكنت قوات "المقاومة الشعبية" من تطويق شملان، وكانت مستعدة لاقتحامها إلا أن الجيش تدخل في الأحداث من جديد في اللحظة الحاسمة، فاضطرت قوات المقاومة إلى التراجع. واشتاط كمال جنبلاط غضباً. فسكوت صائب سلام وسائر زعماء العاصمة الذين لم يهبوا لنجدة ثوار الشوف وهم كادوا يدخلون بيروت ولا تفصلهم عنها سوى عشرة كيلومترات، جعله يدرك تماماً القيمة الحقيقية لحلفائه في المعارضة.
إلا أن ثورة 14 تموز 1958 او الانقلاب العسكري الذي حدث في بغداد وأطاح الأسرة المالكة ونظام نوري السعيد الديكتاتوري عجّل كثيراً في حل العقدة اللبنانية. فقد استدعى الرئيس شمعون إلى قصر الرئاسة فورا السفير الأميركي روبرت مكلنتوك وقدم اليه طلب لبنان الرسمي بإرسال مساعدات عسكرية من الولايات المتحدة بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة والاتفاقات بين البلدين في إطار مشروع ايزنهاور. وجاء كومض البرق رد الولايات المتحدة القلقة لتبدل الموقف المفاجئ في الشرق الاوسط. وبدأ إنزال مشاة البحرية الأميركية على شواطئ الاوزاعي الخالية في 15 تموز. وفي ساعات معدودات تحولت أطراف بيروت معسكراً حربياً هائلاً. وتوزعت قوات الإنزال الأساسية على بساتين الزيتون حول مطار خلدة الدولي الذي أخذت طائرات النقل العسكرية تهبط على مدرجه الواحدة تلو الأخرى حاملة وحدات اضافية من القوات الأميركية المرابطة في ألمانيا. وتلقى مشاة البحرية أمر قائد القوات الأميركية في لبنان الأميرال جيمس هولاوي بتفادي الاشتباكات مع اللبنانيين وعدم اطلاق النار إلا في حال هجوم فصائل المعارضة الموالية لعبدالناصر من البسطة أو هبوط فصائل جنبلاط من الجبال في محاولة لاقتحام العاصمة.
وأثار انزال القوات الأميركية موجة من الغضب والاستنكار في صف المعارضة. واعتبرته جبهة الاتحاد الوطني ومؤتمر الأحزاب والمنظمات عدواناً على لبنان، فيما دعا صائب بك سلام الثوار الى مواجهة "الضيوف الثقلاء" بقوة السلاح. ولم يكن موقف كمال جنبلاط اقل تشدداً وراديكالية. فهو قال إن كميل شمعون عندما استدعى الأميركان اطلق "آخر سهم في جعبته". وناشد الجيش اللبناني أن ينتقل إلى صف الشعب ويقاوم الغزاة بالتعاون مع المتطوعين من الأقطار العربية المجاورة.
وفي 17 تموز أوفد الرئيس ايزنهاور نائب وكيل وزارة الخارجية الاميركية روبرت مورفي إلى لبنان وكلفه مهمة تقصّي الحقائق ودرس الموقف، والبحث عن أفضل حل للأزمة يرضي الولايات المتحدة. وتخلى الأميركيون آنذاك عن الرئيس شمعون مدركين أن الخروج من الطريق المسدود يستدعي وجود رئيس جديد للبلاد يرضي جميع أطراف النزاع. ولذلك فحالما وصل مورفي إلى بيروت توجه إلى حي المصيطبة الإسلامي وليس إلى رئيس الجمهورية. وكانت المصيطبة غدت، على حد تعبير العميد ريمون اده، محور محادثاته في بيروت. وبعد التحدث إلى صائب سلام وعبدالله اليافي وحسين العويني اقتنع مورفي بصدقية جعل التشاور مع المعارضة حجر الزاوية في مهمته. ووجه الديبلوماسي الاميركي جهوده ايضاً في اتجاه طرابلس حيث التقى رشيد كرامي. وكان له لقاء مهم للغاية مع جنبلاط في إقليم الخروب، في إطار الحوار مع المعارضة. والى زعماء الثورة، بحث مورفي في الوضع بالبلاد مع البطريرك الماروني بولس المعوشي، ومع زعيمي "القوة الثالثة" هنري فرعون وريمون اده، وكذلك مع اميل البستاني الذي كان عائداً لتوه من القاهرة، وبالطبع مع قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب.
ومع أن مورفي أصر في محادثاته مع السياسيين اللبنانيين على ترشيح اللواء شهاب لرئاسة الجمهورية، فقد كان للكثيرين منهم رأي آخر. ونوقش في المحافل السياسية امر ترشيح يوسف حتي الذي كان يؤيده زعماء "القوة الثالثة" من جهة، وكثير من زعماء جبهة الاتحاد الوطني من جهة اخرى. وكان جنبلاط ايضاً يميل في البداية إلى حتي، إلا أنه، بعد الحديث مع مورفي، وافق على ترشيح اللواء شهاب، ولكن شرط ان يعمل الأخير على سحب القوات الأميركية من لبنان بأسرع ما يمكن، ويشرع بتطبيق الإصلاحات ويوفر للمعارضة فرصة المساهمة الفاعلة في السلطة. وبعد حين أوضح جنبلاط النقطة الأخيرة بمزيد من الدقة معلناً ان الحزب التقدمي الاشتراكي يأمل في الحصول على حقيبة الداخلية في الحكومة الجديدة اضافة إلى حقيبة اخرى وكذلك منصب نائب رئيس الوزراء. وكان مورفي في محاولته دعم ترشيح اللواء شهاب، أعلن لمحدثيه ان قائد الجيش هو الشخص الذي تؤيده القاهرة. وبالنتيجة أيد ترشيح قائد الجيش جميع زعماء المعارضة، اللهم إلا عبدالله اليافي.
انتخب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية في 31 تموز 1958 بأكثرية 48 صوتاً في مقابل 7 اصوات أعطيت للعميد ريمون اده الذي لم يكن يأمل في الرئاسة لكنه رشح نفسه لكي لا يقال ان هذا الانتخاب تم "في ظل الأسطول السادس" على حد تعبيره.....
إلا أن تطور الأحداث سار وفق سيناريو آخر خيب آمال جنبلاط فزعماء جبهة الاتحاد الوطني لم يصمموا على الافادة من الموقف، وفضلوا المساومة على الضغوط القسرية متصورين أنها ترضي الجميع. وأسفرت تلك المساومة عن تأليف حكومة وزعت حقائبها الوزارية بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين. وكانت الحكومة الجديدة التي جلس فيها زعيما الثورة رشيد كرامي وحسين العويني إلى طاولة واحدة، مع زعيم الكتائبيين بيار الجميل وزعيم الكتلة الوطنية ريمون اده، تجسيداً دقيقاً لشعار التهدئة الذي طرحه صائب بك سلام: "لا غالب ولا مغلوب". وكان على هذه الحكومة، في تصور الرئيس فؤاد شهاب، ان تحقق المصالحة الوطنية وتؤمن الاستقرار.
يصدر قريباً عن "دار النهار" كتاب "كمال جنبلاط، الرجل والأسطورة" للكاتب الروسي ايغور تيموفييف.
الاثنين: حرب حزيران 1967


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.